الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد : فإن كان الرزق مما تكفل الله تعالى به ، فقال I : ] وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ [ هود : 6 ]؛ وكم رأينا من أنواع الحيوانات التي لا تقدر على أي اكتساب ، ومع ذلك يأتيها رزقها في مكانها ، كما قال Y : ] وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [ [ العنكبوت : 60 ] . فإذا كان الأمر كذلك ؛ فإننا نعلم أن الأسباب التي نتسبب بها من مختلف الأعمال كحراثة الأرض ، والبناء ، وأنواع التجارات والوظائف إنما هي أسباب ؛ ولذلك قال الله تعالى : ] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [ فهذا أمر بالسعي على طلب الرزق ، ] وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [ [ الملك : 15 ] ؛هذا فيه دلالة على أن السعي إنما هو سبب ، ولكن الرزق فضل من الله تعالى ؛ ولهذا قال الله تعالى : ] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [ [ الجمعة : 10 ] ، والابتغاء من فضل الله هو طلب الرزق ؛ وكذلك المعنى في قوله تعالى : ] وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [ [ المزمل : 20 ] .
ما لا يفوت وما قد فات مطلبه ... فلن يفوتني الرزق الذي كتبا أسعى لأطلبه والرزق يطلبني ... والرزق أكثر لي مني له طلبا
وقد وسع الله تعالى في طرق الحلال ، وضيق طرق الحرام ، والكسْب مُقيَّد بأن يكون مِن الطُّرُق المَشروعة ، التي ليس فيها مَعصية لله ، ولا مُخالفة لأمره ، ولا ارتكاب لمَا نهى عنه ، أو مُعاونة على معصية ؛ وطُرُق كسب الحلال كثيرة ، وأسبابه مُتنوِّعة ، فلْيَطْلُبُ المسلم رزقه مِن الحلال البعيد عن الْمُحرَّم ، ومتى خلُصت النِّيَّة لله ، فإن الأبواب تَتفتح ، ويُبارِك الله في السعْي . فلْيَلتزم المُؤمن قولَ رسول الله e : " أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : ] يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [ ، وَقَالَ : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [ ( [1] ) . إن قضية الرزق قضية إيمان بأن الله تعالى هو الرزاق ، فيحسِّن المسلم توكله على الله تعالى ، ويتقيه ، ويبتعد عن الذي حرمه Y ، ويلتمس أسباب الرزق فيما أحل الله تعالى له ، مع القناعة برزق الله له .. عندها يعيش سعيدًا ، ويموت كذلك ، بإذن الله الكريم . وفي هذه الرسالة ( آداب طلب الرزق ) أحاول أن أُلِمَّ بجوانب هذا الموضوع المهم ، والله الكريم أسأل العون والسداد والقبول ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وصلى الله على النبي محمد وعلى آله .
قال ابن فارس : الراء والزاء والقاف أُصَيْلٌ واحدٌ ، يدلُّ على عَطاءٍ لوَقت ، ثم يُحمَل عليه غير الموقوت ؛ فالرِّزْق: عَطاء الله جلَّ ثناؤُه ( [1] ) .ا.هـ . يقال : رزق الله الخلق رِزْقًا ورَزْقًا ، ورزقه الله يرزقه : أوصل إليه رزقًا ؛ فالرَزْقُ : ( بالفتح ) مصدر ، و( بالكسر ) اسم الشيء المرزوق ، وهو كل ما ينتفع به ، ويجوز أن يوضع كل منهما موضع الآخر ؛ والرزق : ما ينتفع به مما يؤكل ، ويلبس ، وما يصل إلى الجوف ويتغذى به ؛ وفي التنزيل العزيز : ] فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [ [ الكهف : 19 ] ؛ والرزق : المطر ، قال I : ] وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [ [ الجاثـية : 5 ] ؛ لأنه سبب الرزق والعطاء ، والرزق : العطاء الجاري ؛ يقال : كم رزقك في الشهر ؟ أي : كم راتبك ؛ والجمع : أرزاق . والأرزاق نوعان : أرزاق ظاهرة للأبدان ، كالأقوات . وأرزاق باطنة للقلوب والنفوس ، كالمعارف والعلوم ( [2] ) . وعلى ذلك ، فالرِزق ( بكسر الراء ) اسم عام يشمل كل ما يصلح أن يُرزق ، يعني : أن يُمنح ويُعطى وينتفع به ، فيدخل في ذلك الجاه ، والسلطان ، والعلم ، والصحة ، والعافية ، والمال ، والطعام ، والشراب والملبس ، والمسكن ، والدواب ، والذرية ، وكل ما يحتاجه المرء ؛ فيشمل العطاء الدنيوي والأخروي . والرزق الحسن : هو ما يصل إلى صاحبه بلا كد في طلبه ، وقيل:ماوجدغيرمرتقب، ولا محتسب ، ولا مكتسب . والكفاف من الرزق : ما كف عن الناس ، وأغنى عنهم . وكل ما خلقه الله تعالى في الأرض مما يملك فهو رزق للعباد في الجملة ، بدلالة قوله تعالى : ] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [ [ البقرة : 29 ] .
الرزق نوعان : رزق بسبب ، ورزق بغير سبب ؛ فالأول يجب السعي له ، وله أسباب لجلبه ، كما قال الله I : ] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [ [ الملك : 15 ] ؛ وأمر الله تعالى مريم – رضي الله عنها - فقال : ] وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [ [ مريم : 25 ].
توكلْ على الرحمنِ في كلِ حاجةٍ ... ولا تُؤْثِرَنَّ العجزَ يومًا على الطَلَبْ
ولو شاءَ أن تَجْنِيهِ مِنْ غَيرِ هَزِّها ... جَنَتْه ولكنْ كلُ شيءٍ لهُ سببْ
وأما الذي بغير سبب فهو ما يرزقه الله تعالى عباده من غير تسبب منهم ، وهذا كثير في الحياة ، كالمواريث والهبات والصدقات ونحوها ، وقد يكرم الله تعالى بعض عبيده برزق آخر ، كما في قوله تعالى : ] كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ [ آل عمران : 37 ) .
طلب الرزق يكون بالكسْب : يقال : كسَب يكسِب كسْبًا ، وتكسَّب واكتسب ؛ وفي التنزيل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 267 ] .
وطلب الرزق يكون بالدعاء أيضًا ، ولا ينبغي إلا من الله قال الله تعالى : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } [ العنكبوت : 17 ] ، يقول الطالب : اللهم ارزقني .
قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [ الملك : 15 ] ، فالسبب المأمور به { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } ، ولكن الرزق هو فضل من الله تعالى ، فالأعمال هي فقط سبب في الحصول على الرزق .
وأرزاق بني آدم مكتوبة مقدرة لهم ، وهي واصلة إليهم ، جدُّوا في طلبها أو قصروا .
قال جل جلاله : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ] ؛ أي : بل أنا أرزقهم ، وما خلقتهم إلا ليعبدون . وفي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ ، وَأَجَلِهِ ، وَعَمَلِهِ ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ... " الحديث متفق عليه ؛ فرزق الله لا يجره إليك حرص حريص ، ولا يرده عنك كراهة كاره .
الرزاق من أسماء الله Y ؛ لأنه يرزق الخلق أجمعين ؛ قال الله U : ] وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [ [ هود : 6 ] ؛ وقال I : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [ [ فاطر : 3 ] ، وقال U : ] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ [ يونس :31 ] . فالمنفرد بتقدير الأرزاق ، والمنع والعطاء ، هو الله جل ذكره ؛ وهو سبحانه يرزق بأسباب ومن غير أسباب ؛ لأنه الخالق الرزاق المدبر ، فليس للعبد سبيل في طلب الرزق بعد الأخذ بالأسباب إلا تقوى الله ، قال تعالى : ] وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ [ الطلاق : 2 ، 3 ] . فإذا علم العبد أن الله قائم بالرزق والتدبير ، ومنفرد بالمشيئة والتقدير ، وعلِم - أيضًا - أنه قابض على نواصي الملك ، وله خزائن السماوات والأرض ، وأنه أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ؛ إذا علم العبد ذلك أيقن أن الْمَلِكَ من فوق عرشه كفيل بأمره ورزقه ، فيتوكل عليه وينقطع إليه ، لا يطمع في سواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، عند ذلك يحقق توحيد الله في اسمه الرزاق . ومن هنا قال إبراهيم e لقومه : ] إِنَّ الذينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دَونِ اللّه لاَ يَمْلكُونَ لكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [ [ العنكبوت : 17 ] . فالله سبحانه هو الذي قدَّر أرزاق خلقه قبل خلق السماوات والأرض ، وهو الذي تكفل باستكمالها ولو بعد حين ، فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها ؛ كما أخبرنا الصادق الأمين e ؛ فعند ابن ماجة عَنْ جَابِرِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ؛ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ : خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ " ( [1] ) .
[1]- ابن ماجة ( 2144 ) ، وصححه ابن حبان ( 3239 ، 3241 ) .
الله Yهو الذي تفرد بالخلق ، وهو الذي تفرد بالرزق وحده ، قال الله تعالى : ] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ [ الروم : 40 ] ؛ وقال : U : ] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [ [ سـبأ : 24 ] ؛والآياتفيهذاالمعنىكثيرة. ومعنى قوله U : ] خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [ أي : هو الخالق الرزاق ، يُخرج الإنسان من بطن أمه عريانًا ، لا علم له ، ولا سمع ، ولا بصر ، ولا قوى ، ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك ، ويرزقه الرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب ، كما روى أحمد عَنْ حَبَّةَ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ خَالِدٍ قَالَا : دَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ e وَهُوَ يُعَالِجُ شَيْئًا فَأَعَنَّاهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " لَا تَيْئَسَا مِنَ الرِّزْقِ مَا تَهَزَّزَتْ رُءُوسُكُمَا ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرٌ ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللهُ U " ( [1] ) . ومع وضوح هذا الأمر ، فقد يقول قائل : بل العبد هو الذي يتكسب ، والدواب هي التي تسعى في طلب الرزق ، فإذًا كيف يكون ذلك رزقًا ، ونحن نشاهد أن الإنسان هو الذي يكتسب الرزق ؟! يقول هذا كثير من الناس ، وأكثر من يقوله هم الملاحدة ، حتى يقول بعضهم : إنما ترزقني يميني ؛ ويقول آخرون : هذا بعرق جبيني وكدِّ يميني .. عياذًا بالله . ونسي هؤلاء أن الله I يسر لهم الرزق وهم في أرحام أمهاتهم ، حتى كان يأتيهم الرزق من حيث لا يشعرون ؛ فمن الذي يسَّر ذلك لهم ؟ هل للأبوين تصرف في هذا الجنين حتى يتم خلقه ؟ ليس لهما أدنى تصرف ، إذًا فالذي دبره على هذه الهيئة هو الذي يرزق ، سبحانه وبحمده . فلما خرج إلى هذه الدنيا ، من الذي فجَّر له هذين الثديين من صدر أمه بهذا اللبن اللذيذ الذي يحصل به التغذي ؟! ثم من الذي ألهم هذا الطفل أن يمتص الثديين حتى يحصل على هذا اللبن الذي يتقوت به ؟! إنه الذي يرزق ، سبحانه وبحمده . وبعدما فطم وترعرع من ذينك الثديين ، فتح الله له من أبواب الرزق من الشراب والطعام : اللبن مأخوذ من الحيوان ، والأشربة من الماء ؛ واللحم طعام من الحيوانات التي سخرها الله للإنسان ليأكل من لحومها ، وسائر الأطعمة مما تنبته الأرض ، فالله تعالى هو الذي خلق له ذلك وسخره له ويسره ؛ فله الحمد والمنة . ثم مَنْ الذي يسر أسباب الرزق ؟ مَنْ الذي أنبت هذا النبات حتى أثمر وأينع وأصبح صالحاً للقوت ؟ لو شاء الله تعالى لجعل الأرض حجرًا لا تنبت ، ولو شاء لجعل الأرض كلها ماءً لم يحصل بها هذا النبات ، ولا هذا الاستقرار . بل لو أن الله جعل الأرض كلها ذهبًا ، أو كلها فضة ، هل يحصل الانتفاع بها وتنبت ويأكل الناس ودوابهم ويتقوتون بها ؟ لا ، ما تنفعهم . الله Y جعل الأرض رخوة صالحة للإنبات ، فتبين بذلك أنه سبحانه هو الذي رزقنا ، ولهذا يمتن علينا بأنه هو الذي رزقنا ، ولسنا نحن الذي نرزق أنفسنا . ثم إذا كان الإنسان قد أعطي قوة حتى يتكسب ويجمع المال من هنا ومن هناك ، فمن الذي أعطاه هذا العقل والفكر حتى يتسبب ؟ ومن الذي أعطاه هذه الأدوات وهذه الآلات حتى يسير على قدميه ، وحتى يبطش بيديه ، وحتى يكتسب بهما ؟ أليس هو الذي خلقه ؟! بلى . إذًا فالله تعالى هو الخالق وهو الرزاق ، وإذا كان هو الخالق والرزاق فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له ، سبحانه وبحمده .
[1] - أحمد : 3 / 469؛ورواه ابن ماجة (4165) ، والطبراني في الكبير : 7 / 137( 6610 ) ، وابن حبان كما في موارد الظمآن ( 1088 ) ، والبيهقي في الشعب ( 1349 ) ، وحسنه الحافظ في الإصابة 1 / 304 في ترجمة حبة ، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة .
هذا هو الأدب القلبي العظيم ، الذي يسترزق به المؤمن ما يريده : اليقين بما عند الله ، إيمانا بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ، وثقة بما أخبر عن نفسه Y من أنه الملك ، الوكيل ، الكفيل ، الرزاق ، الخبير البصير بعباده ، اللطيف بهم ، وهو بكل شيء عليم . فلما كان من مقتضى اسمه سبحانه ( الملك ) ملكه لخزائن السماوات والأرض ، وتفرده سبحانه برزق العباد ، وأن خزائنه ملأى لا تنضب ، فإن اليقين بهذا يثمر في قلب العبد تعلقه بربه سبحانه في طلب رزقه ، واطمئنانه إلى ما كتب الله تعالى له ، مع أخذه بالأسباب التي أمر الله تعالى بها في طلب الرزق ، دون تعلق بها . ولما كان من معاني اسميه ( الوكيل ) و ( الكفيل ) : الضامن لرزق عباده ، المتكفل بذلك لهم ؛ فإن الإيمان بهذا يمحو القلق والهلع على الرزق في الدنيا ، ويلقي الطمأنينة والسكينة في قلوب عباده المتوكلين عليه ، ويجعلهم يأخذون بالأسباب المشروعة في طلب الرزق ، وينأون بأنفسهم عن الأسباب المحرمة ،ويرضونبماكتباللهتعالىلهممنالرزق؛ لأنه سبحانه العليم الحكيم الذي يبسط الرزق لمن يشاء ، ويضيق على من يشاء ، فهو خبير بعباده ، وهو بكل شيء عليم ، قال الله تعالى : ] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ [ العنكبوت : 62 ] ، وقال Y : ] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [ [ الإسراء : 30 ] . كما يثمر اليقين بأنه سبحانه المتفرد برزق عباده التوكل الصادق على الله U ، والتعلق به وحده ، مع التماس الأسباب الشرعية في طلب الرزق ، دون التعلق بها ؛ لأنه سبحانه خالق الأسباب ومسبباتها ، وهذا بدوره يثمر الطمأنينة في القلب ، والسكينة ، وعدم الهلع والخوف على الرزق . كما يثمر هذا اليقين ترك الأسباب المحرمة في طلب الرزق ، وعدم الخوف من المخلوق في قطع الرزق ، والاستعلاء على الباطل وأهله عندما يساومون المؤمن على رزقه في ترك الحق أو فعل الباطل . وهذا دأب المنافقين في القديم والحديث ، يقول الله U : ] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [ [ المنافقون : 7 ] . يقول سيد قطب - رحمه الله - عند هذه الآية : وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع ، ولؤم النحيزة ؛ وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان ، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان ؛ ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة - كما هي في حسهم - فيحاربون بها المؤمنين . إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشِعب ، لينفضُّوا عن نصرة رسول الله e ويسلموه للمشركين ! وهي خطة المنافقين -كما تحكيها هذه الآية- لينفضَّ أصحاب رسول الله e عنه تحت وطأة الضيق والجوع ! وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين ، ليموتوا جوعًا ، أو يكفروا بالله ، ويتركوا الصلاة ! وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام ، بالحصار والتجويع ، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق .. وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان ، من قديم الزمان ، إلى هذا الزمان .. ناسين الحقيقة البسيطة التي يُذَكِّرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية : ] وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [ . ومن خزائن الله في السموات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين ، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم ، فما أغباهم ، وأقل فقههم ، وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين ! وهكذا يثبت الله المؤمنين ، ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة ، والوسيلة الخسيسة ، التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم ، ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع ( [1] ) .
( 1 ) انظر ( في ظلال القرآن ) عند الآية ( 7 ) من سورة المنافقون .
قال الله تعالى : ] أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ [ الزمر : 52 ] . جاءت هذه الآية ختامًا لآيات تُصور نموذجًا مكررًا للإنسان ما لم تهتد فطرته إلى الحق وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء . قال الله تعالى : ] فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ . قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [ [ الزمر : 49 - 51 ]. إن الضر يُسْقِط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعرِّيها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود ؛ فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده . حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء ، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء ، وقال عن النعمة والرزق والفضل : ] إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [ .. قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم ، أو صنعة ، أو حيلة ، يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان ، غافلاً عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدر الأرزاق ( [1] ) . إنها صورة مكرورة في حياة البشرية فكرًا وواقعًا ، تشابهت قلوبهم فتشابهت كلماتهم : ] إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [ ؛ وتشابهت نهايتهم ؛ ] أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [ [ القصص: 78 ] ؛ وقال هاهنا : ] قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ ، ( ما ) للجحد ، أي : لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئًا ؛ ] فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [ ، أي : ما هم فائتين الله Y ولا سابقيه ، إنما سيلحقهم جزاؤهم حتمًا بلا ريب . ثم جاءت الآية : ] أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ لتبين الحقيقة الظاهرة ، والتي يغفل عنها هذا الأنموذج الضال ؛ وقال هاهنا : ] أَوَلَمْ يَعْلَمُوا [ مناسبة لما قبله ، وهو ] أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [ ، ] وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [. قال الإمام الطبري - رحمه الله : يقول تعالى ذكره : أولم يعلم - يا محمد - هؤلاء الذين كشفنا عنهم ضرهم ، فقالوا : إنما أوتيناه على علم منا ، أن الشدة والرخاء والسعة والضيق والبلاء بيد الله ، دون كل من سواه ، يبسط الرزق لمن يشاء ، فيوسعه عليه ، ويقدر ذلك على من يشاء من عباده ، فيضيقه ، وأن ذلك من حجج الله على عباده ، ليعتبروا به ويتذكروا ، ويعلموا أن الرغبة إليه والرهبة دون الآلهة والأنداد ؛ ] إِنَّ فِي ذَلِكَ [ يقول : إن في بسط الله الرزق لمن يشاء ، وتقتيره على من أراد ، ] لآيَاتٍ [ ، يعني : دلالات وعلامات ] لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ يعني : يصدقون بالحقِّ ، فيقرُّون به إذا تبينوه وعلموا حقيقته أن الذي يفعل ذلك هو الله دون كل ما سواه .ا.هـ . وقال القرطبي - رحمه الله : خص المؤمن بالذكر ، لأنه هوالذييتدبرالآياتوينتفعبها؛ ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكرًا واستدراجًا ، وتقتيره رفعة وإعظامًا .ا.هـ ( [2] ) . فالله تعالى يوسع الرزق لمن يشاء ، وإن كان لا حيلة له ولا قوة ، امتحانًا ؛ ويضيقه على من يشاء ، وإن كان قويًّا شديد الحيلة ، ابتلاءً ، قال الله تعالى : ] بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ . ونسب لعلي بن أبي طالب t :
للناسِ حِرْصٌ على الدنيا بتَدْبيرِ ... وصَفْوُها لكَ ممزوجٌ بتكديرِ
كم من مُلِحٍّ عليها لا تساعِدُه ... وعاجزٍ نالَ دنياه بتقصيرِ
لم يُرزقوها بعقلٍ حينما رُزقوا ... لكنما رُزِقوها بالمقاديرِ
لو كانَ عن قوةٍ أو عن مُغالبةٍ ... طارَ البُزاةُ بأرزاقِ العصافيرِ
وللشافعي – رحمه الله :
كم من قويٍّ ، قويٍّ في تقلُبِهِ ... مهذبِ الرأي عنهُ الرزقُ منحرفُ
هذا دليلٌ على أن الإله لهُ ... سرٌ خفيٌّ علينا ليسَ ينكشفُ
إن الرزق قضية إيمان ، لا يعيها ويعتقدها ويعمل بمقتضاها إلا صادقو الإيمان ، فلذلك جاء تذييل الآية : ] إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ . هذا ، والعلم عند الله تعالى .
مع أن الله Y كفل رزقه لكل مخلوق – كما تقدم ، إلا أن لطلب الرزق آداب لا بد أن يأتي بها الطالب ، مع يقينه بأن الرزق من عند الله تعالى ، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها ؛ وهاكم آداب طلب الرزق . 1- تقوى الله إن أعظم ما استجلب به رزق الله والبركة فيه : تقوى الله Y ، قال I : ] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ [ الطلاق : 2 ، 3 ] ؛ وقال U : ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [ [ الأعراف : 96 ] ، وقال تعالى : ) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون ( [ النحل : 97 ] . والتقوى هي فعل المأمورات ، وترك المنهيات مع الحذر منها ؛ كالذي يمشي فوق أرض من الشوك :
خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها فهو التقـــى
واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـرن صغيـرة ... إن الجبال من الحصى
وليست العبرة بكثرة الرزق ، ولكن العبرة بالبركة فيه ؛ وقد يحرم الله U عبده المؤمن شيئًا من الدنيا رحمة به ورفقًا ولطفًا ؛ وليست الدنيا دار جزاء .. بل هي دار ابتلاء ؛ ولله در القائل :
ولو كانت الدنيا جزاءً لمحسن ... إذًا لم يكن فيها معاشٌ لظالم
لقد جاعت فيها الأنبياء كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم
2 – التوكل على الله حق التوكل ، مع التماس الأسباب :
تقدم الحديث عن ذلك ؛ وحديث النبي صلى الله عليه وسلم " لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا " ؛ فذكر لها غدوا ورواحا ، أي : سعيًا .
وقال الله تعالى لمريم – رضي الله عنها : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } [ مريم : 25 ] ؛ وهو جل جلاله القادر على إسقاط الرطب لها دون هزٍّ ولا تعب .
3 - الاستغفار :
هذا أدب للرزق الواسع بجميع أنواعه ؛ قال تعالى مخبرًا عن نوح - عليه السلام - عندما خاطب قومه يدعوهم إلى الله : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا } [ نوح : 10 – 12 ] .
قال الشعبي : خرج عمر يستسقي ، فلم يزد على الاستغفار ؛ فقالوا : ما رأيناك استسقيت ! فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء ، الذي يستنزل به المطر ، ثم قرأ : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } ، و { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } [ هود : 52 ] ( 1 ) ؛ فمن أكثر من الاستغفار كان من أهل هذه الآيات .
قال ابن الأثير - رحمه الله : مجاديح ، واحِدُها مِجْدَح ، وهو نَجْم من النجوم ؛ قِيلَ : هو الدَّبَران ، وقيل : هو ثلاثة كواكب كالأثَافِي تَشْبِيهًا بالمِجْدح الذي له ثلاث شُعَب ؛ وهو عند العرب من الأنْواء الدَّالَّة عَلَى المَطر ، فَجعل الاستِغفار مُشَبَّهًا بالأنواء ، مُخاطَبَة لهم بما يعرفونه ، لا قوْلاً بالأنْواء ؛ وجاء بلفظ الجمْع لأنه أراد الأنْواء جَمِيعَها ، التي يَزْعُمون أنَّ من شأنِها المَطَر ( 2 ) .
________
1 ) رواه عبد الرزاق ( 4902 ) ، وسعيد بن منصور ( 1095 ) ، وابن أبي شيبة ( 8343 ، 29485 ) ، وابن سعد 3 / 320 ، وابن جرير : 29 / 59 ، من طرق عن الشعبي أن عمر خرج يستسقي فذكره .
2 ) انظر ( النهاية في غريب الحديث والأثر ) مادة ( ج د ح ) .
5 - التبكير في طلب الرزق :
من آداب طلب الرزق البكور في السعي ، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في بكورها ؛ فعند أحمد وأهل السنن عنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " الّلهُمّ بَارِكْ لأمّتِي في بُكُورِهَا " ؛ وكانَ إذَا بَعَثَ سَرِيّةً أوْ جَيْشًا ، بَعَثَهُمْ أوّلَ النّهَارِ ؛ وكانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا ، وكانَ إذَا بَعَثَ تِجَارَةً بَعَثَهُمْ أوّلَ النّهَارِ ، فَأَثْرَى وكَثُرَ مَالُهُ ( 1 ) .
________
1 ) رواه أحمد : 4 / 384 ، وأبو داود ( 2606 ) ، والترمذي ( 1212 ) ، والنسائي في الكبرى ( 8833 ) ، وابن ماجة ( 2236 ) .
9 - الإنفاق في سبيل الله :
هذا من الأدب الذي يُستجلب به ما عند الله تعالى من الخير والرزق ، قال تعالى : } وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ { [ سـبأ : 39 ] ؛ وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ فالجزاء من جنس العمل .
وفيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ؛ وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا "[SUP] ( [2] ) [/SUP]؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " أنفقْ بلال ، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً " [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] .
10 - البعد عن المحرمات :
قد حرَّم الله تعالى الربا ، والغش في المعاملات ، والكذب في البيع ، وأكل أموال الناس بالباطل بجميع أنواعه ؛ فليعلم المسلم أن هذه الأشياء من موانع الرزق ، ومن أسباب محق البركة في كل ما يملك .
جمع الحرام إلى الحلال ليكثره ... دخل الحرام على الحلال فبعثره
ولَمَّا كانت الطاعة يُستجلب بها الرزق والبركة ، كانت المعصية باب إلى نقص الرزق أو بركته ، أو كون الرزق بابًا للعاصي إلى النكد والشقاء ؛ قال عز وجل : ] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَارَغَدًامِنْكُلِّمَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [ [ النحل : 112 ] ؛ وروى أحمد وابن ماجة وغيرهما عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ" ( [1][SUP] ) [/SUP].
وروى أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : } فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ { [SUP]( [2] )[/SUP] .
[1] - رواه أحمد : 5 / 277 ، 280 ، 282 ، وابن ماجة ( 90 ، 4022 ) ؛ والطبراني في الكبير : 2 / 100 ( 1442 ) ، وابن حبان ( 872 ) ، والحاكم : 1 / 493 ، وصححه ووافقه الذهبي .
[2] - أحمد : 4 / 145 ، وفيه رشدين بن سعد ، وهو ضعيف ، لكن تابعه حرملة وابن لهيعة عند ابن أبي حاتم ( 7288 ) من رواية عبد الله بن وهب عنهما ، وإسناده حسن ، ورواه ابن جرير : 7 / 124 ، عن أبي الصلت عن حرملة عن عقبة به ، وعن محمد بن حرب عن ابن لهيعة عن عقبة به ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 17 / 330 ( 913 ) ، والأوسط ( 9272 ) ، والخرائطي في فضيلة الشكر ( 70 ) ، والبيهقي في الشعب ( 4540 ) ، عن عبد الله بن صالح عن حرملة ، فالحديث بمجموع طرقه صحيح .
11 - القناعة برزق الله له :
هذا أدب عظيم ، يدل على رفعة النفس وكمالها ، وهو سبب سعادتها في الدنيا والآخرة ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافًا ، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وروى أحمد والترمذي عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ t أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا ، وَقَنَعَ "[SUP] ( [2] )[/SUP] .
الكفاف : الكفاية بلا زيادة ولا نقص ؛ والْقَنَاعَةُ : الرِّضَا بِالْقَسْمِ ، يُقَالُ : قَنَعَ الرَّجُلُ قَنَاعَةً ، إِذَا رَضِيَ ؛ وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ :
وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا ... وَإِذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يدعو بين الركن والمقام ، يقول : " اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي ، وَبَارِكْ لِي فِيهِ ، وَاخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
خذ القناعة من دنياك وارض بها ... يكفيك منها خليلي راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة ، وهو جهد مَنْ بضاعته مزجاة ، وعمل البشر محفوف بالنقص .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
ومع ذلك فإني أطمع في فضل الله تعالى وكرمه أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .