مجموع آداب الطريق
انتظم في حديث أبي سعيد المتقدم خمسة حقوق وهي : غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ ؛ وفي رواية عند أحمد : قَالُوا : وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ : " رُدُّوا السَّلَامَ ، وَغُضُّوا الْبَصَرَ ، وَأَرْشِدُوا السَّائِلَ ، وَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ " ( 1 ) ؛ ففيه : " وَأَرْشِدُوا السَّائِلَ " بدل : " كَفُّ الأَذَى " ؛ فهذه سادسة لها شاهد من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمَجَالِسِ بِالصُّعُدَاتِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَيَشُقُّ عَلَيْنَا الْجُلُوسُ فِي بُيُوتِنَا ، قَالَ : : " فَإِنْ جَلَسْتُمْ فَأَعْطُوا الْمَجَالِسَ حَقَّهَا " ، قَالُوا : وَمَا حَقُّهَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " إِدْلالُ السَّائِلِ ، وَرَدُّ السَّلامِ ، وَغَضُّ الأَبْصَارِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ " رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) ( 2 ) ، ورواه أبو يعلى ابن حبان والحاكم بلفظ : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن تجلسوا بأفنية الصعدات ، قالوا : يا رسول الله إنا لا نستطيع ذلك ولا نطيقه ؛ قال : " إِمَّا لاَ ، فَأَدُّوا حَقَّهَا " قالوا : وما حقها يا رسول الله ؟ قال : " رَدُّ التَّحِيَّةِ ، وَتَشْمِيت الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ الله ، وَغَضُّ الْبَصَرِ ، وَإِرْشَاد السَّبِيل " ( 3 ) ؛ فزاد : " وَتَشْمِيت الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ الله " ، " وَإِرْشَاد السَّبِيل " ، وروى أبو داود بعد حديث أبي سعيد المتقدم بإسناده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ : " وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ " ( 4 ) .
وفي صحيح مسلم عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ أَبُو طَلْحَةَ رَضِي الله عنه : كُنَّا قُعُودًا بِالأَفْنِيَةِ نَتَحَدَّثُ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ : " مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ ؟ اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ " ، فَقُلْنَا إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَاسٍ ، قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ ؛ قَالَ : " إِمَّا لاَ ، فَأَدُّوا حَقَّهَا : غَضُّ الْبَصَرِ ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَحُسْنُ الْكَلاَمِ " ( 5 ) ، و (الصُّعُدَات ) هي الطرقات ، واحدها صعيد كطريق . وعند أحمد والترمذي وابن حبان عَنِ الْبَرَاءِ رَضِي الله عنه قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : " إِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَجْلِسُوا ، فَاهْدُوا السَّبِيلَ ، وَرُدُّوا السَّلَامَ ، وَأَعِينُوا الْمَظْلُومَ " ولفظ ابن حبان " وَأَغِيثُوا الْمَلْهُوفَ " ( 6 ) .
وروى أبو داود عَنِ ابْنِ حُجَيْرٍ الْعَدَوِىِّ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ - قَالَ : " وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ ، وَتَهْدُوا الضَّالَّ " ( 7 ) .
وعند الطبراني في ( المعجم الكبير للطبراني ) عن وَحْشِيُّ بن حَرْبِ رَضِي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَعَلَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ بَعْدِي مَدَائِنَ عِظَامًا ، وتَتَّخِذُونَ فِي أَسْوَاقِهَا مَجَالِسَ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَرُدُّوا السَّلامَ ، وَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِكُمْ ، وَاهْدُوا الأَعْمَى ، وَأَعِينُوا الْمَظْلُومَ " ( 8 ) .
وفي ( مسند البزار ) عن ابن عباس - رَضِي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قَال : " لاَ تَجْلِسُوا فِي الْمَجَالِسِ ، فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ بُدَ فَاعِلِينَ ، فَرُدُّوا السَّلَامَ ، وَغُضُّوا الأَبْصَارَ ، وَاهْدُوا السَّبِيلَ ، وَأَعِينُوا عَلَى الْحَمُولَة " ( 9 ) ، وروى ابن السني في ( اليوم والليلة ) ، والبغوي في ( السنة ) عن أبي هريرة رَضِي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا خَيرَ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ إِلا مَنْ هَدَى السَّبِيلَ ، وَرَدَّ التَّحِيَّةِ ، وغض البصر ، وَأَعَانَ عَلَى الْحَمُولَة " ( 10 ) ؛ وروى الطبراني عَنْ سَهْلِ بن حُنَيْفٍ رَضِي الله عنه قَالَ : قَالَ أَهْلُ الْعَالِيَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لا بُدَّ لَنَا مِنْ مَجَالِسَ ، قَالَ : " فَأَدُّوا حَقَّ الْمَجَالِسِ " ، قَالُوا : وَمَا حَقُّ الْمَجَالِسِ ؟ قَالَ : " ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا ، وَأَرْشِدُوا السَّبِيلَ ، وَغُضُّوا الأَبْصَارَ " ( 11 ) .
قال ابن حجر - رحمه الله : وَمَجْمُوع مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَرْبَعَة عَشَرَ أَدَبًا وَقَدْ نَظَمْتهَا فِي ثَلَاثَة أَبْيَات وَهِيَ :
جَمَعْت آدَابَ مَنْ رَامَ الْجُلُوس عَلَى ... الطَّرِيق مِنْ قَوْل خَيْر الْخَلْق إِنْسَانَا
اُفْشُ السَّلَام وَأَحْسِنْ فِي الْكَلَام وَشَمِّـ ... ـتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْل عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ وَأَغِـ ... ـثْ لَهْفَان اِهْدِ سَبِيلًا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكُر وَكُفَّ أَذَىً ... وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْر مَوْلَانَا
قلت : قال الحافظ في ( فتح الباري ) وَفِي حَدِيث وَحْشِيِّ بْن حَرْب عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ الزِّيَادَة " وَاهْدُوا الْأَغْبِيَاء " ، وهكذا نقلها عنه الشوكاني - رحمه الله - في ( نيل الأوطار ) ، ولم أجده عند الطبراني بهذا اللفظ ، وإنما وجدته بلفظ : " وَاهْدُوا الأَعْمَى " ؛ وذكر الحافظ - رحمه الله - ( إفشاء السلام ) ونسبه إلى الترمذي ، ولم أجده عند الترمذي ، فلعلها رواية . وإفشاء السلام أعم من ردِّه الذي وردت به الروايات .
فلو استبدلنا في البيت ( اهد أعمى ) بـ ( افش سلامًا ) ، لانتظمت الآداب أربعة عشرة ، ولو أبقينا ما ذكره الحافظ - رحمه الله - على أنه رواية لم أقف عليها ، لزادت أدبًا ، فيكون المجموع خمسة عشر أدبًا ، يأتيك بيانها بعد أن نتحدث عن إماطة الأذى ، ليستتم به ستة عشر أدبًا ؛ وَلِكُلٍّ مِنْ الْآدَاب الْمَذْكُورَة شَوَاهِد فِي أَحَادِيث أُخْر .
هذا والعلم عند الله تعالى .
( 1 ) - مسند أحمد : 3 / 61 .
( 2 ) الأدب المفرد ( 1149 ) ، وصححه الألباني .
( 3 ) مسند أبي يعلى ( 6626 ) ، وصحيح بن حبان بترتيب ابن بلبان ( 596 ) ، والحاكم ( 7688 ) وصححه ووافقه الذهبي .
( 4 ) أبو داود ( 4816 )
( 5 ) مسلم ( 2161 ) ، ورواه النسائي في الكبرى ( 11362 ) .
( 6 ) أحمد : 4 / 282 ، 293 ، والترمذي ( 2726 ) وحسنه ، وصحيح بن حبان بترتيب ابن بلبان ( 597 ) .
( 7 ) أبو داود ( 4817 ) ، ومن طريقه البيهقي في ( الشعب ) رقم ( 7621 ) ، وصححه الألباني .
( 8 ) المعجم الكبير : 22 / 138 ( 367 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 62 ) : رجاله كلهم ثقات ، وفى بعضهم ضعف .
( 9 ) رواه البزار ( 5232 ) ، وقال : وهذا الكلام قد روي نحوه عن النبي بألفاظ مختلفة ، ولاَ نَعْلَمُ يروى في حديث : " وأعينوا على الحمولة " إلاَّ في هذا الحديث ، ولاَ نَعْلَمُ لابن عباسٍ طريقًا غير هذا الطريق ؛ وداود بن علي كان في نسبه عال ، ولم يكن بالقوي في الحديث ؛ على أنه لا يتوهم عليه إلاَّ الصدق ، وَإنَّما يكتب حديثه ما لم يروه غيره .ا.هـ . قلت : روى هذه الزيادة ابن السني والبغوي كما ذكرنا ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 376 ) في حديث ابن عباس : رواه البزار ، وفيه محمد بن أبي ليلى ، وهو ثقة سيئ الحفظ ، وبقية رجاله وثقوا .
( 10 ) ابن السني ( 427 ) ، والبغوي في ( شرح السنة ) رقم ( 3339 ) ، ورواه هناد في ( الزهد ) برقم ( 1229 ) وفيه يحيى بن عبيد الله بن موهب قال البخاري في ( التاريخ الكبير رقم 3056 ) : كان ابن عيينة يضعفه .ا.هـ . ونقل ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل : 9 / 167 ) ضعفه عن أبيه وابن عيينة وأحمد وغيرهم .
( 11 ) رواه الطبراني في الكبير : 6 / 87 ( 5592 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 376 ) : وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن الأنصاري ، تابعي ؛ لم أعرفه ، وبقية رجاله وثقوا .ا.هـ . قلت : وأبو بكر هذا له ترجمة في ( الأسامي والكنى ) لأبي أحمد الحاكم الكبير ، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا .