محمد محمود إبراهيم عطية
Member
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتقبل
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :رب يسر وأعن وتقبل
فالمزاح حال من أحوال البشر ، يستروحون به النفوس ، ويستعينون به على الجدِّ ، وقد قال الله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم : 43 ] .
والمباح من المزاح ما فيه تطييب النفوس واسترواحها ؛ فالنوادر رواحة ، وبها للمكدود استراحة ، لا سيما إذا أثقله عبءُ الجِدِّ ، وعاد باحتماله كليل الحدِّ ؛ وهي صادرة عن مزح قد رخص فيه ، ودعابة لم يخل منها كل شريف ونبيه ؛ ولا بأس بها ما لم تكن سفهًا ، ولا فيها إيذاء وخروج عن اللياقة في القول والفعل ، والله تعالى قد وعد في اللمم بالتجاوز والعفو ؛ فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [ لنجم : 32 ] .
فالمزاح بما يَحْسُن مباح ، وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل إلا حقًًّا ؛ ومزح أصحابه رضي الله عنهم ، ومن بعدهم من العلماء وأهل الفضل ، اتباعًا لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ولم يخرجوا عن حدِّ الأدب في مزاحهم ؛ وقد قيل : الناس في سجن ما لم يمازحوا .
قال ابن قتيبة - رحمه الله : وكان الناس يأتسون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتدون بهديه وشكله ، لقول الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ؛ فلو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الطلاقة والهشاشة والدماثة إلى القطوب والعبوس والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك ، على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء ؛ فمزح e ليمزحوا ، ووقف على أصحاب الدركلة ( الحبشة ) وهم يلعبون ، فقال : " خُذُوا يَا بَنِي أَرْفِدَةَ ، لِيَعْلَمَ اليَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ يريد ما يكون في العرسات لإعلان النكاح ، وفي المآدب لإظهار السرور .
وأما قوله : " ما أنا مِنْ دَدٍ ، وَلاَ الدَدُ مِنِّى "[SUP] ( [2] ) [/SUP]، فإن الدد اللهو والباطل ؛ وكان يمزح ولا يقول إلا حقًّا ، وإذا لم يقل في مزاحه إلا حقًّا ، لم يكن ذلك المزاح ددًا ولا باطلا ؛ قال لعجوز : " إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا العُجُزُ " ، يريد أنهن يعدن شوابًا ؛ وقال صلى الله عليه وسلم لأخرى : " زُوجُكِ فِي عَيْنَيهِ بَيَاضٌ " ، يريد ما حول الحدقة من بياض العين ، فظنت هي أنه البياض الذي يغشى الحدقة ؛ واستدبر رجلا من ورائه ، وقال : " مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ " يعني أنه عبد الله ؛ ودين الله يسر ، ليس فيه - بحمد الله ونعمته - حرج ... إلى أن قال : وقد درج الصالحون والخيار على أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبسم والطلاقة والمزاح بالكلام ، المجانب للقدع والشتم والكذب ؛ فكان علي t يكثر الدعابة ، وكان ابن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه ؛ وقال جرير في الفرزدق :
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزًا ... ولو رضيت رمح إسته لاستقرت
وقال الفرزدق ، وتمثل به ابن سيرين نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
أسنانها مائة أو زدن واحدة ... وسائر الخلق منها بعد مبطول
وسأله رجل عن هشام بن حسان ، فقال : توفي البارحة ، أما شعرت ؟ فجزع الرجل واسترجع ؛ فلما رأى جزعه ، قرأ : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] ؛ وكان زيد بن ثابت من أزمت الناس إذا خرج ، وأفكههم في بيته ؛ وقال أبو الدرداء : إني لاستجم نفسي ببعض الباطل ، كراهة أن أحمل عليها من الحق ما يملها ؛ وكان شريح يمزح في مجلس الحكم ، وكان الشعبي من أفكه الناس ، وكان صهيب مزَّاحًا ؛ وكان أبو العالية مزَّاحًا .أسنانها مائة أو زدن واحدة ... وسائر الخلق منها بعد مبطول
وكل هؤلاء إذا مزح لم يفحش ، ولم يشتم ، ولم يغتب ، ولم يكذب ، وإنما يذم من المزاح ما خالطته هذه الخلال أو بعضها .ا.هـ [SUP]( [3] ) [/SUP].
وكان أصحاب رسول الله يمزحون بحضرته صلى الله عليه وسلم ، وكذلك مَنْ بعدهم من التابعين والعلماء والأئمة كانوا يمزحون .
قال أبو حاتم البستي في ( روضة العقلاء ) : الواجب على العاقل أن يستميل قلوب الناس إليه بالمزاح وترك التعبس ؛ والمزاح على ضربين : فمزاح محمود ، ومزاح مذموم ؛ فأما المزاح المحمود فهو الذي لا يشوبه ما كره الله عز وجل ، ولا يكون بإثم ولا قطيعه رحم .
وأما المزاح المذموم فالذي يثير العداوة ، ويذهب البهاء ، ويقطع الصداقه ، ويجريء الدنيء عليه ، ويحقد الشريف به[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وقد صنف العلماء في المزاح وما يتعلق به ، ومن أقدم من صنف في ذلك الزبير بن بكار - رحمه الله - في كتاب ( الفكاهة والمزاح )[SUP] ( [5] ) [/SUP]، ومنهم ابن عبد البر - رحمه الله - في ( بهجة المجالس وأنس المجالس ) ، ومنهم الغزالي - رحمه الله - في ( الإحياء ) ، والماوردي - رحمه الله - في ( أدب الدنيا والدين ) , وللغزي الشافعي - رحمه الله - كتاب بعنوان : ( المراح في المزاح ) ، وغير هؤلاء كثير .
وفي هذه الرسالة ( آداب المزاح ) جمعٌ لعيون مسائله ونوادره ؛ والله الكريم أسأل العون والسداد ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا ربَّ غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1] - رواية الإمام أحمد في قصة مشاهدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للعب الحبشة : إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e يَوْمَئِذٍ : " لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً ، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ " ، رواها في المسند : 6 / 116 ، 233 .
[2] - رواه البخاري في الأدب المفرد ( 785 ) بلفظ : " لَسْتُ مِنْ دَدٍ ، وَلاَ دَدٌ مِنِّى " ، وصححه الألباني .
[3] - انظر ( تأويل مختلف الحديث ) ص 292 – 295 .
[4] - روضة العقلاء ص 77 .
[5] - ذكره ابن حجر في ( فتح الباري ) : 12/ 65 .