آداب المجالس

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فقد عرفت المجتمعات منذ القديم المجالس ، وهي أماكن تُعَد للجلوس والحديث ، وقد يكون بها مصالح أخرى كالصلح بين المتخاصمين .. ونحو ذلك .
وقد كانت مجالس العرب على الطرقات ، لأن البيوت لم تكن تتسع لها ، فلمَّا نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ " ؛ قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : " غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
وقد تكلمنا في رسالة ( آداب الطريق ) عن هذه الحقوق وغيرها .
والمجالس مجتمعات مصغرة ، يحضرها أناس من طبقات عدة ، ويتكلم فيها رجال مختلفي المشارب ؛ فمنهم الصالح ومنهم الطالح ، ومنهم المصلح ومنهم المفسد ، والعاقل من يدير دفة المجلس لما فيه خير المجلس في دينهم ودنياهم ، فإن لم يستطع ، فالإعراض عن ذلك المجلس هو محض الخير ، وعين الصواب ؛ لأنه يسلم مما فيه من الإثم ، خاصة إذا كان فيه استهزاء بشيء من الدين ؛ فقد قال تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ النساء : 140 ] ؛ وقال عزو جل : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 68 ] .
فلا ينبغي للمسلم أن يجلس مجلسًا تنتهك فيه لله حرمات ، وتدور فيه كؤوس الإثم واللغو والمنكرات ، يشاركهم فيه ضحكهم ولهوهم وأكلهم وشربهم ، ويشركهم في الإثم ، غير مبال بما ينزل على مجلسهم هذا من غضب الله ومقته .
ولكن يمكن له أن يغشاهم لنصحهم وأمرهم ونهيهم ، بقدر الحاجة ، وبما يحقق المصلحة والإصلاح ؛ وليحذر أن يجالسهم وهم في معاصيهم ومنكراتهم بلا أمر ولا نهي ؛ فإن ذلك مما لعن الله تعالى عليه بني إسرائيل ؛ قال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
ومجالس الناس اليوم قَلَّ أن تجد فيها مجلسًا يُذكر فيه الله تعالى والدار الآخرة ، بل عمَّت كثيرًا من المجالس الغفلة والمنكرات ، وفشت الغيبة والنميمة والطعن في الأعراض ، والاستخفاف بالمحرمات ؛ فبئست هذه المجالس ، وبئس جالسوها .
وهناك مجالس أخرى تحفها الملائكة ، وتغشاها الرحمة ، ويذكرهم الله فيمن عنده ، ولا يشقى بهم جليسهم ، ويقال لهم : قوموا مغفورا لكم .. تلك مجالس العلم والذكر ، وسواء أكانت في المساجد أم في البيوت ؛ فنعمت المجالس ، ونعم جالسوها .
وهناك مجالس اختلط فيها الحديث بين دين ودنيا ، ولم يخرج أهلها عنها إلا مع ذكر واستغفار ، فهم فيها يناقشون بعض أمور دنياهم ، ولا ينسون خالقهم ؛ لا يغتابون أحدًا ، ولا يذكرون أحدًا بسوء ، ثم ينفضُّون عنها بكفارة المجلس . فهذه وإن كانت دون السابقة ، ففيها خير وفائدة .
تلك أنواع المجالس ، أما ما يتعلق بآدابها ، ففيها تتجلى جميع آداب المسلم الاجتماعية ، وقد علَّمنا الإسلام آدابًا جليلة للمجالس ، فأمر الله عز وجل بالتوسع والتفسح في المجالس للقادمين إليها ، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم لها آدابًا تُبِينُ عن عظمة هذا الدين ؛ من إلقاء السلام عند دخول المجلس وعند الخروج منه ، والجلوس حيث انتهى به المجلس ، وألا يقيم أحدًا ليجلس مكانه ، وألا يتناجى اثنان دون الآخر ، وأن تحفظ أسرار المجلس ، وأن يختم المجلس بالدعاء وكفارة المجلس ... إلى غير ذلك من الآداب التي هي موضوع حديثنا في هذه الرسالة ( آداب المجالس ) ، ونتناول فيها الحديث حول المحاور الآتية :
معنى المجالس .
أثر الجليس .
أنواع المجالس .
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أهمية المجالس .
منكرات المجالس .
آداب المجالس .
خاتمة .
والله الكريم اسأل أن يتقبلها ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، وأن ينفع بها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ن ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية​


[1] - البخاري ( 2333 ، 5875 ) ، ومسلم ( 2121 ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
 
معنى المجلس
المَجلِس موضع الجُلُوس ومكانه ، يقال : جلس الإنسان جلوسًا ومجلسًا : قعد ؛ وجالَسه : جلس معه ، فهو مجالس وجليس ، وتجالسوا : جلس بعضهم مع بعض .
والمَجْلِس - أيضًا : جماعة الجُلُوس ؛ وقد يطلق على الطائفة من الناس تخصص للنظر فيما يناط بها من أعمال ؛ ومنه : مجلس الشعب ، ومجلس العموم ، ومجلس الأعيان ، والمجلس الحسبي[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وحديثنا عن جماعة الجلوس العامة التي لا يناط بها أعمال ، وإنما يجتمعون للحديث ، وربما يتناولون ما يهتمون به من قضايا .
المجلس هو مجتمع يضم فئات من الناس ، تربطهم علائق وروابط ووشائج خاصة ، وهو رمز من رموز الترابط بين المسلمين .

[1] - انظر لسان العرب باب السين فصل الجيم ، والمعجم الوسيط ( باب الجيم ) : 1 / 130 .
 
أنواع المجالس
روى ابن أبي شيبة عن خالد بن رباح ( أخي بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه سلم ) قال : الناس ثلاثة أثلاث : فسالم ، وغانم ، وشاجب ؛ قال : السالم : الساكت ؛ والغانم : الذي يأمر بالخير ، وينهى عن المنكر ، فذلك في زيادة من الله ؛ والشاجب : الناطق بالخنا ، والمعين على الظلم[SUP] ( [1] ) [/SUP]. قال ابن الأثير - رحمه الله : شاجِبٌ : أي : هالِك ؛ يقال : شجَب يشجُب فهو شاَجِب ، وشجِبَ يَشْجَب فهو شَجِب ؛ أي : إمَّا ساَلمٌ من الإِثم ، وإما غانمٌ للأجْر ، وإما هالِكٌ آثمٌ[SUP] ( [2] ) [/SUP].ا.هـ . وفي ( شعب الإيمان ) للبيهقي عن قتادة قال : كان يقال : المجالس ثلاثة : غانم ، وسالم ، وشاجب ؛ فالغانم : الذي يذكر الله ، والسالم : الساكت ، والشاجب : الذي يخوض في الباطل[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وعلى ذلك مجالس الناس ، بحسب أصنافهم ؛ واختلاف هذه الأصناف ، فإن كثر الصنف الأول ، فهو مجلس سالم ، وإن كثر الصنف الثاني ، فهو مجلس غانم ، وإن كثر الصنف الثالث ، وليس فيه ممن يأمر بالخير وينهى عن المنكر ، فهو مجلس آثم .
ويمكن أن تقسم المجالس بحسب مقاصد أصحابها ، إلى مجالس دنيوية ، ومجالس دينية ، فالمجالس الدينية هي : مجالس الذكر والعلم ، يذكر فيها الله تعالى ، ويؤمر فيها بالمعروف ، وينهى فيها عن المنكر ، وتعمر بتقوى الله تعالى ؛ وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة .
وأما المجالس الدنيوية فتقسم إلى مجالس مباحة ، ومجالس سوء ، بحسب أقوال وأفعال من يجلس فيها ؛ فإن كانت أقوالهم وأفعالهم من المباحات ، فهي مجالس مباحة ، غير أنه يحذر من طولها لأن الشيطان يتربص بأهلها ، فقد يوقعهم في المكروه وفي الحرام ؛ روى أبو نعيم في الحلية عن الزُّهْريِّ - رحمه الله - قال : إذَا طالَ المجلسُ ، كانَ للشَّيطانِ فيهِ نَصيبٌ[SUP] ( [4] ) [/SUP].
ويمكن تقسيم مجالس الدنيا بحسب اهتمامات أهلها وأعمالهم الدنيوية ؛ فمجالس التجار يكثر فيها أخبار البضائع ، والصفقات ، والأسعار ، والبيع والشراء ، والزبائن ، ومشاكل العمال .
ومجالس الموظفين يكثر فيه الحديث عن الدوام ، ومشاكل المراجعين ، وأخبار الصحف ، والأنظمة ، والبدلات ، والتنقلات ، والعلاوات ، واللجان ، والانتدابات .
ومجالس الطلاب يغلب عليها الحديث عن الدراسة ، ومشاكل المذاكرة ، والأسئلة ، والامتحانات ، والدرجات ، والشهادات ، وطموحات التخرج والوظائف .
ومجالس النساء تُشغل بالحديث عن الموضات ، والملابس ، والأكلات ، ومشاكل الأزواج ، والحفلات والأعراس ، وحال الأسواق .
وهذا القسم من المجالس يُذمُّ إذا لم يكن فيه ذكر الله تعالى ، ولا الصلاة على رسوله صلى الله عليه سلم ، فقد روى أحمد وأبو داود والنسائي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه سلم : " مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً "[SUP] ( [5] ) [/SUP]؛ وفي رواية لأحمد والترمذي : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً " والترة : الحسرة والندامة ؛ وفي رواية لأحمد : " إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِنْ شَاءَ آخَذَهُمْ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ " ، ورواية الترمذي : " إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَإِنْ شَاءَ عَذَبَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ "[SUP] ( [6] )[/SUP] .
وروى النسائي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه سلم قَالَ : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا ، فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ صَلاَةٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه سلم ، إِلاَّ تَفَرَّقُوا عَلَى أَنْتَنِ مِنْ رِيحِ الْجِيفَةِ[SUP] ( [7] )[/SUP] .
وروى - أيضًا - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : مَا جَلَسَ قَومٌ مَجْلِسًا ، لَمْ يُصَلَّ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه سلم ، إِلا كَانَتْ عَلَيْهم حَسْرَةَ ، وَاِنْ دَخَلُوا الْجَنةَ [SUP]( [8] )[/SUP] .
والمذموم المحظور هو أن يكون شغل الجالسين الشاغل من أول المجلس إلى نهايته هو الكلام عن الدنيا ، لدرجة أنك لا تسمع في المجلس آية واحدة ، ولا حديثًا واحدًا ، ولا حتى كفارة المجلس ، ولا ذكر لله تعالى بأي نوع من أنواع الذكر .
وأما مجالس السوء ، فهي التي غالبها سوء الأقوال وسوء الفعال ، وليس فيها ذكر لله ، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ، فيغلب عليها اغتياب الناس ، وذكر مساوئهم ، ومشاهدات غير مباحة عبر التلفاز وغيره من الأجهزة .
وهذا النوع من المجالس يحرم الجلوس فيه ، إلا على من يقوى على الإنكار عليهم ، ويحاول إصلاح المجلس ، فيجلس بقدر الحاجة ، وينصرف .


[1] - مصنف ابن أبي شيبة (35579) ، وصححه الألباني في ( الضعيفة ) : 5 / 149 ؛ وجاء نحوه مرفوعًا من حديث ابن لهيعة : حَدَّثَنَا دراج ، عن أبى الهيثم ، عن أبى سعيد رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه سلم قَالَ : " إِنَّ الْمَجَالِسَ ثَلاثَةٌ : سَالِمٌ ، وَغَانِمٌ ، وَشَاجِبٌ " ؛ رواه أحمد : 3 / 75 ، وأبو يعلى ( 1062 ) ، وقال الهيثمي في ( المجمع : 1 / 129 ) : فيه ابن لهيعة ، وهو ضعيف .ا.هـ . ورواه ابن حبان ( 585 ) ؛ ومداره على درَّاج أبي السمح عن أبي الهيثم ، ودرَّاج ضعيف في أبي الهيثم .

[2] - النهاية في غريب الحديث والأثر ، مادة ( ش ج ب ) .

[3] - شعب الإيمان ( 10815 ) .

[4] - حلية الأولياء : 3 / 366 ، وأورده الذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) : 5 / 341 .

[5] - أحمد : 2 / 289 ، 515 ، وأبو داود ( 4855 ) ، والنسائي في الكبرى ( 10236 ، 10241 ) ، وصححه الألباني .

[6] - أحمد : 2 / 452 ، 484 ، والترمذي ( 3380 ) وقال : حسن صحيح .ا.هـ . وصححه الألباني .

[7] - النسائي في الكبرى ( 9886 ، 10244 ) ، ورواه أيضًا في ( اليوم والليلة ) رقم 58 ، 411 .

[8] - النسائي في الكبرى ( 10243 ) ، ورواه أيضًا في ( اليوم والليلة ) 410 موقوفًا ، وهو لا يقال من جهة الرأي ، فيأخذ حكم المرفوع ، ويشهد له ما سبق .
 
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ( طبقات ابن سعد ) عن الحسين بن علي رضي الله عنه أنه سأل أباه رضي الله عنه ، فكان مما سأله : قال : وسألته عن مجلسه صلى الله عليه وسلم ، كيف كان يصنع فيه ؟
فقال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يَجْلِسُ وَلا يَقُومُ إِلا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، لا يُوَطِّنُ الأَمَاكِنَ ، وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بنصِيبِهِ ، لا يَحْسِبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ ؛ مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفُ ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلا بِهَا ، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ ؛ قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا ، وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً ، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبَرٍ وَأَمَانَةٍ ، لا تُرْفَعُ فِيهِ الأَصْوَاتُ ، وَلا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرُمُ ، وَلا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ ، مُتَعَادِلِينَ ، يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ بِالتَّقْوَى ؛ مُتَوَاضِعِينَ ، يُوَقِّرُونَ الْكَبِيرَ ، ويَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ ، وَيُؤْثِرُونَ ذَوِيَ الْحَاجَةِ ، ويَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ .
قَالَ : قُلْتُ :كَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي جُلَسَائِهِ ؟
قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَائِمَ الْبِشْرِ ، سَهْلَ الْخَلْقِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ ، وَلا غَلِيظٍ ، وَلا صَخَّابٍ ، وَلا فَحَّاشٍ ، وَلا غَيَّابٍ ، وَلا مَدَّاحٍ ؛ يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يَشْتَهِي ، وَلا يُوئَيسُ مِنْهُ ، وَلا يَخِيبُ فِيهِ ؛ قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ : الْمِرَاءِ ، وَالإِكْثَارِ ، وَمَا لا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاثٍ : كَانَ لا يَذِمُّ أَحَدًا ، وَلا يُعِيِّرُهُ ، وَلا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ ؛ وَلا يَتَكَلَّمُ إِلا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ ، كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا ، وَلا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ ؛ مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ حَدِيثُهُمْ ، حَديثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيهِمْ ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ ، وَيَقُولُ : إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ ، وَلا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلا عَنْ مُكَافَأةٍ ، وَلا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُورَ ، فَيَقْطَعُهُ بنهْيٍ أَوْ قِيَامٍ [SUP]( [1] ) [/SUP]. وقوله : ( وَلا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلا عَنْ مُكَافَأةٍ ) أي : إذا أنعم على رجلٍ نعمةً ، فكافأه بالثناء عليه ، قبل منه ، وإذا أثنى عليه قبل أن ينعم عليه لم يقبله ؛ وقيل : المعنى أنه كان لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة إسلامه ، ولا يدخل عنده في جملة المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فإذا كان المثني عليه بهذه الصفة ، قَبِلَ ثناؤه ، وكان مكافئًا ما سلف من نعمة النبي صلى الله عليه وسلم عنده ؛ وَقَوْلُهُ : ( لا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ ) الْفَلَتَاتُ : السَّقَطَاتُ ، أي : لا تذاع ولا تشاع فلتاته ، أي : زلاته ، معناه : لم يكن في مجلسه فلتاتٌ فتنثى [SUP]( [2] ) [/SUP].


[1] - انظر طبقات بن سعد : 1 / 424 ، ورواه الطبراني في الكبير : 22 / 155 ( 414 ) ، والبيهقي في الشعب ( 1430 ) .

[2] - انظر ( شرح السنة ) للبغوي : 13 / 281 ، 282 .
 
أثر الجليس
لا يتنازع اثنان في أن للجليس أثرًا على جليسه إيجابًا أو سلبًا ، وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ذلك بيانًا شافيًا ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً "[SUP] ( [1] ) [/SUP]. قال النووي - رحمه الله : فِيهِ تَمْثِيله صلى الله عليه وسلم الْجَلِيس الصَّالِح بِحَامِلِ الْمِسْك , وَالْجَلِيس السُّوء بِنَافِخِ الْكِير , وَفِيهِ فَضِيلَة مُجَالَسَة الصَّالِحِينَ وَأَهْل الْخَيْر وَالْمُرُوءَة وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَالْوَرَع وَالْعِلْم وَالْأَدَب , وَالنَّهْي عَنْ مُجَالَسَة أَهْل الشَّرّ وَأَهْل الْبِدَع , وَمَنْ يَغْتَاب النَّاس , أَوْ يَكْثُر فُجْرُهُ وَبَطَالَته ؛ وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاع الْمَذْمُومَة .ا.هـ .
فلا تجالس فاسقًا مصرًّا على معصية كبيرة ، وسواء أكانت هذه الكبيرة واحدة الكبائر أم كانت إصرارًا على الصغائر ؛ لأن من يخاف الله لا يصر على معصية ، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله ، بل يتغير بتغير الأحوال والأعراض ، قال الله تعالى لنبيه { : صلى الله عليه وسلم وَلا تُطِع مَن أَغفَلْنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطا } [ الكهف : 28 ] .
وينبغي أن يُعلم أن المجالسة - في عصرنا هذا - لا تقتصر على الأشخاص ، فإن من الأجهزة المعاصرة كالتلفاز والكومبيوتر ما يقوم بأشد مما تقوم به مجالسة الفاسق ، فليحذر العاقل ذلك أشد من حذره من مجالسة الأشرار من الناس .
قال الغزَّالي - رحمه الله - في ( بداية الهداية ) : فاحذر صحبة الفاسق ؛ فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية ، وتهوِّن عليك أمرها ، ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها ، ولو رأوا خاتمًا من ذهب ، أو ملبوسًا من حرير على فقيه ، لاشتد إنكارهم عليه ، والغيبة أشدُّ من ذلك .ا.هـ .


[1] - البخاري ( 2101 ، 5534 ) ، ومسلم ( 2628 ) واللفظ له .
 
أهمية المجالس
تعد مجالس الناس مرآة المجتمع ، فما يدور في أذهانهم من أفكار وتصورات وآراء تطرح في مجالسهم ، وهي - في الغالب - تعكس صورة المجتمع الذي يعيشون فيه .
ولا شك أن للمجالس تأثير ملحوظ على عقول الناس ، وأن ما يحدث في المجلس ينعكس سلبًا أو إيجابًا داخل الأسرة ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، إذ الجلوس ينقلون ما يكون في المجلس إلى بيوتهم ، إما بالحديث ، وإما بفعل ما تأثروا به ، فيرى أهل البيت عليه من الأفعال والسلوك ما يتأثرون هم به أيضًا .
والمجالس فرصة خير لمن أراد الله تعالى به خيرًا ، فمن أراد الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ؛ يعمر المجلس به وبمن يجالسه بذكر الله والفضائل ؛ وهي على النقيض مَحِلٌ للازدياد من الشر والسيئات ، لمن أغواه عدو الله إبليس وجعله من جنده وأعوانه ، فتجد مجالسهم لا خير فيها ، ولا ذكر لله تعالى .
فالاهتمام بأمر المجالس له دور عظيم في إصلاح المجتمع ؛ إذ بصلاح المجلس ؛ يصلح جلساؤه ، ويعود ذلك على المجتمع بالصلاح والفائدة .
 
حرص السلف على مجالسة الصالحين
كان سلفنا الصالح حريصين على مجالسة الأخيار ، الذين ينتقون أطايب الكلام ، روى ابن المبارك في ( الجهاد ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لولا ثلاث : لولا أن أسير في سبيل الله عز وجل ، أو يُغبر جبيني في السجود ، أو أقاعد قومًا ينتقون طيب الكلام كما يُنتقى طيب الثمر ، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله تعالى[SUP] ( [1] ) [/SUP].
روى ابن المبارك في ( الزهد ) ، وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يومًا واحدًا : الظمأ لله بالهواجر ، والسجود في جوف الليل ، ومجالسة قوم ينتقون من خيار الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وكان مما أوصى أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه حين أمَّره : .. ولا تجالس العباثين ، وجالس أهل الصدق والوفاء[SUP] ( [3] ) [/SUP].
دخل أبو مسلم الخولاني ذات يوم المسجد ، فنظر إلى نفر قد اجتمعوا ، فَرَجَا أن يكونوا على ذكرِ خيرٍ ، فجلس إليهم ؛ فإذا بعضهم يقول : قدم غلامي ، فأصاب كذا وكذا ، وقال آخر : جهزت غلامي ؛ فنظر إليهم ، فقال : سبحان الله ! أتدرون ما مَثَلي ومثلُكم ؟ كرجل أصابه مطرٌ غزيرٌ وابلٌ ، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين ، فقال : لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني هذا المطر ، فدخل فإذا البيت لا سقف له ؛ جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكرٍ وخيرٍ ، فإذا أنتم أصحاب الدنيا ؛ فقام عنهم[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وفي صحيح البخاري عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : قَدِمْتُ الشَّامَ ، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قُلْتُ : اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ، فَأَتَيْتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ ، فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي ، قُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : أَبُو الدَّرْدَاءِ ، فَقُلْتُ : إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ، فَيَسَّرَكَ لِي ؛ قَالَ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، قَالَ : أَوَلَيْسَ عِنْدَكُمْ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ ، صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادِ وَالْمِطْهَرَةِ ؟ وَفِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ؟ ( يَعْنِي عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ) أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ ... الحديث[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وروى الترمذي والنسائي عَن حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ قَالَ : قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ، فَقُلْتُ : اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ، قَالَ : فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَقُلْتُ : إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي جَلِيسًا صَالِحًا ... الحديث[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وروى الترمذي والنسائي عَن خَيْثَمَةَ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ : أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ ، فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ، فَيَسَّرَ لِي أَبَا هُرَيْرَةَ ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ، فَوُفِّقْتَ لِي ، فَقَالَ لِي : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، جِئْتُ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ وَأَطْلُبُهُ ، قَالَ : أَلَيْسَ فِيكُمْ سعد بن مَالِكٍ مُجَابُ الدَّعْوَةِ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبُ طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَعْلَيْهِ ، وَحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَعَمَّارٌ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ، وَسَلْمَانُ صَاحِبُ الْكِتَابَيْنِ ؛ قَالَ قَتَادَةُ : وَالْكِتَابَانِ : الْإِنْجِيلُ ، وَالْفُرْقَانُ[SUP] ( [7] ) [/SUP].
فانظر كيف اتفق دعاؤهم : ( اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ) ، مما يدل على حرصهم على مجالسة الأخيار ؛ وكان من وصايا لقمان لابنه : يا بني ، جالس الصالحين من عباد الله ، فإنك تصيب من محاسنهم خيرًا ، ولعله أن يكون آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة ، فتصيبك معهم ؛ يا بني ، لا تجالس الأشرار ، فإنك لا تصيب من مجالستهم خيرًا ، ولعله أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبة ، فتصيبك معهم[SUP] ( [8] ) [/SUP].
وكان من وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده : عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ ، كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ ، وَجَنِّبْهُمُ السفلة ؛ فإنهم أسوأ النَّاسِ دِعَةً وَأَقَلُّهُمْ أَدَبًا[SUP] ( [9][/SUP] ) .

[1] - الجهاد لابن المبارك ( 222 ) .

[2] - الزهد لابن المبارك ( 277 ) ، وأبو نعيم في ( الحلية ) : 1 / 212 .

[3] - انظر ( الكامل في التاريخ ) لابن الأثير : 2 / 65 .

[4] - رواه ابن المبارك في الزهد ( 953 ) ، والمروزي في الورع ( 598 ) .

[5] - البخاري ( 3532 ، 3533 ) .

[6] - الترمذي ( 413 ) وحسنه ، والنسائي ( 465 ) ، وصححه الألباني .

[7] - الترمذي ( 3811 ) وصححه ، وصححه الألباني ، ورواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 4 / 120 .

[8] - انظر ( الزهد ) لابن حنبل ، ص 106 .

[9] - رواه الدينوري في ( المجالسة وجواهر العلم ) : 4 / 516 ؛ وذكره ابن كثير في ( البداية والنهاية ) : 9 / 66 .
 
منكرات المجالس
أتناول ها هنا بإيجاز منكرات المجالس ، لأمرين :
الأول : اجتنابها في مجالسنا .
الثاني : إن وجد شيء منها في مجلس حضرناه أن ننهى عنه ، ونبين للحضور حكمه .
وقد تقدم ما يتعلق بأهمية المجالس وأثر الجليس ، ومن تأمل مجالس الناس اليوم وجد كثيرًا من المخالفات الشرعية ، على تفاوت بينها .
وحتى تكون مجالسنا مجالس خير ، يرضى عنها الله تعالى ، ويُكتب للحاضرين أجورهم ، كان لابد من بيان هذه المنكرات ، والسعي في إزالتها ، وتطهير المجالس منها .
فالشغل الشاغل لكثير من لناس في المجالس اليوم هو الدنيا ومتعلقاتها ، وإن كان الكلام فيما أُحَلَّ من الدنيا مباحًا ، فالاشتغال به من أول المجلس إلى نهايته مذموم شرعًا ، فكيف إذا اختلط به ما حرمه الله Y ورسوله e ، ومنه كبائر ؟ كيف إذا كان في المجالس غيبة ونميمة ، وخوض في أعراض الناس وانتقاصهم ، مع بذيء الكلام وفحشه ، وقد يصاحب ذلك التدخين بأنواعه ، ومشاهدات محرمة عبر التلفاز وغيره ؟
ويمكن تقسيم منكرات المجالس إلى : منكرات تتعلق بالمكان ، ومنكرات تتعلق بالحضور .
منكرات تتعلق بالمكان
1 - بعض المجالس يزين أهلها جدرانها بصور محرمة شرعًا ؛ فكل صورة فيها مخلوق له روح كإنسان وحيوان وطير وسمك .. ونحو ذلك ، فقد جاءت النصوص على تحريمها ، فإذا أراد أحدنا أن يزيَّن مجلسه بشيء من الصور ، فليكن بما لا روح فيه كالشجر ، والمناظر الطبيعية الخالية من ذوات الأرواح .
2 - كذلك قد تجد بعض التماثيل متناثرة في جوانب المجلس وعلى بعض أثاثه ، وهذه - أيضًا - مما حرمه شرع الله المطهر .
3 - قد تجد طفايات الدخان موجودة على طاولات المجلس ، وإن كان صاحب المجلس لا يدخن ، لكنه بفعله هذا يشارك المدخن الإثم ، إذ يقره على تدخينه .
4 - استخدام أجهزة المجلس ( تلفاز - فيديو - كومبيوتر ) فيما حرمه الله تعالى ، وهذا مما شاع في كثير من المجالس .
 
منكرات تتعلق بالحضور
المراد بالحضور هم الأشخاص الذين يحضرون المجلس ، ويتحدثون فيه ، وقد ظهر في كثير من المجالس من الحضور منكرات نذكرها فيما يلي :
1 - الغيبة ؛ وهي ذكرك أخاك بما يكره ؛ قال تعالى : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [ الحجرات : 12 ] ، وسيأتي في ذلك زيادة بيان عند الحديث عن الآداب .
2 – البهتان ؛ وهو الافتراء على الناس بما ليس فيهم ؛ وفي صحيح مسلم عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ نَسْرِقَ ، وَلاَ نَزْنِيَ ، وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا ، وَلاَ يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضًا .. " الحديث[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ والعضه : الكذب والبهتان ، والمعنى : لا يرمي بعضنا بعضًا ببهتان .
3 – النميمة ؛ وهي نقل الكلام بغرض الإفساد بين الناس ؛ وفي الصحيحين عَنْ هَمَّامٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ ! فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ "[SUP] ( [2] ) [/SUP]، والقتات : النمَّام .
4 – السخرية بعباد الله ؛ ففي بعض المجالس سخرية بعباد الله بألوان شتى ، فتجد البعض يقلد إنسانًا في صوته ، أو عادة من عاداته ، أو مشيته ؛ أو يستهزئ البعض بإنسان يجعلونه أضحوكة المجلس ؛ وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] .
روى أبو داود والترمذي عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تَعْنِى قَصِيرَةً - فَقَالَ : " لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ " ؛ قَالَتْ : وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا ، فَقَالَ : " مَا أُحِبُّ أَنِّى حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا "[SUP] ( [3] ) [/SUP]. وقولها : ( حَكَيْتُ إِنْسَانًا ) يعني : ذكرت إنسانًا أقلده بحركاته وهيئاته .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ " أي : خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه ، لشدة نتنها وقبحها ؛ فكيف بالألفاظ التي تنطلق في مجالس المسلمين اليوم ؟!


[1] - مسلم ( 1709 ) .

[2] - البخاري ( 5709 ) ، ومسلم ( 105 ) .

[3] - أبو داود ( 4875 ) ، والترمذي ( 2502 ) وقال : حسن صحيح .
 
5 - بذيء الكلام وفحشه ؛ يشيع في بعض مجالس اليوم فحش الكلام ، والتعيير ، والسباب والشتائم ؛ وقد روى أحمد والبخاري في الأدب المفرد عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله لعليه وسلم قَالَ : " الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَكَاذَبَانِ وَيَتَهَاتَرَانِ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وروى أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي عَنْ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله لعليه وسلم : " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ ، وَلا اللَّعَانِ ، وَلا الْفَاحِشِ ، وَلا الْبَذِيءِ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].

6 – التضاحك بالكذب ؛ قد شاع ذلك في كثير من المجالس ، غير مبالين بما ورد فيها من الوعيد ؛ روى أحمد وابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله لعليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ ، يَهْوِي بِهَا مِنْ أَبْعَدِ مِنْ الثُّرَيَّا "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وروى الحاكم عنه البيهقي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ بَطَّالٌ يَدْخُلُ عَلَى الأُمَرَاءِ فَيُضْحِكُهُمْ ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ : وَيْحَكَ يَا فُلاَنُ ! لِمَ تَدْخُلُ عَلَى هَؤُلاَءِ فَتُضْحِكُهُمْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ بِلاَلَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله لعليه وسلم يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله لعليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، فَيَرْضَى اللَّهُ بِهَا عَنْهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ؛ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، فَيَسْخَطُ اللَّهُ بِهَا إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله لعليه وسلم : " أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا الْقَوْمَ , فَيَسْقُطُ بِهَا أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاءِ , أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا أَصْحَابَهُ , فيَسْخَط اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ , لَا يَرْضَى عَنْهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وفي المعجم الكبير للطبراني عَنْ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ ، مَا يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، نَزَلَ بِهَا أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ[SUP] ( [6] )[/SUP].


[1] - أحمد : 4 / 162 ، 266 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 427 ) وصححه الألباني .

[2] - أحمد : 1 / 416 ، والبخاري في الأدب المفرد (312 ) ، والترمذي ( 1977 ) وحسنه ، وصححه الألباني .

[3] - أحمد : 2 / 402 ، وابن حبان ( 5716 ) .

[4] - الحاكم ( 136 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 16442 ) .

[5] - قال المنذري في ( الترغيب : 3 / 344 ) : رواه أبو الشيخ بإسناد حسن ؛ وحسنه الألباني في ( صحيح الترغيب رقم 2877 ) .

[6] - العجم الكبير : 9 / 237 ( 9160 ) .
 
7 - البعد عن أدب الحديث ؛ عند المحاورة ، فتجد البعض يخالف قواعد الإسلام وآدابه ؛ من رفع صوتٍ ، وحِدََةٍ وغلظة ، ومقاطعة في الحديث ، ويسبق الصغير الكبير في الحديث ، وإعجاب كل برأيه بلا دليل ، فكثير من المحاورات تتحول إلى شبه صراع ، ربما انفض عن تدابر وتخاصم ... فهذا مرتع الشيطان .

8 - المدح المذموم ؛ ففي بعض مجالس الناس اليوم غلب المدح المذموم ، إما من المتحدث عن نفسه ، وقد قال الله تعالى : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ النجم : 32 ] ؛ وإما من بعض الحضور لمن له وجاهة ومنصب ، نفاقًا ومداهنة ؛ وفي الصحيحين من حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : " وَيْلَكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ " مِرَارًا ، ثُمَّ قَالَ : " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ ، فَلْيَقُلْ : أَحْسِبُ فُلَانًا ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ؛ أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : " وَيْلَكَ " الويل : الحزن والهلاك ، ويستعمل بمعنى التفجع والتعجب ؛ " قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ " أي : تسببت بهلاكه ؛ لأنه ربما أخذه العجب بسبب مدحك له ، فيكون ذلك كقطع عنقه .
وفي صحيح مسلم عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ ، فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ - وَكَانَ رَجُلاً ضَخْمًا - فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : مَا شَأْنُكَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
9 - الاستهزاء بأحكام الدين ، في بعض المجالس يسخر بعض من لا خلاق له ببعض أحكام الدين ، وبالمتمسكين به ؛ وربما اتخذوا من ذلك أضحوكة المجلس ، وبعضهم يذكر بعض السنن الثابتة بشيء من الإنكار ؛ وهؤلاء على خطر عظيم ، فقد قـال الله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ التوبة : 65 ، 66 ] .

10 - مخالفات في طريقة الآكل والشرب ؛ قد شاع في بعض المجالس أن يأكل أحدهم أو يشرب دون أن يسم الله ، وكذا شاع الأكل والشرب بالشمال ، والأكل متكئًا ، وعدم حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب ، ولا منكر ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : " كُلْ بِيَمِينِكَ " ، قَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ ؛ قَالَ : " لاَ اسْتَطَعْتَ " .. مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ ؛ قَالَ : فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[SUP] ( [3] ) [/SUP]. فانظر كيف أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أكل بشماله ، ولَمَّا تعذر من غير عذر ، دعا عليه صلى الله عليه وسلم ، فشلت يده .

[1] - البخاري ( 2519 ، 5714 ، 5810 ) ، ومسلم ( 3000 ) .

[2] - مسلم ( 3002 ) .

[3] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 522 ، والحديث رواه مسلم ( 2021 ) .
 
11 - المجاهرة بالمعاصي ؛ فقد تسمع في بعض المجالس من يقول : فعلت البارحة كذا وكذا ، لمعصية ارتكبها ؛ وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ؛ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ؛ وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
ومعافى ، أي : يعفو الله تعالى عن زلته بفضله ورحمته ؛ والمجاهرون : المعلنون بالمعاصي والفسوق ؛ والمجاهرة ، وفي رواية : المجانة : وهي الاستهتار بالأمور ، وعدم المبالاة بالقول أو الفعل .
12 - عدم ذكر الله ، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم في المجلس ؛ وقد تقدم الوعيد العظيم على ذلك ؛ وسيأتي زيادة بيان في ( آداب المجالس ) .
هذه آفات تحتاج إلى إصلاح ، وإصلاحها بإزالتها ، واستبدالها بآداب المجالس التي علمنا النبي صلى الله عليه وسلم .
[1] - البخاري ( 5721 ) ، ومسلم ( 2990 ) .
 
آداب المجالس
للمجلس في الإسلام آداب جليلة ، من السلام عند الدخول وحتى السلام عند الخروج ، وحفظ سرِّ المجلس بعده يه وسلم ؛ وتقدم كيف كان مجلس رسول الله صلى الله عل وما فيه من آداب ، وقد عرف ذلك أهل الفضل من الناس ؛ ففي ( الأدب المفرد ) أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أكرم الناس عليَّ جليسي[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقال سعيد بن العاص - رحمه الله : لجليسي عليَّ ثلاثُ خصال : إذا دنا رحبتُ به ، وإذا جلس وسَّعتُ له ، وإذا حدَّث أقبلتُ عليه[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وأتناول آداب المجلس - إن شاء الله - متتالية .

[1] - الأدب المفرد ( 1145 ) .

[2] - انظر ( المنتقى من مكارم الأخلاق ) للخرائطي ( 346 ) – دار الفكر - سوريا .
 
1 - السلام عند الدخول ؛ روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأهل السنن إلا ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ "[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، و يجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم ؛ روى أبو داود عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه مرفوعًا : " يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قَال الْمَاوَرْدِيُّ : لَوْ دَخَل شَخْصٌ مَجْلِسًا فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ قَلِيلاً يَعُمُّهُمْ سَلاَمٌ وَاحِدٌ فَسَلَّمَ كَفَاهُ ، فَإِنْ زَادَ فَخَصَّصَ بَعْضَهُمْ فَلاَ بَأْسَ ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدَّ مِنْهُمْ وَاحِدٌ ، فَإِنْ زَادَ فَلاَ بَأْسَ ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ لاَ يَنْتَشِرُ فِيهِمْ ، فَيُبْتَدَأُ أَوَّل دُخُولِهِ إِذَا شَاهَدَهُمْ ، وَتَتَأَدَّى سُنَّةُ السَّلاَمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ مَنْ يَسْمَعُهُ ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ الرَّدُّ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَإِذَا جَلَسَ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلاَمِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْبَاقِينَ[SUP] ( [3][/SUP] ) .

[1] - أحمد : 2 / 230 ، 287 ، 439 ، والبخاري في الأدب ( 1007 ، 1008 ) ، وأبو داود ( 5208 ) ، والترمذي ( 3706 ) وقال : حديث حسن ، والنسائي في اليوم والليلة ( 344 ) .

[2] - أبو داود ( 5210 ) ، وصححه الألباني .

[3] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 14 ، 15 .
 
2 - يجلس حيث ينتهي ؛ فمن الأدب أن يجلس الداخل في المكان الخالي ، وليس له أن يزاحم الجالسين في أماكنهم ؛ روى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي[SUP] ( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP]. أي : ينتهي هو إليه من المجلس ، أو حيث ينتهي المجلس إليه ؛ والحاصل أنه لا يتقدم على أحد ممن سبقه تأدبًا ، وتركًا للتكلف ، وتواضعًا بمخالفة حظ النفس من طلب العلو ، كما هو شأن أرباب الجاه ؛ وأيضًا حتى لا يؤذي أحدًا من الحضور ؛ روى الطبراني عَنْ شَيْبَةَ بنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ ، فَإِنْ وُسِّعَ لَهُ فَلْيَجْلِسْ ، وَإِلا فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَوْسَعِ مَكَانٍ يَرَى , فَلْيَجْلِسْ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].

3 – لا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ؛ ومن أدب المجالس ألا يفرق بين اثنين لا فرجة بينهما ، لما روى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا " ، وفي رواية أبي داود " لاَ يُجْلَسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا "[SUP] ( [/SUP][3][SUP] ) [/SUP]؛ فقد يكون في ذلك إيذاء لهما ، لما قد يكون بينهما من محبة ومودة ، وجريان سر وأمانة ، لا يريدان أحدًا أن يطلع عليه ، فيشق عليهما التفرق بجلوسه بينهما .
فلا يجوز لمن يدخل مجلسًا ، أن يجلس بين اثنين إلا بعد أن يستأذنهما ، فإن أذنا ، وإلا جلس حيث ينتهي به المجلس .


[1] - أحمد : 5 / 91 ، 95 ، والبخاري في الأدب ( 1141 ) ، وأبو داود ( 4825 ) ، والترمذي ( 2725 ) وصححه .

[2] - الطبراني في الكبير : 7 / 300 ( 7197 ) ، قال الهيثمى في ( المجمع : 8 / 59 ) : إسناده حسن .ا.هـ . ورواه البغوى في ( شرح السنة : 3 / 294 ، رقم 1233 ) ، ومن طريقه البيهقى فى ( شعب الإيمان ) : 6 /300 ( 8243 ) ، وحسنه الألباني بشواهده في ( الصحيحة ) رقم 1321 .

[3] - أحمد : 2 / 138 ، 213 ، والبخاري في الأدب ( 1142 ) ، وأبو داود ( 4844 ، 4845 ) ، والترمذي ( 2752 ) وصححه .
 
4 - لا يقيم أحدًا من مكانه ليجلس فيه ؛ وهذا أدب راق ، فمن انتهى إلى مكان فهو أحق به ، وإقامته منه فيه احتقار له ، مما يورث ضغائن ، والإسلام يريد من أهله أن يكونوا متحابين متوادِّين ، وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ " ، وفي رواية : " لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا " ؛ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ قال النووي : فهذا ورع منه ، وليس قعوده فيه حرامًا إذا قام برضاه ، لكنه تورع عنه لوجهين : أحدهما أنه ربما استحى منه إنسان ، فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه ، فسدَّ ابن عمر الباب ، ليَسْلَم من هذا ؛ والثاني أن الإيثار بالقرب مكروه ، أو خلاف الأولى ؛ فكان ابن عمر يمتنع من ذلك ، لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهًا أو خلاف الأولى ، بأن يتأخر عن موضعه من الصف الأول ، ويؤثره به ... وشبه ذلك [SUP]( [2] ) [/SUP].
والحكمة من هذا هي اجتثاث أسباب الضغائن والأحقاد بين المسلمين ، وحثهم على التواضع ، لأن من سبق إلى شيء استحقه ، وغصب الحق حرام ؛ ولِمَا في هذا النهي من الأدب الرفيع الذي يجب أن يلتزم به المسلم .

5 - التفسح في المجلس ؛ قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } [ المجادلة : 11 ] ، قال ابن حجر - رحمه الله : ذهب الجمهور إلى أنها عامة في كل مجلس من مجالس الخير ، وَقَوْله : { فَاِفْسَحُوا يَفْسَح اللَّه لَكُمْ } أَيْ : وَسِّعُوا ، يُوَسِّع اللَّه عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة [SUP]( [3] ) [/SUP]؛ وفي حديث ابن عمر المتقدم : " وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا " ؛ قال ابن أبي جمرة - رحمه الله : وَالْحِكْمَة فِي هَذَا النَّهْي : مَنْع اِسْتِنْقَاص حَقّ الْمُسْلِم الْمُقْتَضِي لِلضَّغَائِنِ ، وَالْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُع الْمُقْتَضِي لِلْمُوَادَدَةِ ؛ وَأَيْضًا فَالنَّاس فِي الْمُبَاح كُلّهمْ سَوَاء ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى شَيْء اِسْتَحَقَّهُ ، وَمَنْ اِسْتَحَقَّ شَيْئًا فَأُخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَهُوَ غَصْبٌ ، وَالْغَصْب حَرَام ، فَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُون بَعْض ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْكَرَاهَة ، وَبَعْضه عَلَى سَبِيل التَّحْرِيم ؛ قَالَ : فَأَمَّا قَوْله : " تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا " فَمَعْنَى الْأَوَّل أَنْ يَتَوَسَّعُوا فِيمَا بَيْنهمْ ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَنْضَمَّ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض ، حَتَّى يَفْضُل مِنْ الْجَمْع مَجْلِس لِلدَّاخِلِ . اِنْتَهَى مُلَخَّصًا [SUP]( [4] ) [/SUP].
والإسلام حريص على إيجاد مودة القلب وفسحته قبل إيجاد الفسحة في المكان ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ "[SUP] ( [5] ) [/SUP]، فمتى وجدت الفسحة في القلب لأخيك المسلم ومحبته ، فإنك ستفسح له تلقائيًا .
وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال : أخبر أبو سعيد ( الخدري ) بجنازة ، فعاد : تخلف حتى إذا أخذ الناس مجالسهم ، ثم جاء ، فلما رآه القوم تشذبوا عنه ، فقام بعضهم ليجلس في مجلسه ، فَقَالَ : لَا ، إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ أَوْسَعُهَا " ، ثُمَّ تَنَحَّى ، وَجَلَسَ فِي مَجْلِسٍ وَاسِعٍ[SUP] ([/SUP] [6] [SUP])[/SUP] .
وفيه : استحباب سعة المجلس حسب الطاقة ، لما فيه من راحة الجالسين .

[1] - البخاري ( 5914 ، 5915 ) ، ومسلم ( 2177 ) .

[2] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 14/ 160 ، 161 .

[3] - انظر ( فتح الباري ) : 11 / 62 ، عن أنس t .

[4] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 63 .

[5] - رواه البخاري ( 13 ) ، ومسلم ( 45 ) .

[6] - أحمد : 3 / 18 ، والبخاري في الأدب ( 1136 ) ، وأبو داود ( 4820 ) دون القصة ، وصححه الألباني .
 
6 – إذا كان المجلس حلقة ، فلا يجلس وسطها ؛ لما روى أبو داود والترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ[SUP] ( [1] ) [/SUP].
ففيه النهي عن الجلوس وسط الحلقة من غير حاجة ، كساقٍ ونحوه ؛ قال الخطابي - رحمه الله - في ( معالم السنن ) : هذا يُتأول فيمن يأتي حلقة قوم ، فيتخطى رقابهم ، ويقعد وسطها ، ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس ، فلُعِن للأذى ، وقد يكون في ذلك أنه إذا قعد وسط الحلقة حال بين الوجوه ، وحجب بعضهم من بعض ، فيتضررون بمكانه وبمقعده هناك[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وقد بوَّب عليه البيهقي في ( السنن الكبرى ) باب ( كَرَاهِيَةِ الْجُلُوسِ فِي وَسْطِ الْحَلْقَةِ ، لِمَا فِيهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ تَخَطِّى رِقَابِ النَّاسِ ، مَعَ سُوءِ الأَدَبِ ، وَتَرْكِ الْحِشْمَةِ ) .


[1] - أحمد : 5 / 384 ، 398 ، وأبو داود ( 4826 ) ، والترمذي ( 2753 ) وقال : حسن صحيح ، وحسنه النووي في ( المجموع : 4 / 401 ) – دار الفكر – بيروت ، ورواه الحاكم (7754) وصححه ، ووافقه الذهبي .

[2] - معالم السنن : 2 / 477 .
 
7 - إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به ؛ فقد روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) ومسلم عن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسٍ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ " [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] ؛ وعند أحمد والترمذي عَنْ وَهْبِ بْنِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ ، وَإِنْ قَامَ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ " أَيْ : فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ؛ ولفظ الترمذي : " الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ عَادَ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ [SUP]"[/SUP] [SUP]([/SUP] [2] [SUP])[/SUP] .
في الحديثين أن من قام من مجلسه لعذر ، ثم عاد إليه فهو أحق به ، سواء ترك فيه متاعًا أو لا ؛ وقد اختلف العلماء : هل هو من باب الأدب ، أم أنه واجب له لا يزاحمه فيه أحد ؟ وأَجَابَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَدَب أَنَّ الْمَوْضِع فِي الْأَصْل لَيْسَ مِلْكه قَبْل الْجُلُوس ، وَلَا بَعْد الْمُفَارَقَة ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْأحَقِّيَّةِ فِي حَالَة الْجُلُوس : الْأَوْلَوِيَّة ، فَيَكُون مَنْ قَامَ تَارِكًا لَهُ قَدْ سَقَطَ حَقّه جُمْلَة ، وَمَنْ قَامَ لِيَرْجِع يَكُون أَوْلَى ؛ وَقَدْ سُئِلَ مَالِك عَنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فَقَالَ : مَا سَمِعْت بِهِ ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ إِذَا كَانَتْ أَوْبَته قَرِيبَة ، وَإِنْ بَعُدَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ لَهُ ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ مَحَاسِن الْأَخْلَاق . وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي ( الْمُفْهِم ) : هَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى صِحَّة الْقَوْل بِوُجُوبِ اِخْتِصَاص الْجَالِس بِمَوْضِعِهِ إِلَى أَنْ يَقُوم مِنْهُ ؛ وَمَا اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَدَب لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِلْكًا لَهُ لَا قَبْل وَلَا بَعْد ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّا نُسَلِّم أَنَّهُ غَيْر مِلْك لَهُ ، لَكِنْ يَخْتَصُّ بِهِ إِلَى أَنْ يَفْرُغ غَرَضُه ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَلَكَ مَنْفَعَته ، فَلَا يُزَاحِمهُ غَيْره عَلَيْهِ [SUP]( [3] ) [/SUP]؛ وظاهر الحديث يدل على أحقيته ، وما ذهب إليه الإمام مالك حسن ، ومراعاة الأدب والأخلاق أمر مطلوب .


[1] - أحمد : 2 / 262 ، والبخاري في الأدب ( 1138 ) ، ومسلم ( 2179 ) .

[2] - أحمد : 3 / 422 ، والترمذي ( 2751 ) وصححه .

[3] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 63 .
 
8 - الْقِيَامُ لِلدَّاخِلِ إِلَى الْمَجْلِس احترامًا ومحبة لا تعظيمًا ؛ فقد روى البخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلاًّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ ؛ كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، قَامَ إِلَيْهَا ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا ، وَقَبَّلَهَا ، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ ؛ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، قَامَتْ إِلَيْهِ ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ ، فَقَبَّلَتْهُ ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ( هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ ) بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا دَنَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ : " إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ " قَالَ : فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ ؛ قَالَ : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قال ابن كثير - رحمه الله : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ؛ ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث : " من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا ، فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار " ؛ ومنهم من فصَّل ، فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا في بني قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ، والله أعلم . فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم ؛ وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قال النووي - رحمه الله : قَوْله صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا إِلَى سَيِّدكُمْ أَوْ خَيْركُمْ " : فِيهِ : إِكْرَام أَهْل الْفَضْل ، وَتَلَقِّيهمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا ، هَكَذَا اِحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء لِاسْتِحْبَابِ الْقِيَام ، قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْقِيَام الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِس ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسه . قُلْت : الْقِيَام لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيث ، وَلَمْ يَصِحّ فِي النَّهْي عَنْهُ شَيْء صَرِيح ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ ذَلِكَ مَعَ كَلَام الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فِي جُزْء ، وَأَجَبْت فِيهِ عَمَّا تَوَهَّمَ النَّهْي عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم[SUP] ( [4] ) [/SUP].ا.هـ .
قلت : خالفه ابن الحاج - رحمه الله ، وناقش أدلته في كتابه ( المدخل ) ، وقد نقل ابن حجر - رحمه الله - في ( الفتح ) مناقشة ابن الحاج لكلام النووي - رحمهما الله ، وعلَّق على بعضها ، ثم قال : وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة ، أو يترتب عليه مفسدة امتنع ؛ وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام ؛ ونقل ابن كثير في ( تفسيره ) عن بعض المحققين التفصيل فيه ، فقال : المحذور أن يتخذ ديدنًا كعادة الأعاجم ، كما دل عليه حديث أنس ، وأما إن كان لقادم من سفر ، أو لحاكم في محل ولايته ، فلا بأس به ؛ قلت : ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة ، أو لإعانة العاجز ، أو لتوسيع المجلس ... أو غير ذلك ، والله أعلم . وقد قال الغزالي : القيام على سبيل الإعظام مكروه ، وعلى سبيل الإكرام لا يكره .ا.هـ . وهذا تفصيل حسن[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وقد احتج من منع من القيام للداخل بما رواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : خَرَجَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ , فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ؛ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ : اجْلِسْ , فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ "[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وقوله صلى الله عليه وسلم : " يَمْثُلَ لَهُ " أي : يقفون بين يديه قائمين لتعظيمه ، من قولهم : مَثُلَ بين يديه مثولًا ، أي : انتصب قائمًا ؛ وقوله : " فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " أمرٌ بمعنى الإخبار ، أي : دخل النار إذا سره ذلك .
ولذلك أجاب الطبري - رحمه الله - بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك ، لا نهي من يقوم له إكرامًا له [SUP]( [7] ) [/SUP]؛ وقال الطحاوي في ( مشكل الآثار ) : فدل ذلك أن المكروه مما ذكرناه هو المحبة من بعض الرجال لذلك من بعض ، وقد تكون تلك المحبة من القيام إليهم ، وقد تكون بلا قيام إليهم ؛ فدل ذلك على أن الكراهة في ذلك إنما هي للمحبة التي ذكرنا ، لا للقيام الذي لا محبة معه[SUP] ( [8] ) [/SUP].
ونقل ابن الحاج في ( المدخل ) عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه : الأول محظور ، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرًا وتعاظمًا على القائمين إليه ؛ والثاني مكروه ، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ، ولا يتعاظم على القائمين ، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يُحذر ، ولما فيه من التشبه بالجبابرة ؛ والثالث جائز ، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ، ويُؤْمن معه التشبه بالجبابرة ؛ والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفرٍ فرحًا بقدومه ليسلِّم عليه ، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها ، أو مصيبة فيعزيه بسببها [SUP]( [9] ) [/SUP].ا.هـ
قال البعلي - رحمه الله - في ( مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ) : ولم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يقوموا للنبي صلى الله عليه وسلم لما كانوا يعلمون من كراهته لذلك ، ولا كان يقوم بعضهم لبعض ، وروي أنه كان يقوم لمن قدم من مغيبه ، فالقيام لمثل القادم من سفر لا بأس به ، وقد رُخِصَّ في القيام للإمام العادل والوالد ، ونحو ذلك ؛ وروي أنه قام لعكرمة بن أبي جهل وجعفر بن أبي طالب لما قدما عليه من السفر ؛ وقال للأنصار : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " يعني : سعد بن معاذ رضي الله عنه ؛ ولهذا فرقوا بين القيام إليه لتلقيه ، كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه : لم يقم لي أحد من الأنصار إلا طلحة ؛ وبين القيام له ، وهو أن يكون قاعدًا وهم قيام ؛ فهذا لا يجوز .
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا السنة في ترك القيام المتكرر للقاء ، ولكن إذا اعتاد الناس القيام ، وقام من لا يرى كرامته إلا بالقيام له ، وإذا ترك ذلك توهم بغضه وإهانته ، وتولد من ذلك عداوة وشر ، فالقيام له على هذا الوجه لا بأس به ؛ وإنما الأعمال بالنيات[SUP] ( [10] ) [/SUP].
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والترمذي عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ رُؤْيَةً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ[SUP] ( [11] )[/SUP] .
قال الطحاوي - رحمه الله : فكان ما في هذا الحديث قد دل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يتركون القيام له صلى الله عليه وسلم لعلمهم بكراهته لذلك منهم ، وفي ذلك ما قد دل على أنهم لولا كراهته لذلك منهم لقاموا له ؛ وقد تكون كراهته لذلك منهم على وجه التواضع منه صلى الله عليه وسلم لذلك ، لا لأنه حرام عليهم أن يفعلوا ذلك له ؛ وكيف يُظَنُّ أن ذلك حرام عليهم ، وقد أمرهم بالقيام إلى سعد بن معاذ ، وقام بمحضره طلحة بن عبيد الله إلى كعب بن مالك عند نزول توبته مهنئًا له بذلك ، فلم ينهه عنه ؟[SUP] ( [12] ) [/SUP].
وصفوة القول أن القيام لمن جاء من سفر ، أو لمن استحدثت له نعمة لتهنئته ، أمر جائز لا حرج فيه ؛ وأن القيام للتعظيم ، أو لأن الإنسان يحب أن يقام له ، فغير جائز ؛ وأما القيام لإكرام الداخل واستقباله فمشروع ، لا سيما إذا كان عدم القيام يوهم بغضه وإهانته . والعلم عند الله تعالى .


[1] - البخاري في الأدب المفرد ( 947 ) ، أبو داود ( 5217 ) وصححه الألباني ، ورواه ابن حبان ( 6953 ) ، والحاكم ( 4732 ) وصححه على شرط الشيخين ؛ وقال الذهبي : بل صحيح ، يعني وليس على شرطهما .

[2] - البخاري ( 2878 ) ، ومسلم ( 1768 ) .

[3] - انظر ( تفسير ابن كثير - دار طيبة ) : 8 / 46 ، 47 .

[4] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 12 / 93 .

[5] - انظر ( فتح الباري ) : 11 / 54 ، وما قبلها .

[6] - أحمد : 4 / 100 ، الأدب المفرد ( 977 ) ، وأبو داود ( 5229 ) واللفظ له ، والترمذي ( 2755 ) وحسنه ، وصححه الألباني .

[7] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 50 .

[8] - انظر ( شرح مشكل الآثار ) : 3 / 112 .

[9] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 11 / 51 ، 52 .

[10] - انظر ( مختصر الفتاوى المصرية ) ص 563 .

[11] - أحمد : 3 / 132 ، 134 ، والبخاري في الأدب ( 946 ) , والترمذي ( 2754 ) وصححه الألباني في ( الصحيحة رقم 358 ) .

[12] - انظر ( شرح مشكل الآثار ) : 3 / 113 .
 
9 - ظهور التراحم بين المتجالسين ؛ إذ هي صفة المسلمين فيما بينهم ؛ قال الله تعالى : { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ؛ فلا احتقار لأحد ، ولا كبر من أحد ولا افتخار ، ولا غير ذلك من سوء الأخلاق ؛ روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ؛ التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
10 - يجب خلو مجالس المسلمين مما ذكرنا من المنكرات ، وسعي جميع الحضور للحفاظ على طهارة المجلس منها .


[1] - مسلم ( 2564 ) .
 
11 - كثرة ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقد تقدمت الأحاديث في ذلك ؛ منها حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : " مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً " ، وفي رواية : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً " والترة : الحسرة والندامة ؛ وفي أخرى : " إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَإِنْ شَاءَ عَذَبَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ " ؛ وحديث جَابِرٍ t : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا ، فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ صَلاَةٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، إِلاَّ تَفَرَّقُوا عَلَى أَنْتَنِ مِنْ رِيحِ الْجِيفَةِ " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ " أي : منتنة مؤذية عفنة ؛ هكذا يتفرق الناس إذا لم يذكروا الله في مجالسهم ، وذكر جيفة الحمار زيادة في التنفير ، وإيماء إلى أن تارك الذكر بمثابة الحمار المضروب به المثل في البلادة ، إذ غفل الجالس بما هو فيه من الترهات ، ولذائذ المحاورات عن ذكر رب الأرض والسماوات .
وفي مسند أحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ ، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ ، إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ : أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ ، قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ "[SUP] ( [1] )[/SUP] ، ورواه الطبراني عن سهيل بن حنظلة رضي الله عنه بلفظ : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تعالى فِيهِ ، فَيَقُومُونَ حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ : قُومُوا ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وبُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
إن المجالس التي يذكر فيها الله ويصلى فيها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، هي مجالس محبوبة إلى الرب تعالى ، وأهلها في ازدياد من الخيرات ؛ وفي حديث أبي هريرة الطويل الذي فيه حضور الملائكة لمجالس الذكر ، وصعودهم إلى ربهم ؛ ثم قول الله عز وجل لهم : " فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ "[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ ما يدل على فضل الذكر في المجالس ، وذم الغفلة عن الذكر ؛ فعلى من يجلس في مجلس ألا يغفل عن ذكر الله تعالى ، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإلا كان عليه هذا المجلس حسرة وندامة يوم القيامة .


[1] - أحمد : 3 / 142 ، وأبو يعلى ( 4141 ) والطبراني في الأوسط ( 1556 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 2210 ) .

[2] - الطبراني في الكبير : 6 / 212 ( 6039 ) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 10444 ) .

[3] - البخاري ( 6408 ) ، ومسلم ( 2689 ) .
 
12 - مراعاة آداب الحديث ؛ فيُقدَّم الكبير ، وينصت للمتكلم ، ويجتنب فحش الكلام وبذيئه ، ويتخير أطايبه ؛ قال الله تعالى : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } [ الإسراء : 53 ] ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ " متفق عليه[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وروى ابن عساكر عن محمد بن كعب القرظي يرفعه : " مَا تَجَالَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يُنْصِتْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ، إِلاَّ نُزِعَ مِنْ ذلِكَ المَجْلِسِ الْبَرَكَةُ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
فمن أدب الحديث أن يصمت الحضور عند كلام أحدهم حتى يفرغ من كلامه ؛ وألا يجادلوا جدالا منهيًّا عنه ، وهو الذي لا يوصل إلى الحق ؛ وأن لا يظهر أحدهم أخاه في صورة الجاهل البليد ، وألا يسخر أو يُعَرِّض بغيره في حديثه ، وأن يحترم مَنْ في المجلس ، وألا يجاهر بالنصيحة لأحد حتى لا يفضحه ، وأن يوقِّر الكبير وذي الفضل ، ويرحم الصغير ، وأن يدعو لمن يسدى إليه معروفًا .
فإذا جلست في مجلس ، فأقبل على جلسائك بالبشر والطلاقة ، وليكن مجلسك هادئًا ، وحديثك مرتبًا ، واحفظ لسانك من خطئه ، وهذب ألفاظك ، والتزم ترك الغيبة ، ومجانبة الكذب .
ومن أدب الحديث ما رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ : كَانُوا يُحِبُّونَ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ أَنْ لاَ يُقْبِلَ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، وَلَكِنْ لِيَعُمَّهُمْ[SUP] ( [3] )[/SUP] .
وهذا أدب المتحدث في المجلس : أن يوزع نظره على الحضور ، لا يخص أحدًا بنظره .


[1] - البخاري ( 2827 ) ، ومسلم ( 1009 ) ، من حديث أبي هريرة t .

[2] - أخرجه ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) : 33 / 361 ، هكذا مرسلا .

[3] - الأدب المفرد ( 1304 ) .
 
13 – مراعاة الآداب العامة ؛ من رد السلام ، وتشميت العاطس إذا حمد الله ، ومجانبة العبث بأصبعه في الأنف ونحو ذلك ، وتجنب كثرة البصاق والتمطي والتثاؤب والتجشأ ؛ كما يحذر الإيماء بطرفه إلى غيره ، ويراعي أعراف الناس في الجلسة ونحوها ؛ فمن حسنت مجالسته ثبتت في القلوب مودته ، وحسنت عشرته ، وكملت مروءته .
ومن الآداب العامة : النهي عن كثرة الضحك ، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَا تُكْثِرُوا الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ فقليل الضحك ، يبعث على النشاط ، ويروِّح النفس ، وكثيره يميت القلب .
ومن الآداب العامة ما رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه قَالَ : وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ ؛ وَقَالَ : " لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ ؟! "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قال النووي – رحمه الله : فِيهِ النَّهْي عَنْ الضَّحِك مِنْ الضَّرْطَة يَسْمَعهَا مِنْ غَيْره ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَغَافَل عَنْهَا ، وَيَسْتَمِرّ عَلَى حَدِيثه ، وَاشْتِغَاله بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْر اِلْتِفَات ، وَلَا غَيْره ، وَيُظْهِر أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع[SUP] ( [3] ) [/SUP]. وقد قيل : إنهم كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ يَضْحَكُونَ ، فَنَهَاهُمْ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ .


[1] - رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) رقم 253 ، وصححه الألباني .

[2] - البخاري ( 4658 ) ، ومسلم ( 2855 ) .

[3] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 17 / 188 .
 
14 - الِاهْتِمَامُ بِالنَّظَافَةِ وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَة ، وهذا مما ينبغي أن يهتم به في المجالس حتى لا يتأذى الحضور ؛ روى أبو داود والنسائي عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَرَأَى رَجُلاً شَعِثًا ، قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ ، فَقَالَ : " أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ " ؛ وَرَأَى رَجُلاً آخَرَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ ، فَقَالَ : " أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ " [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] ؛ وقوله : " يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ " أي : ما يلم شعثه ويجمع تفرقه ؛ وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي لمن يحضر مجالس الناس أن يهتم بنظافة ثوبه وتهذيب شعره .


[1] - أبو داود ( 4062 ) ، والنسائي ( 5236 ) ، ورواه ابن حبان ( 5483 ) ، والحاكم ( 7380 ) ، وصححه على شرطيهما ، ووافقه الذهبي .
 
15 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لابد أن تكون هذه الفريضة زينة المجالس ، إذ بها ينجو الحضور من الوقوع في المآثم ، ولو بالمشاركة إذا لم يتناهوا عن المنكر ، فالذي لا ينهى المغتاب هو شريك له في الإثم ، والذي لا يصحح لمن يخطئ - وهو يعلم - هو شريك له في الخطأ ، لا سيما إذا كان هذا الخطأ في الدين ، فيجب على مَنْ يعْلَمهُ أن يصححه ، وأن يرشد مَنْ قاله إلى الصواب ، بهذا يكون المجلس ممن يتعاونون على البر والتقوى ، وهي مجالس الخير التي يحبها الله تعالى .
في صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ قال النووي - رحمه الله : هُوَ أَمْر إِيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ؛ وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين [SUP]( [2] ) [/SUP].ا.هـ .
روى أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن الحسن أن هرم بن حيان كان على بعض تلك المغازي ، فاستأذنه رجل ، وهو يرى أنه يستأذنه لبعض الحوائج ، فلحق بأهله ؛ فلبث ما لبث ، ثم جاء ؛ فقال له : أين كنت ؟ قال : استأذنتك يوم كذا ، فأذنت لي ؛ قال : فأردت ذلك لذلك ؟ قال : نعم ؛ ( فذُكر أنه قال لذلك الرجل قولا شديدًا ) ، ولم يكلمه أحد من جلسائه ، بحيث رأوا غضبه وهو يقول لأخيه ما يقول ؛ فقال لهم : جزاكم الله من جلساء شرًّا ! تروني أقول لأخي ما أقول ، ولم ينهني أحد منكم عن ذلك ؛ اللهم خلِّف رجال السوء لزمان السوء[SUP] ( [3] ) [/SUP]. فانظر إلى هذا الفاضل بعد أن سكت عنه غضبه ، كيف عاتب الحضور على أنهم لم ينهوه عن ما قال في غضبه ؟


[1] - مسلم ( 49 ) .

[2] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 2 / 22 .

[3] - حلية الأولياء : 2 / 121 ؛ وهرم بن حيان تابعي جليل ؛ ولي بعض الحروب في أيام عمر وعثمان ببلاد فارس ؛ وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء : 4 / 48 .
 
16 - لا يتناجى اثنان دون الثالث ؛ هذا من آداب المجلس التي سنَّها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ألا يتحدث اثنان سرًّا في مجلس دون الثالث ، إذا لم يكن في المجلس إلا ثلاثة ؛ وأما إن كان القوم أربعة فما فوق فلا بأس بذلك ، لانتفاء العلة ؛ وسبب ذلك أن ذلك يحزنه ؛ فَفي الصحيحين عَنْ ابِنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً ، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ ورواه مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ ، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ "[SUP] ([/SUP] [2] [SUP])[/SUP] ؛ وقوله : " حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ " ليزداد الحضور ، فتنتفي العلة .
والعلة في ذلك حتى لا يدخل الحزن والشك إلى قلب الثالث ، لما يراه من تسارِّ صاحبيه دونه ، والشيطان حريصٌ على إيغار الصدور ، وملئها بالشكوك والوساوس ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [ المجادلة : 10 ] ؛ والشريعة جاءت بسدِّ كل الأبواب التي تفضي إلى الشر ، فمنعت ذلك رعايةً لشعور الثالث ؛ فقد يظن الثالث أنهما يُريدان به سوءً ، أو يدبران له أمرًا ؛ ولكن إذا أذن لهما صاحبهما ، فلا بأس .
وقد فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة حق فهمها ، فروى مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ ، الَّتِي بِالسُّوقِ ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ ، وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي ، وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ ، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً ، فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ : اسْتَأْخِرَا شَيْئًا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ "[SUP] ([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] .
ومن الأدب - أيضًا - إذا وجد أحد رجلين يتناجيان فلا يُدخَل بينهما ؛ ففي مسند أحمد عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ ، وَمَعَهُ رَجُلٌ يُحَدِّثُهُ ، فَدَخَلْتُ مَعَهُمَا ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ صَدْرِي ، وَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا تَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا تَجْلِسْ إِلَيْهِمَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَهُمَا "[SUP] ([/SUP] [4] [SUP])[/SUP] ؛ ورواه الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَدْنُوَ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ وَهُمَا يَتَنَاجَيَانِ ، إِلا أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمَا[SUP] ( [5] ) [/SUP]؛ وفي مصنف ابن أبي شيبة عن سعيد المقبري قال : رأيت ابن عمر وهو يناجي رجلا ، فأدخلت رأسي بينهما ، فضرب ابن عمر صدري ، وقال : إذا رأيت اثنين يتناجيان ، فلا تدخل بينهما إلا بإذنهما[SUP] ([/SUP] [6] [SUP]) [/SUP].
قال ابن حجر في ( فتح الباري ) : قال ابن عبد البر : لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما . قلت : ولا ينبغي لداخل القعود عندهما ، ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما ، لَمَّا افتتحا حديثهما سرًّا ، وليس عندهما أحد ، دل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما ؛ ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهوريًّا ، لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره ، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم ، بحيث إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه ، فالمحافظة على ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة ، وإن تفاوتت المراتب[SUP] ( [7] ) [/SUP].ا.هـ .


[1] - البخاري ( 5932 ) ، ومسلم ( 2184 ) واللفظ له .

[2] - مسلم ( 2184 ) .

[3] - الموطأ : 2 / 988 ( 1789 ) ، ومن طريق مالك رواه ابن حبان ( 582 ) .

[4] - أحمد : 2 / 114 ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 1395 ) .

[5] - الطبراني في الكبير : 12 / 382 ( 13417 ) .

[6] - ابن أبي شيبة ( 25565 ) .

[7] - انظر ( فتح الباري ) : 11 / 83 .
 
17 - الْبَدْءُ بِمَيَامِنِ الْمَجْلِس ؛ فإذا أراد صاحب المجلس أن يكرم الحضور بشيء ، فليبدأ بيمينه ؛ ففي الصحيحين عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ ، فَشَرِبَ مِنْهُ ؛ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ ، هُوَ أَصْغَرُ الْقَوْمِ , وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " يَا غُلَامُ , أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ ؟ " ، فَقَالَ : مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفيهما عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً ، وَكُنَّ أُمَّهَاتِي يَحْثُثْنَنِي عَلَى خِدْمَتِهِ ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا دَارَنَا هَذِهِ , فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ ، وَشِيبَ لَبَنُهَا مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ , فَأَعْطَيْتُهُ ، وَأَبُو بَكْرٍ عن يَسَارِهِ , وَعُمَرُ تُجَاهَهُ , وَأَعْرَابِيٌّ عن يَمِينِهِ ؛ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَعْرَابِيَّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ ؛ فَأَعْطَاهُ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ ، ثُمَّ قَالَ : " الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ ، أَلَا فَيَمِّنُوا " ؛ قَالَ أَنَسٌ : فَهْيَ سُنَّةٌ ، فَهْيَ سُنَّةٌ , فَهْيَ سُنَّةٌ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قال ابن بطال – رحمه الله : إنما أعطى الأعرابي ولم يستأذنه كما استأذن الغلام ؛ ليتألفه بذلك ، لقرب عهده بالإسلام ؛ وفيه : أن السنة لمن استسقى أن يسقي من على يمينه ، وإن كان من على يساره أفضل ممن جلس على يمينه ؛ ألا ترى قول أنس : ( فهي سنة ) ثلاث مرات ، وذلك يدل على تأكيدها[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ " أن هذا سنة الشرب العامة في كل موطن ؛ وأن تقديم الذي على يمينه ليس لمعنى فيه ، بل لمعنى في تلك الجهة ، وهو فضلها على جهة اليسار ؛ وفي ذلك تطييب لخاطر من هو على اليسار ، بإعلامه أن ذلك ليس ترجيحًا لمن هو على اليمين ، بل هو ترجيح لجهته ؛ والعلم عند الله تعالى .
قال النووي - رحمه الله : في هذه الأحاديث بيان هذه السنة الواضحة ، وهو موافق لما تظاهرت عليه دلائل الشرع من استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام ؛ وفيه أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم ، وإن كان صغيرًا أو مفضولا ؛ لأن رسول الله e قدَّم الأعرابي والغلام على أبى بكر رضي الله عنه[SUP] ([4] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 2224 ، 2237 ) ، ومسلم ( 2030 ) .

[2] - البخاري ( 2225 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2029 ) .

[3] - انظر ( شرح صحيح البخاري ) لابن بطال : 7 / 89 - مكتبة الرشد - السعودية / الرياض - 1423هـ - 2003م.

[4] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13 / 200 .
 
18 - الذب عن أعراض المسلمين ؛ مع أن غيبة المسلمين والخوض في أعراضهم من المنكرات التي يجب النهي عنها وتطهير المجالس منها ، وتقدم الإشارة إلى ذلك في الأدب رقم ( 9 ) ، إلا أني أفردته ها هنا بالحديث لأهميته ، وعدم اهتمام كثير من حضور المجالس بإنكاره ؛ وغيبة المسلمين والخوض في أعراضهم من المحرمات ، وعدم الذب عن أعراض المسلمين في تلك المجالس مشاركة في هذا الإثم .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حدَّ الغيبة المحرمة فقال : " أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ؛ قَالَ : " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ " ، قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ ، فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ، فَقَدْ بَهَتَّهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ و " بَهَتَّهُ " أي : كذبت عليه ، والبهتان : الباطل الذي يُتحير من بطلانه ، وشدة نكره ؛ وروى أحمد وأبو داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " .. وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ "[SUP] ( [2] ) [/SUP]؛ وردغة الخبال : الوحل الشديد ، والمراد : عصارة أهل النار .
قال القرطبي - رحمه الله : يقال : اغتابه اغتيابًا إذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهي : ذكر العيب بظهر الغيب ... قال : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وان من اغتاب أحد عليه أن يتوب إلي الله تعالى[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قَالَ النَّوَوِيّ فِي ( الْأَذْكَار ) تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ : ذِكْر الْمَرْء بِمَا يَكْرَههُ ، سَوَاء كَانَ ذَلِكَ فِي بَدَن الشَّخْص ، أَوْ دِينه ، أَوْ دُنْيَاهُ ، أَوْ نَفْسه ، أَوْ خَلْقه ، أَوْ خُلُقه ، أَوْ مَاله ، أَوْ وَالِده ، أَوْ وَلَده ، أَوْ زَوْجه ، أَوْ خَادِمه ، أَوْ ثَوْبه ، أَوْ حَرَكَته ، أَوْ طَلَاقَته ، أَوْ عُبُوسَته ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّق بِهِ ، سَوَاء ذَكَرْته بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ وَالرَّمْز [SUP]( [4] ) [/SUP].
وفي ( الأدب المفرد ) للبخاري عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي قال : سمعت ابن أم عبد ( يعني : عبد الله بن مسعود ) يقول : من اغتيب عنده مؤمن فنصره ، جزاه الله بها خيرًا في الدنيا والآخرة ، ومن اغتيب عنده مؤمن فلم ينصره ، جزاه الله بها في الدنيا والآخرة شرًّا ، وما التقم أحد لقمة شرًّا من اغتياب مؤمن ، إن قال فيه ما يعلم ، فقد اغتابه ، وإن قال فيه بما لا يعلم ، فقد بهته[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وقد جعل الله الحرج على من اغتاب ، فقد روى ابن ماجة والطبراني عَنْ أُسَامَةَ بن شَرِيكٍ رضي الله عنه قَالَ : شَهِدْتُ الأَعْرَابَ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَحَرَجٌ فِي كَذَا وَكَذَا ؟ ، فَقَالَ لَهُمْ : : " عِبَادَ اللَّهِ ، وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ إِلا مَنِ اقْتَرَضَ مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرَجَ .. " الحديث [SUP]( [6] ) [/SUP].
وقوله صلى الله عليه وسلم : " وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ " أي : الإثم عما سألتموه من الأشياء ؛ " إِلا مَنِ اقْتَرَضَ " اقترض بمعنى : قطع ؛ والمراد : إلا من اغتاب أخاه ، أو سبه ، أو آذاه في نفسه ؛ عبَّر عنه بالاقتراض ؛ لأنه يسترد منه في العقبى ، أي : يوم القيامة ؛ وقد أحسن من قال :
احذر الغيبة فهي الـ ... فسق لا رخصة فيه
إنما المغتاب كالآكل ... مـن لحم أخـيه
وللمغتاب ريح خبيثة ، فقد روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَِِِِ " [SUP]( [7] ) [/SUP].
وجعل الله لمن ذب عن عرض أخيه أن يعتقه من النار ؛ فروى أحمد والترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ ، رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [SUP]( [8] ) [/SUP].
وروى أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رضي الله عنها - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ " ، ورواه الطبراني بلفظ : " مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْمَغِيبِ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ "[SUP] ( [9] ) [/SUP].
وما أجمل ما رد به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ؛ فقد روى ابن أبي شيبة عن طارق بن شهاب قال : كان بين خالد بن الوليد وبين سعد بن أبي وقاص كلامٌ ، فتناول رجلٌ خالدًا عند سعدٍ ، فقال سعد : مه ، فإن ما بيننا لم يبلغ ديننا ؛ ورواه الطبراني عَنْ طَارِقِ أَنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بن أَبِي وَقَّاصٍ كَلامٌ ، فَذُكِرَ خَالِدٌ عَنْد سَعْدٍ : فَقَالَ : مَهْ ، فَإِنَّ مَا بَيْنَنَا لَمْ يَبْلُغْ دِينَنَا [SUP]( [10] ) [/SUP].
وقد رد معاذ بن جبل غيبة كعب بن مالك - رضي الله عنهما - لما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ ؛ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْتَ ! وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا . فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [SUP]([/SUP][SUP][11][/SUP] ) ، وقوله : ( حبسه براده والنظر في عطفيه ) أي : منعه من الخروج إعجابه بنفسه ولباسه ؛ وبراده : مثنى برد ، وهو الكساء ؛ وعطفيه : مثنى عِطف ، وهو الجانب .
فلا بد لمن حضر مجلسًا أن يرد الغيبة عن أخيه ، وينكر على من يتكلم في أعراض المسلمين ، ولا يجوز لأحد الجلوس في مجلس الغيبة والسكوت عليها ، وإلا فهو مشارك في الإثم ، فإما أن ينكر ، وإما أن يخرج من المجلس .


[1] - أخرجه مسلم ( 2589 ) من حديث أبي هريرة .

[2] - أحمد : 2 / 70 ، وأبو داود ( 3597 ) ، وصححه الألباني ، ورواه الطبراني في الكبير : 12 / 388 ( 13435 ) .

[3] - انظر ( الجامع لأحكام القران ) عند تفسير الآية ( 12 ) من سورة الحجرات .

[4] - نقلا عن ( فتح الباري ) لابن حجر : 10 / 469 ؛ وانظر ( الأذكار ) للنوووي ص 288 .

[5] - الأدب المفرد ( 734 ) ، وصححه الألباني في ( صحيح الأدب المفرد رقم 565 ) .

[6] - ابن ماجة ( 3436 ) ، والطبراني في الكبير : 1 / 181 ، 182 ( 469 ، 477 ) ، والحاكم ( 7430 ) وصححه على شرطيهما ووافقه الذهبي ؛ وصححه الألباني .

[7] - أحمد : 3 / 351 ، واللفظ له ، والبخاري في الأدب المفرد ( 732 ) ، وحسنه الحافظ في ( فتح الباري : 10 / 470 ) .

[8] - أحمد : 6 / 450 ، والترمذي ( 1931 ) وحسنه ، وصححه الألباني .

[9] - أحمد : 6 / 461 ، والطبراني في الكبير : 24 / 176 ( 443 ) ، وحسنه المنذري في ( الترغيب : 332 ) والألباني في ( صحيح الترغيب رقم 2847 ) : صحيح لغيره .

[10] - ابن أبي شيبة ( 25535 ، 30642 ) ، والطبراني في الكبير : 4 / 106 ( 3810 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 149 ) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .ا.هـ . وروه أبو نعيم في الحلية : 1 / 94 .

[11] - البخاري ( 4156 ) ، ومسلم ( 2769 ) .
 
19 - الخروج من مجالس المعاصي ؛ الأصل في ذلك قَوْل اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 68 ] ؛ قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رحمه الله : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَهْل الْمُنْكَرِ لاَ تَحِل[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر ، مؤمنًا كان أو كافرًا[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] ؛ فبيَّن أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله : { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } ؛ وبيَّن أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم ، بقوله : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } ، وبيَّن حكم من جالسهم ناسيًا ، ثم تذكر ، بقوله : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ والمراد بهذا كلُّ فرد من آحاد الأمة ، ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها ، فإن جلس أحد معهم ناسيًا ، { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى } بعد التذكر { مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[SUP]( [3] ) [/SUP].
فبعض مجالس المسلمين اليوم يُستهزئ فيها بشرع الله ودينه ، بجهل أو بسوء طوية ، فالبعض يتقصد آيات الكتاب العزيز وأحاديث رسول الله t فيجعل منها سخرية في المجالس ؛ يستهزئ بالأحكام ، وبالمظاهر الإسلامية ، من ثياب ولحى وغير ذلك ، فعلى من حضر مثل هذه المجالس وسمع فيها مثل ذلك أن ينكر عليهم إنكارًا شديدًا ، ويقرأ عليهم ما تقدم من الآيتين ؛ فإن ارتدعوا وتابوا ، فهذا هو المقصود ؛ وإن أبوا وعاندوا ، فيلزمه أن يقوم من المجلس محذرًا إياهم من سوء عاقبة لسوء صنيعهم .
وينسحب الحكم على مجالس أهل البدع والفسق والمعاصي ، فمجالس المنكرات التي يخوض أهلها في أعراض الناس ، أو يجاهرون فيها بالمعاصي ، إذا لم يكن للجالس قدرة على الإنكار والتغيير ، فإنه لا بد من هجر أماكن المعاصي والفسوق .


[1] - تفسير آيات الأحكام : 3 / 392 ، وانظر تفسير القرطبي : 7 / 13 ، وعنده : ( أهل الكبائر ) بدلا من ( أهل المنكر ) .

[2] - نقلا عن ( تفسير القرطبي ) : 7 / 13 .

[3] - انظر تفسير ابن كثير ، و( أضواء البيان ) للشنقيطي عند الآية ( 68 ) من سورة الأنعام .
 
20 - الدعاء ؛ من أدب المجالس التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم : الدعاء ؛ فروى الترمذي والنسائي والحاكم عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ : " اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مصائب الدُّنْيَا ، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا , وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا ، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا , وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال البغوي في ( شرح السنة ) : قوله : " وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا " أي : أبقه معي حتى أموت ؛ قيل : أراد بالسمع وعي ما يسمع والعمل به ، وبالبصر الاعتبار بما يرى ، وقيل : يجوز أن يكون أراد بقاء السمع والبصر بعد الكبر وانحلال القوى ، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى ، والباقيين بعدها[SUP] ( [2] ) [/SUP].
هذا الدعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة ؛ فلنحرص عليه في مجالسنا ، وقول ابن عمر - رضي الله عنهما : ( قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ ) لا يدل على الديمومة ، وإنما يدل على الأكثرية ، والعلم عند الله تعالى .


[1] - الترمذي ( 3502 ) وحسنه , والنسائي في الكبرى ( 10234 ) , والحاكم ( 1934 ) ، وصححه ووافقه الذهبي .

[2] - انظر ( شرح السنة ) : 5 / 175 .
 
21 - كفارة المجلس ؛ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل إِذَا قَامَ مِنْ المَجْلِسِ أَنْ يَقُول : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ " .
فعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ جَلَسَ في مَجْلِسٍ ، فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلا أنْتَ ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
اللغط : الكلام الذي فيه جلبة واختلاط ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ - رحمه الله : عُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا الْكَبَائِرَ ، فَإِنَّهَا لاَ تُكَفَّرُ إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ ، أَوْ بِالْفَضْل الإِْلَهِيِّ ، وَبِمَا عَدَا تَبِعَاتِ الْعِبَادِ ، لأَِنَّ إِسْقَاطَهَا عِنْدَ التَّلَوُّثِ بِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَا ذِي الْحَقِّ ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ .... ثُمَّ قَال : وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ غَفْرُ مَا كَسَبَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْزِيهِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ ، وَالشَّهَادَةِ بِتَوْحِيدِهِ ، ثُمَّ سُؤَال الْمَغْفِرَةِ مِنْ جَنَابِهِ ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يُخَيِّبُ قَاصِدَ بَابِهِ[SUP] ( [2] )[/SUP] .
وعن أَبي بَرْزَة رضي الله عنه قال : كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ بأَخَرَةٍ ، إِذَا أرَادَ أنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلا أنتَ أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إليكَ " . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رسولَ الله ، إنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى ؟ قَالَ : " ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ في المَجْلِسِ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ فَيَقُولُ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ , لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ , أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ , إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، فَقَالَهَا فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ ، كَانَتْ كَالطَّابِعِ يُطْبَعُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ قَالَهَا فِي مَجْلِسِ لَغْوٍ ، كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا ، أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ : " إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ "[SUP] ( [6] ) [/SUP].
فإذا ختم الإنسان المجلس بهذا الذكر كان كفارة لما يكون في المجلس من لغط ونحوه ؛ وإن كان مجلس ذكر كان كالطابع عليه ، وكان خيرًا على خير ؛ ففيه التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار .


[1] - أحمد : 2 / 494 , والترمذي ( 3433 ) ، وقال : حسن صحيح .

[2] - انظر ( دليل الفالحين ) : 3 / 306 .

[3] - أحمد : 4 / 420 ، 425 , وأبو داود ( 4859 ) ، وقال الألباني : حسن صحيح ، والنسائي في الكبرى ( 10259 ) .

[4] - أحمد : 3 / 450 , والطبراني في الكبير : 7 / 154 ( 6673 ) , وقال الأرناؤوط : إسناده صحيح .

[5] - النسائي في الكبرى ( 10257 ) ، والحاكم ( 1970 ) , وصححه الألباني في ( الصَّحِيحَة رقم 81 ) .

[6] - أحمد : 6 / 77 ، والنسائي ( 1344 ) ، وفي الكبرى ( 10231 ) , انظر الصَّحِيحَة ( 3164 ) .
 
22 - السلام عند الخروج ؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه المتقدم أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال : " إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ ، فَلَيْسَتِ الأُْولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآْخِرَةِ " .
 
23 – عدم الإخلال بأمانة المجلس ؛ فمن دُعي إلى مجلس ، وكان في هذا المجلس سرٌّ من أسرار مَنْ بالمجلس ، فلا يجوز أن يفشي هذا السرَّ ؛ فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ ، فَهِيَ أَمَانَةٌ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي مصنف عبد الرزاق عن أبي بكر بن محمد بن حزم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما يَتَجالَسُ المُتَجالِسون بأمانَةِ الله ، فلا يَحلُّ لأَحَدِهِما أنْ يُفْشِيَ عن صاحبِهِ ما يَكْرَه[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وفي ذلك حفظ المسلم سرَّ أخيه ، وتأكد الاحتياط لحفظ الأسرار ، لاسيما عن الأشرار والفجار ؛ فاحذر أن تضيع أمانة استودعتها ، وتضييعها أن تحدث بها غير صاحبها فتكون ممن خالف قول الله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] ، فتكون من الظالمين ، وتحشر في زمرة الخائنين .
وروى أحمد وأبو داود عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ ، إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ : مَجْلِسٌ يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ حَرَامٌ ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ فَرْجٌ حَرَامٌ ، وَمَجْلِسٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ[SUP] ( [3] ) [/SUP].
فما وقع في المجالس من الأقوال والأفعال - مما هو في حكم السرِّ - ملابس للأمانة ، فلا يجوز إفشاؤه بين الناس .
قَال الْغَزَالِيُّ – رحمه الله : إِفْشَاءُ السِّرِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيذَاءِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَقِّ الْمَعَارِفِ وَالأَْصْدِقَاءِ ، قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل الْحَدِيثَ ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وَإِفْشَاءُ السِّرِّ حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ ، وَلُؤْمٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ ؛ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ خَطَرِ إِفْشَاءِ السِّرِّ ثَلاَثَةُ مَجَالِسَ ؛ قال المناوي - رحمه الله : " دَمٌ حَرَامٌ " أي : إراقة دم سائل من مسلم بغير حق ، أو " فَرْجٌ حَرَامٌ " أي : وطئه على وجه الزنا ، ( أو اقتطاع مال ) أي : ومجلس يقتطع فيه مال لمسلم أو ذمي ( بغير حق ) شرعي يبيحه ؛ يعني : من قال في مجلسٍ : أريد قتل فلان ، أو الزنا بفلانة ، أو أخذ مال فلان ظلمًا ، لا يجوز للمستمعين حفظ سره ، بل عليهم إفشاؤه دفعًا للمفسدة ؛ ذكره بعضهم ، وقال القاضي : يريد أن المؤمن ينبغي إذا حضر مجلسًا ، ووجد أهله على منكر أن يستر عوراتهم ، ولا يشيع ما يرى منهم ، إلا أن يكون أحد هذه الثلاثة ، فإنه فسادٌ كبير ، وإخفاؤه إضرار عظيم[SUP] ( [5] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 3 / 379 ، وأبو داود ( 4868 ) ، والترمذي ( 1959 ) ، وحسنه ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 1089 ) .

[2] - عبد الرزاق ( 19791 ) ، ورواه البيهقي في الشعب ( 11191 ) من طريق عبد الرزاق وقال : هذا مرسل جيد .

[3] - أحمد : 3 / 342 ، وأبو داود ( 4869 ) ، وفيه ضعف لجهالة ابن أخي جابر ، وله شواهد من حديث علي وابن عباس ، ولا تخلو من مقال .

[4] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 132 .

[5] - انظر ( فيض القدير ) 6 / 262 .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة ، وهو جهد مَنْ بضاعته مزجاة ، وعمل البشر محفوف بالنقص .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
ومع ذلك فإني أطمع في فضل الله تعالى وكرمه أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
عودة
أعلى