محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فقد عرفت المجتمعات منذ القديم المجالس ، وهي أماكن تُعَد للجلوس والحديث ، وقد يكون بها مصالح أخرى كالصلح بين المتخاصمين .. ونحو ذلك .
وقد كانت مجالس العرب على الطرقات ، لأن البيوت لم تكن تتسع لها ، فلمَّا نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ " ؛ قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : " غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
وقد تكلمنا في رسالة ( آداب الطريق ) عن هذه الحقوق وغيرها .
والمجالس مجتمعات مصغرة ، يحضرها أناس من طبقات عدة ، ويتكلم فيها رجال مختلفي المشارب ؛ فمنهم الصالح ومنهم الطالح ، ومنهم المصلح ومنهم المفسد ، والعاقل من يدير دفة المجلس لما فيه خير المجلس في دينهم ودنياهم ، فإن لم يستطع ، فالإعراض عن ذلك المجلس هو محض الخير ، وعين الصواب ؛ لأنه يسلم مما فيه من الإثم ، خاصة إذا كان فيه استهزاء بشيء من الدين ؛ فقد قال تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ النساء : 140 ] ؛ وقال عزو جل : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 68 ] .
فلا ينبغي للمسلم أن يجلس مجلسًا تنتهك فيه لله حرمات ، وتدور فيه كؤوس الإثم واللغو والمنكرات ، يشاركهم فيه ضحكهم ولهوهم وأكلهم وشربهم ، ويشركهم في الإثم ، غير مبال بما ينزل على مجلسهم هذا من غضب الله ومقته .
ولكن يمكن له أن يغشاهم لنصحهم وأمرهم ونهيهم ، بقدر الحاجة ، وبما يحقق المصلحة والإصلاح ؛ وليحذر أن يجالسهم وهم في معاصيهم ومنكراتهم بلا أمر ولا نهي ؛ فإن ذلك مما لعن الله تعالى عليه بني إسرائيل ؛ قال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
ومجالس الناس اليوم قَلَّ أن تجد فيها مجلسًا يُذكر فيه الله تعالى والدار الآخرة ، بل عمَّت كثيرًا من المجالس الغفلة والمنكرات ، وفشت الغيبة والنميمة والطعن في الأعراض ، والاستخفاف بالمحرمات ؛ فبئست هذه المجالس ، وبئس جالسوها .
وهناك مجالس أخرى تحفها الملائكة ، وتغشاها الرحمة ، ويذكرهم الله فيمن عنده ، ولا يشقى بهم جليسهم ، ويقال لهم : قوموا مغفورا لكم .. تلك مجالس العلم والذكر ، وسواء أكانت في المساجد أم في البيوت ؛ فنعمت المجالس ، ونعم جالسوها .
وهناك مجالس اختلط فيها الحديث بين دين ودنيا ، ولم يخرج أهلها عنها إلا مع ذكر واستغفار ، فهم فيها يناقشون بعض أمور دنياهم ، ولا ينسون خالقهم ؛ لا يغتابون أحدًا ، ولا يذكرون أحدًا بسوء ، ثم ينفضُّون عنها بكفارة المجلس . فهذه وإن كانت دون السابقة ، ففيها خير وفائدة .
تلك أنواع المجالس ، أما ما يتعلق بآدابها ، ففيها تتجلى جميع آداب المسلم الاجتماعية ، وقد علَّمنا الإسلام آدابًا جليلة للمجالس ، فأمر الله عز وجل بالتوسع والتفسح في المجالس للقادمين إليها ، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم لها آدابًا تُبِينُ عن عظمة هذا الدين ؛ من إلقاء السلام عند دخول المجلس وعند الخروج منه ، والجلوس حيث انتهى به المجلس ، وألا يقيم أحدًا ليجلس مكانه ، وألا يتناجى اثنان دون الآخر ، وأن تحفظ أسرار المجلس ، وأن يختم المجلس بالدعاء وكفارة المجلس ... إلى غير ذلك من الآداب التي هي موضوع حديثنا في هذه الرسالة ( آداب المجالس ) ، ونتناول فيها الحديث حول المحاور الآتية :
معنى المجالس .
أثر الجليس .
أنواع المجالس .
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أهمية المجالس .
منكرات المجالس .
آداب المجالس .
خاتمة .
والله الكريم اسأل أن يتقبلها ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، وأن ينفع بها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ن ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
[1] - البخاري ( 2333 ، 5875 ) ، ومسلم ( 2121 ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
فقد عرفت المجتمعات منذ القديم المجالس ، وهي أماكن تُعَد للجلوس والحديث ، وقد يكون بها مصالح أخرى كالصلح بين المتخاصمين .. ونحو ذلك .
وقد كانت مجالس العرب على الطرقات ، لأن البيوت لم تكن تتسع لها ، فلمَّا نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ " ؛ قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : " غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
وقد تكلمنا في رسالة ( آداب الطريق ) عن هذه الحقوق وغيرها .
والمجالس مجتمعات مصغرة ، يحضرها أناس من طبقات عدة ، ويتكلم فيها رجال مختلفي المشارب ؛ فمنهم الصالح ومنهم الطالح ، ومنهم المصلح ومنهم المفسد ، والعاقل من يدير دفة المجلس لما فيه خير المجلس في دينهم ودنياهم ، فإن لم يستطع ، فالإعراض عن ذلك المجلس هو محض الخير ، وعين الصواب ؛ لأنه يسلم مما فيه من الإثم ، خاصة إذا كان فيه استهزاء بشيء من الدين ؛ فقد قال تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ النساء : 140 ] ؛ وقال عزو جل : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 68 ] .
فلا ينبغي للمسلم أن يجلس مجلسًا تنتهك فيه لله حرمات ، وتدور فيه كؤوس الإثم واللغو والمنكرات ، يشاركهم فيه ضحكهم ولهوهم وأكلهم وشربهم ، ويشركهم في الإثم ، غير مبال بما ينزل على مجلسهم هذا من غضب الله ومقته .
ولكن يمكن له أن يغشاهم لنصحهم وأمرهم ونهيهم ، بقدر الحاجة ، وبما يحقق المصلحة والإصلاح ؛ وليحذر أن يجالسهم وهم في معاصيهم ومنكراتهم بلا أمر ولا نهي ؛ فإن ذلك مما لعن الله تعالى عليه بني إسرائيل ؛ قال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 ، 79 ] .
ومجالس الناس اليوم قَلَّ أن تجد فيها مجلسًا يُذكر فيه الله تعالى والدار الآخرة ، بل عمَّت كثيرًا من المجالس الغفلة والمنكرات ، وفشت الغيبة والنميمة والطعن في الأعراض ، والاستخفاف بالمحرمات ؛ فبئست هذه المجالس ، وبئس جالسوها .
وهناك مجالس أخرى تحفها الملائكة ، وتغشاها الرحمة ، ويذكرهم الله فيمن عنده ، ولا يشقى بهم جليسهم ، ويقال لهم : قوموا مغفورا لكم .. تلك مجالس العلم والذكر ، وسواء أكانت في المساجد أم في البيوت ؛ فنعمت المجالس ، ونعم جالسوها .
وهناك مجالس اختلط فيها الحديث بين دين ودنيا ، ولم يخرج أهلها عنها إلا مع ذكر واستغفار ، فهم فيها يناقشون بعض أمور دنياهم ، ولا ينسون خالقهم ؛ لا يغتابون أحدًا ، ولا يذكرون أحدًا بسوء ، ثم ينفضُّون عنها بكفارة المجلس . فهذه وإن كانت دون السابقة ، ففيها خير وفائدة .
تلك أنواع المجالس ، أما ما يتعلق بآدابها ، ففيها تتجلى جميع آداب المسلم الاجتماعية ، وقد علَّمنا الإسلام آدابًا جليلة للمجالس ، فأمر الله عز وجل بالتوسع والتفسح في المجالس للقادمين إليها ، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم لها آدابًا تُبِينُ عن عظمة هذا الدين ؛ من إلقاء السلام عند دخول المجلس وعند الخروج منه ، والجلوس حيث انتهى به المجلس ، وألا يقيم أحدًا ليجلس مكانه ، وألا يتناجى اثنان دون الآخر ، وأن تحفظ أسرار المجلس ، وأن يختم المجلس بالدعاء وكفارة المجلس ... إلى غير ذلك من الآداب التي هي موضوع حديثنا في هذه الرسالة ( آداب المجالس ) ، ونتناول فيها الحديث حول المحاور الآتية :
معنى المجالس .
أثر الجليس .
أنواع المجالس .
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أهمية المجالس .
منكرات المجالس .
آداب المجالس .
خاتمة .
والله الكريم اسأل أن يتقبلها ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، وأن ينفع بها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ن ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1] - البخاري ( 2333 ، 5875 ) ، ومسلم ( 2121 ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .