الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد : فالمنزل والبيت والمسكن والدار ، هو ذلك المكان الذي أعدَّه الإنسان ليأوي إليه ، ويسكنه ، ويرتاح فيه بعد كَدِّه وتعبه في السعي على رزقه وقضاء حوائجه . وهذا المكان نعمة من الله تعالى تستوجب الشكر ، وله آداب عند الخروج منه والدخول فيه ، علمنا إياها رسول الله e ، فعلى المسلم أن يتعلمها ، ويعمل بها ، لما فيها من تحقيق العبودية لله تعالى ، وشكرٍ لنعمته ، ومع ذلك ففيها من الفضل والأجر ما يدعو للعمل بها . وسأتناول في هذه الرسالة هذا الموضوع من خلال المحاور الآتية : معنى المنزل والبيت والمسكن والدار . نعمة المسكن . شكر نعمة السكن . آداب الخروج من المنزل والدخول فيه . ما يقول عند الخروج . فضل صلاة ركعتين عند الخروج . آداب عند الدخول . آداب أخرى . فضل السلام إذا دخل بيته . آداب إذا دخل بيته مساء . استحباب السواك عند دخول المنزل . فضل صلاة ركعتين عند الدخول . ما يقول إذا دخل بيتًا لا أحد فيه . هذا ، والله الكريم أسأل أن ينفع به كاتبه وناشره وقارئه والدال عليه ، إنه جواد كريم ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب .
المنزل : المَنْزِل : موضع النُّزول ؛ وقال الجوهري : المَنْزِل : المَنْهَل والدارُ ( [1] ) ؛ سمي الدار منزلا لسكناه وكثرة النزول به ؛والمَنْهَلُ : الموضعُ الذي فيه المَشْرَبُ ، فيكثر النزول عنده ، فسُمي منزلا . وقال القونوي – رحمه الله - في ( أنيس الفقهاء ) : المنزل : اسم لما يشتمل على بيوت ( حجرات ) ، وصحن مسقف ، ومطبخ ؛ ليسكنه الرجل بعياله . والبيت : اسم لسقف واحد له دهليز ، والدهليز : ما بين الباب والدار ، فارسي معرب ؛ والجمع الدهاليز . والدار : اسم يشتمل على بيوت ، ومنازل ، وصحن غير مسقف ؛ فكانت أعم من أختيها ، لاشتمالها عليهما ( [2] ) .
البيت : المسكن ، من البيتوتة ، وهي النوم ليلا ، وكأنه سُمي بيتًا لكثرة بيتوتة الإنسان فيه . قال القرطبي – رحمه الله : وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت .ا.هـ . وقال ابن عاشور – رحمه الله في ( التحرير والتنوير ) : والبيت : مكان يجعل له بناء وفسطاط يحيط به ، يُعيِّنُ مكانه ، ليتّخذه جاعلُه مقَرًّا يأوي إليه ، ويستكنُّ به من الحرِّ والقَرِّ ؛ وقد يكون محيطُه من حَجَر وطين ، ويسمَّى جدارًا ، أو من أخشاب أو قصب أو غير ذلك ، وتُسمّى - أيضًا - الأخصاص ؛ ويوضع فوق محيطه غطاء ساتر من أعلاه يسمَّى السقْف ، يُتَّخذ من أعواد ويُطيَّن عليها ، وهذه بيوت أهل المدن والقرى . وقد يكون المحيط بالبيت مُتَّخَذًا من أديم مدبوغ ( جلد ) ، ويسمى القبَّة ، أو من أثواب تُنْسج من وَبر أو شَعْر أو صُوف ، ويسمَّى الخَيمة أو الخباءَ ؛ وكلُّها يكون بشكل قريب من الهرميِّ ، تلتقي شُقَّتاه ، أو شُققه من أعلاه معتمدةً على عمود ، وتنحدر منه مُتَّسعَة على شكل مخروط ؛ وهذه بيوت الأعراب في البوادي ، أهل الإبل والغنم يتَّخذونها ؛ لأنها أسعد لهم في انتجاعهم ، فينقلونها معهم إذا انتقلوا يتتبَّعُون مواقع الكَلأ لأنعامهم ، والكَمْأة لعَيشهم .ا.هـ .
المسكن : مكان السكن ،والسكن:منالسكون،والسُّكُونُضدُّالحركة،أي: القرار ، وهو ما سكنتَ إليه ، وما سَكنْتَ فيه ، ويسمَّى البيتُ سكنًا ، لأن الإنسان جعله مقرًّا له ، فالسَّكَنُ والمَسْكَنُ والمَسْكِن : المنزلوالبيت؛أي : مكانًا تسكنون فيه وتخلدون للراحة ، ويستر عوراتكم وحرمكم ؛قالتعالى: ] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [ [ النحل : 80 ] ( [3] ) .
الدار : المحل يجمع البناء والعرصة ( الفناء ) ، من دَارَ يَدُورُ ، لكثرة حركات الناس فيها ؛ وفي حديث زيارة القبور : " السلام عليكم دَارَ قَوْمٍ مؤمنين " ، سمي موضع القبور دارًا تشبيهًا بدار الأَحياء ، لاجتماع الموتى فيها . فدُور القوم وديارُهم : منازل إقامتهم ؛ فهي المنازلُ المسكونَة ( [4] ) .
[1] - انظر لسان العرب باب اللام فصل النون ، والمصباح المنير ( مادة : ن ز ل ) .
] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [ [ النحل : 80 ] . هذا من تعداد النِّعم التي ألهم الله إليها الإنسان ، وهي نعمة الفكر بصنع المنازل الواقية والمرفِّهة ، وما يشبهها من الثياب والأثاث ؛ وكلُّ هذا من الألطاف التي أعدَّ الله لها عقل الإنسان وهيَّأَ له وسائلها . ونعمة الإلهام إلى اتِّخاذ المساكن هي أصل حفظ النوع من غوائل حوادث الجوِّ من شدَّة بردٍ أو حرٍّ ، ومن غوائل السباع والهوامِّ ، ودفعًا لتطاول السرَّاق والمعتدين ، وحفظًا لمقتنيات الإنسان وأمواله . وهي - أيضًا - أصل الحضارة والتمدُّن ؛ لأن البلدان ومنازل القبائل تتقوَّم من اجتماع البيوت ؛ وأيضًا تتقوَّم من مجتمع الحِلل والخيام . والسكن ما يُسكَن إليه ، أي : يُطمأن إليه ويُرتاح به وفيه ؛ أي : مكانًا تسكنون فيه وتخلدون للراحة ، وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي ، وهو سكون النفس ، أي : سلامتها من الخوف ونحوه ، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي ، فتكون النفس كأنها غير مستقرة ، ولذلك سمي ذلك قَلَقًا ؛ لأن القلق كثرة التحرك . قال الرازي – رحمه الله : واعلم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين ؛ القسم الأول : البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت ؛ وإليها الإشارة بقوله : ] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [ وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله ، بل الإنسان ينتقل إليه .
والقسم الثاني : القباب والخيام والفساطيط ، وإليها الإشارة بقوله : ] وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ [ وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى مكان .ا.هـ . فامتن الله - الذي له الحكمة البالغة والقدرة الشاملة - على عباده بأن جعل لهم من بيوتهم التي يبنونها من الحجر وغيره من أدوات البناء ويسقفونها ، موضعًا يسكنون فيه ، فيأوون إليه ، وينتفعون به من سائر وجوه الانتفاع ، فيستر عوراتهم وحرمهم ، ويقيهم حر الصيف وبرد ومطر الشتاء ، ويحفظون فيه متاعهم وأغراضهم ، ولا يُحصى كم في هذه النعمة من وجوه المنافع . فمن أعظم نِعَم الله على عباده أن يكون لهم سكَن يأوون إليه ، ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة . ومن نعمه - أيضًا - أن جعل لهم من جلود الأنعام بيوتًا أخر ، مغايرة لبيوتهم المعهودة ، وهي : القباب والخيام وغير ذلك من البيوت التي يخف عليهم حملها في أسفارهم في النقض والحمل والنقل ؛ ويخف عليهم نَصْبها وقت نزولهم في الضرب والبناء ، فلا تثقل عليهم في الحالتين . فهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت ، فذكر أولا بيوت المدن ، وهى التي للإقامة الطويلة ؛ ثم ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة ؛ فلما ذكر البيوت المسكونة امتن بكونه جعلها سكنًا يسكنون فيها من تعب الحركات ؛ وذكر أنه جعل لهم بيوتًا أخرى يحملونها معهم ويَستَخفُّونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم ؛ فذكر البيوت الثقيلة التي لا تحمل ، والخفيفة التي تحمل . وامتن عليهم Y بنعمة أخرى يتم بها كمال السكن ، بأن جعل لهم من أصواف الغنم ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ما يكون فراشًا وأثاثًا لهذه المساكن ، فالأثاث ها هنا هو متاع البيت ؛ وجعل ذلك مما يتمتع به بأنواع التمتع ؛ وقيل : إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء ، والمتاع ما يفرش في المنازل من الفرش والأكسية ويتزين به ؛ والمتاع ولو أنه يطلق على ما في الأرحال من فرش وأغطية وأدوات ، إلا أنه يشي بالتمتع والارتياح . ومعنى ] إِلَى حِينٍ [ أي : إلى أن تقضوا أوطاركم منه ، أو إلى أن يبلى ويفنى ، أو إلى الموت ، أو إلى القيامة . والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ، ولا سكن ، ولا طمأنينة . قال سيد قطب - رحمه الله : ونستطرد هنا إلى شيء عن نظرة الإسلام إلى البيت ، بمناسبة هذا التعبير الموحي : ] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [ فهكذا يريد الإسلام البيت مكانًا للسكينة النفسية ، والاطمئنان الشعوري ؛ هكذا يريده مريحًا تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن ، سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة ، أو باطمئنان من فيه بعضهم لبعض ، وبسكن من فيه كل إلى الآخر ؛ فليس البيت مكانًا للنزاع والشقاق والخصام ، إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام . ومن ثم يضمن الإسلام للبيت حرمته ، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه ؛ فلا يدخله داخل إلا بعد الاستئذان ، ولا يقتحمه أحد بغير حق باسم السلطان ، ولا يتطلع أحد على من فيه لسبب من الأسباب ، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة ، فيروع أمنهم ، ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت ، ويعبر عنه ذلك التعبير الجميل العميق ( [1] ) .
[1]- انظر تفسير ابن جرير ، وتفسير الرازي ، وتفسير البغوي ، وتفسير القرطبي ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير أبي السعود ، والتحرير والتنوير ، وفي ظلال القرآن ، عند الآية ( 80 ) من سورة النحل .
النعم واجبها الشكر ، ولذلك يعلمنا النبي e أن نشكر نعمة السكن ، ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا ، وَآوَانَا ، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُئْوِىَ " ، أي : لا موطن له ، ولا مسكن يأوي إليه ويسكن إياه . ومعنى : " وَكَفَانَا " أي : دفع عنا شر خلقه ، " وَآوَانَا " أي : في كِنٍّ نسكن فيه ، يقينا الحر والبرد ، ونحرز فيه متاعنا ، ونحجب به عيالنا ؛ " فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُئْوِيَ " أي : كثير من خلق الله لا يكفيهم الله شر الأشرار ، ولا يجعل لهم مسكنًا ، بل هم يتأذون في الصحارى وغيرها بالبرد والحر ، ويتعرضون لإيذاء الوحوش وغيرها ؛ فلا سكن ، ولا اطمئنان ، ولا راحة ؛ فحري بنا أن نقول كما علَّمَنَا نبيُّنا e : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا ، وَآوَانَا ، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُئْوِىَ " .
للخروج من المنزل والدخول فيه آداب جميلة لها فضل وأجر ، يسعد من يلتزمها ، وبيانها كالتالي :
ما يقول عند الخروج
يستحب لمن يخرج من بيته أن يقول : " بِسْمِ اللَّهِ ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ " ؛ لما روى أبو داود والترمذي عن أنس t قال : قال رسول الله e : " إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ " ، قَالَ : " يُقَالُ حِينَئِذٍ : هُدِيتَ ، وَكُفِيتَ ، وَوُقِيتَ ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ : كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ ، وَكُفِيَ ، وَوُقِيَ ؟ " ؛ وروى نحوه ابن ماجة عن أبي هريرة t ( [1] ) . قوله : " بِسْمِ اللهِ " أي : خرجت مستعينًا بذكر اسم الله ، " تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ " أي : اعتمدت عليه في جميع أموري ، " لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ " لا تحول من حال إلى حال ، ولا قوة على ذلك إلا بالله تعالى . قوله e : " " يُقَالُ حِينَئِذٍ " أَيْ : يُنَادِيهِ مَلَكٌ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، " هُدِيتَ " أي : يسَّرَ الله لك طرق الهدى ، " وَكُفِيتَ " أَيْ : مُهِمَّاتِكَ مما تريد وتطلب ، " وَوُقِيتَ " مِنَ الْوِقَايَةِ ، أَيْ : حُفِظْتَ مِنْ شَرِّ أَعْدَائِكَ ؛ " فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ " أَيْ : تَبَعَّدَ ؛ " فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ : كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ ، وَكُفِيَ ، وَوُقِيَ " ، أي : لا سبيل لك عليه . وفي مصنف عبد الرزاق عن كعب قال : إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله ؛ قال له الملك ( هديت ) ، وإذا قال : توكلت على الله ، قال له الملك : ( كفيت ) وإذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، قال الملك : ( وقيت ) قال : فتتفرق الشياطين ، فتقول : لا سبيل لكم إليه ، إنه قد هدي وكفي ووقي ( [2] ) . وكعب هو كعب الأحبار – رحمه الله – وكان أسلم في عهد عمر t ؛ وكلامه يحتمل أن يكون تفسيرًا لحديث النبي e ، ويحتمل أنه مما توافق عليه أهل الكتاب قبلنا ، وهذا يدل على فائدة هذا الذكر عند الخروج من المنزل .. والعلم عند الله تعالى . وروى أحمد وأهل السنن عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ : " بِسْمِ اللهِ ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ ، أَوْ نَضِلَّ ، أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا " ؛ وفي رواية : ما خرج رسولُ الله e من بيته قَطُّ إلا رَفَعَ طَرْفَهُ إلى السماءِ فقال : " اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ " ( [3] ) . قوله : " بِسْمِ اللهِ " أي : خرجت مستعينًا بذكر اسم الله ، " تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ " أي : اعتمدت عليه في جميع أموري ، " اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ " أي : من أن نقع في ذنب ومعصية ، من الزلل ، يقال : زلت رجله إذا زلقت ، وهي هنا كناية عن وقوع الذنب من غير قصد ؛ وفي الرواية الأخرى : " أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ " ، أي : أقع في ذنب من قبل نفسي ، أو يوقعني فيه أحد . وقوله : " أَوْ نَضِلَّ " من الضلالة ، وهو ضد الرشاد والهداية ؛ أي : نَضِل عن الحق أو عن الهدى ؛ وفي الرواية الأخرى : " أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ " أي أقع في الضلالة من قبل نفسي ، أو يوقعني فيها غيري . وقوله : " أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ " بالجمع ، وفي الرواية الأخرى : " أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ " بالمفرد ، أي : أن أظلم أحدًافيالمعاملات،أوأنأؤذيهمفيالمخالطات، أو يظلمني أحدٌ ؛ ومن سَلِمَ من ظلم غيره ، وسَلِمَ الناس من ظلمه ، فقد عُوفي ، وعوفي الناس منه ؛ وكان بعض السلف يدعو : اللهم سلِّمني ، وسلِّم مني . وقوله : " أَوْ نَجْهَلَ ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا " بالجمع ، وفي الرواية الثانية : " أَوْ أَجْهَلَ ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ " بالإفراد ؛ أي : أفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء وإيصال الضرر إليهم ، أو أن يفعل الناسبناأفعالالجهالمنإيصالالضررإلينا. قال الطيبي - رحمه الله : ومن خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ، ويزاول الأمور ، فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم ، فإما أن يكون في أمر الدين ، فلا يخلو من أن يضل أو يضل ؛ وإما أن يكون في أمر الدنيا ، فإما بسبب جريان المعاملة معهم ، بأن يظلم أو يُظلم ؛ وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة ، فإما أن يجهل أو يجهل عليه ، فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلس،ومتنرشيق، وروعي المطابقة المعنوية ، والمشاكلة اللفظية .ا.هـ ( [4] ) . والقصد من ذلك تعليم الأمة ، وإلا فهو e معصوم من الزلل والظلم والجهل.
[1] - أبو داود ( 5095 ) ، والترمذي ( 3426 ) ، والنسائي في الكبرى ( 9917 ) ، ورواه ابن ماجة ( 3886 ) عن أبي هريرة.
[2] - مصنف عبد الرزاق ( 19827 ) ، وإسناده صحيح إلى كعب ، وهو كعب الأحبار ، فربما يكون ذلك مما نقله عن كتبهم ، وربما يكون تفسيرا لحديث النبي e ، والعلم عند الله تعالى .
[3] - أحمد : 6 / 306 ، 318 ، وأبو داود ( 5094 ) ، والترمذي ( 3427 ) وصححه ، والنسائي ( 5486 ) ، وابن ماجة ( 3884 ) .
روى البزار والبيهقي عن أبي هريرة t عن النبي e قال : " إِذَا خَرجْتَ مِنْ مَنْزِلَكَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْن ، تَمْنَعانِك مَخْرجَ السُّوءِ ، وَإِذَا دَخَلتَ إِلَى مَنْزِلِكَ فَصَلِّ رَكْعَتين ، تَمْنَعانِكَ مَدْخَلَ السُّوءِ " ( [1] ) ؛ وقوله : " تَمْنَعانِك مَخْرجَ السُّوءِ " : أي : ما عساه أن يكون خارج البيت من السوء .
[1]- رواه البزار ( كشف الأستار : 1/357 ( 746 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 3078 ) . وحسنه الألبانيفي ( الصحيحة ) رقم 1323 .
عن أبي مالك الأشعري t قال : قال رسول الله e : " إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا ، وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا ، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ " ( [1] ) . معنى : " إِذَا وَلَجَ " أي : دخل ، وقوله : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ " فيه إيماء إلى قوله تعالى : ] وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [ [ الإسراء : 80 ] ، فهو يشمل كل دخول وخروج ؛ والمراد : خير الموضع الذي يولج فيه ، ويخرج منه . وقوله : " بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا " أي : مستعينين بذكر اسم الله دخلنا ؛ " ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ " أي : يلقي السلام على أهل بيته .
[1] - أبو داود ( 5096 ) ، والطبراني في الكبير : 3 / 296 ( 3452 ) ، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 225 ) ، ثم تراجع عن تصحيحه لانقطاع في إسناده ، فالحديث من رواية محمد بن إسماعيل : حدثني أبي : حدثني ضمضم بن زرعة ،عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك ؛ وهو إسناد شامي صحيح ، غير أن شريح بن عبيد لم يسمع من أبي مالك ؛ قال ابن أبي حاتم في ( المراسيل ، ص 90 ) عن أبيه : وسمعته يقول : شريح بن عُبَيْد ، عن أبي مالك الأشعري : مرسل .
في فضل من دخل بيته فسلم ؛ روى البخاري في ( الأدب ) وأبو داود وابن حبان والحاكم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : " ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ U : رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ ؛ وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ ؛ وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِU " هذا لفظ أبي داود ، وعند البخاري : " ثلاثة كلهم ضامن على الله : إن عاش كفي ، وإن مات دخل الجنة .." وعند الحاكم : " ورجل دخل بيته بالسلام " ، وعند ابن حبان : " ثلاثة كلهم ضامن على الله ؛ إن عاش رزق وكفي وإن مات أدخله الله الجنة : من دخل بيته فسلم " ( [1] ) . قال النووي : معنى ضامن على اللّه تعالى ، أي : صاحب ضمان ؛ كما يقال : تَامِرٌ ولاَبنٌ : أي صاحب تمر ولبن ؛ والضمان : الرعاية للشيء ، فمعناه أنه في رعاية اللّه تعالى ؛ وما أجزل هذه العطية اللهمَّ ارزقناها ( [2] ) . وقوله e : " وَرَجُل دَخَلَ بَيْته بِسَلَامٍ " : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدهمَا : أَنْ يُسَلِّم إِذَا دَخَلَ مَنْزِله ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ] فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ [ الْآيَة ؛ وَالْوَجْه الْآخَر أَنْ يَكُون أَرَادَ بِدُخُولِ بَيْته بِسَلَامٍ لُزُوم الْبَيْت مِنْ الْفِتَن ، يُرَغِّبُ بِذَلِكَ فِي الْعُزْلَة ، وَيَأْمُر فِي الْإِقْلَال مِنْ الْمُخَالَطَة . اِنْتَهَى من ( عون المعبود ) ( [3] ) . قال مقيده – عفا الله عنه : يُرجِحُ الوجه الأول لفظ الحاكم : " ورجل دخل بيته بالسَّلام " ، وابن حبان : " من دخل بيته فسلَّم " ، وبوب عليه ابن حبان ( ذكر تضمن الله جل وعلا دخول الجنة للمسلِّم على أهله عند دخوله عليهم إن مات ، وكفايته ورزقه إن عاش ) ؛ والعلم عند الله تعالى .
[1] - البخاري في الأدب المفرد ( 1094 ) ؛ وأبو داود ( 2494 ) ، وابن حبان ( 499 ) ، والحاكم ( 2600 ) وصححه ووافقه الذهبي .
روى مسلم عن جابر t قال : سمعت رسول الله e يقول : " إِذَادَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ ، قَالَ الشَّيْطَانُ : لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلا عَشَاءَ ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ ، قَالَ الشَّيْطَانُ : أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ. وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ ؛ قَالَ : أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ " ( [1] ) . قال العثيمين – رحمه الله – في ( شرح رياض الصالحين ) : ذكر الله تعالى عند دخول البيت أن يقول : " بسم الله ولجنا ، وبسم الله خرجنا ، وعلى الله ربنا توكلنا ، اللهم إني أسألك خير المولج ، وأسألك خير المخرج " ، هذا الذكر عند دخول المنزل سواء في الليل أو في النهار ؛ وأما الذكر عند العشاء فأن يقول : بسم الله ؛ فإذا ذكر الله عند دخوله البيت ، وذكر الله عند أكله عند العشاء ، قال الشيطان لأصحابه : لا مبيت لكم ، ولا عشاء ؛ لأن هذا البيت ، وهذا العشاء ، حُمي بذكر الله U ، حماه الله تعالى من الشياطين ، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء ؛ أي أن الشيطان يشاركه المبيت والطعام ، لعدم التحصن بذكر الله ، وفي هذا حثٌّ على أن الإنسان ينبغي له إذا دخل بيته أن يذكر اسم الله .ا.هـ .
في صحيح مسلم عَنِ شُرَيْحٍ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِىُّ e إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ؟ قَالَتْ : بِالسِّوَاكِ ([1])؛ ولفظ ابن ماجة : عن شريح بن هانئ قال : قلت : أخبريني ، بأي شيء كان النبي e يبدأ إذا دخل عليك ؟ قالت : كان إذا دخل يبدأ بالسواك ( [2] ) ؛ ولفظ ابن حبان عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله e كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك ( [3] ) . وهذا أدب جميل في حسن معاشرته لأهله e . قال السيوطي في ( حاشيته على النسائي ) : قال القرطبي : يحتمل أن يكون ذلك لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة ، فقلما كان يتنفل في المسجد ، فيكون السواك لأجلها ؛ وقال غيره : الحكمة في ذلك أنه ربما تغيرت رائحة الفم عند محادثة الناس ، فإذا دخل البيت كان من حسن معاشرة الأهل إزالة ذلك ؛ وفي الحديث دلالة على استحباب السواك عند دخول المنزل .ا.هـ . وقال المناوي في ( التيسير بشرح الجامع الصغير ) : لأجل السلام على أهله ؛ فإن السلام اسم تشريف ، فاستعمل السواك للإتيان به ؛ أو ليطيب فمه لتقبيل زوجاته ؛ وفيه ندب السواك لدخول المنزل( [4] ) .
[1] - رواه مسلم ( 2018 ) ، ورواه بلفظ مسلم : أبو داود ( 51 ) ، والنسائي ( 8 ) .
تقدم حديث أبي هريرة t عن النبي e قال : " إِذَا خَرجْتَ مِنْ مَنْزِلَكَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْن ، تَمْنَعانِك مَخْرجَ السُّوءِ ، وَإِذَا دَخَلتَ إِلَى مَنْزِلِكَ فَصَلِّ رَكْعَتين ، تَمْنَعانِكَ مَدْخَلَ السُّوءِ " .
قال الله تعالى : ] فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [ [ النور : 61 ] . وَأَخْرَجَ ابْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن عُمَر - رضي الله عنهما - في الرجل يدخل في البيت أو في المسجد ليس فيه أحد ؛ قال : يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ ( [1] ) . فَيُسْتَحَبّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَد فِي الْبَيْت أَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ . قال ابن عبد البر - رحمه الله - في ( الاستذكار ) : قد روي عن جماعة من السلف العلماء بتأويل القرآن قالوا : إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ؛ روينا ذلك عن ابن عباس وعلقمة ، وإبراهيم النخعي ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك ، وعطاء ؛ وبعضهم يقول : السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( [2] ) .
[1] - ابن أبي شيبة ( 25835 ) ، وحسنه الحافظ في الفتح .
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة ، وهو جهد مَنْ بضاعته مزجاة ، وعمل البشر محفوف بالنقص .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
ومع ذلك فإني أطمع في فضل الله تعالى وكرمه أن يتقبله مني ، وأن يجعل له القبول في الأرض ، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .