آداب الأكل

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتقبل​
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فالطعام والشراب نعمتان عظيمتان من نعم الله تعالى على خلقه مِنَّةً وتفضلًا ، فهو الذي خلقهم ، وتكفل برزقهم ، وامتن عليهم بكثير من النعم ، التي منها نعمة الطعام وتنوعه ؛ وفي الحديث الإلهي : " يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ " رواه مسلم [SUP]( [1] ) [/SUP].
وقال الله تعالى على لسان خليله إبراهيم e وهو يخاطب قومه : } قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ { [الشعراء : 75 - 79 ] ؛ فالذي يُطعم ويسقي هو رب العلمين ، لا غيره .
والحق أن الأكل تَحُفُّهُ نعمٌ كثيرة عند التأمل ؛ فخلق الطعام وإيجاده نعمة ، وتنوعه نعمة ، والحصول عليه نعمة ، واستساغته نعمة ، والتلذذ به نعمة ؛ ولم يقف الأمر عند هذه النعم ، بل خلق الله تعالى في جسم الإنسان أجهزة تعمل بإذن ربها ، لا بإرادة من الإنسان ، لتحوِّل ما يأكل من الطعام - على اختلاف مكوناته واختلاطها - إلى عناصره الأولية التي يمتصها الدم ، لينقل كل عنصر إلى الجزء الذي يحتاجه الجسم ولا يخطئ ، ليتم بذلك تجدد قوة الجسم ونشاطه ... فهل أنتم شاكرون ؟!
وقد علمنا النبي e للأكل آدابًا جميلة ، قبل الأكل وبعده وأثناءه ، فيها من الفضل ، وشكر نعمة الله ، والأجر والثواب ما يجعلنا نحرص عليها ، ونتواصى بها ، ونعلمها أبناءنا .
من هنا كانت هذه الرسالة ، نحاول فيها أن نتناول آداب الأكل ، من خلال المحاور التالية :
الأكل والشرب من سمات الإنسان .
نعمة الطعام وتنوعه .
{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } .
شكر النعمة .
تحري الحلال في المطعم .
المحرمات من الأطعمة .
آداب الأكل .
وتحري الحلال في المطعم ، وتجنب المحرمات من الأطعمة ، من أعظم آداب الأكل ، إذ هما واجبان ، ولذا ذكرتهما بشيء من التفصيل .
والله الكريم أسأل أن ينفع بها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية​


[1] - مسلم ( 2577 ) .
 
الأكل والشرب من سمات الإنسان
من سمات الإنسان أنه يأكل ويشرب ، وقد بيَّن القرآن بشرية عيسى وأمه – عليهما السلام – بقوله تعالى : } مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] ، فهذا شأن البشر ، وأما ربُّ البشر فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : } قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ { [ الأنعام : 14 ] .
وقد اعترض بعض الكفار على رسلهم بقولهم : } مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ { [ المؤمنون : 33 ] .
وقال الله تعالى في شأن الرسل : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الانبياء : 8 ] ، وقال عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } [ الفرقان : 20 ] .
 
نعمة الطعام وتنوعه
امتن الله تعالى على عباده بنعمة الطعام في آيات ذوات عدد ؛ بيَّن فيها عز وجل تنوع هذه النعمة وتعددها ؛ فقال سبحانه : } وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ { [ يـس : 33 ] ؛ ففي هذه الآية امتن عز وجل على عباده بنعمة الحبوب ، وهي غالب طعامهم .
وقال جل جلاله : } وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ { [ البقرة : 22 ، وإبراهيم : 32 ] ؛ وها هنا امتن عليهم بنعمة الثمرات ، وهي أنواع مختلفة من الفواكه والخضروات ؛ قال تعالى : } فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ { [ المؤمنون : 19 ] .
ثم امتن سبحانه وتعالى عليهم بنوع آخر من أنواع الطعام ، وهو لحم الأنعام ، فقال : } وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ { [ النحل : 5 ] ؛ وقال عز وجل : } وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ { [ المؤمنون : 21 ] ، وقال تعالى : } اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ { [ غافر : 79 ] ؛ وقال جل ذكره : } أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ . وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ { [ يـس : 71 ، 72 ] .
كما امتن عليهم – أيضًا – باللحم الطري ، وهو السمك بجميع أنواعه ، فقال جل وعلا : } وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا { [ فاطر : 12 ] ؛ وقال عز من قائل : } وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا { [ النحل : 14 ] .
يا لها من نعم عديدة تستوجب شكر المنعم ، وحسن ذكره ، وتوحيده ، قال إبراهيم عليه السلام لقومه : } إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [ العنكبوت : 17 ] .
 
] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [
قال الله تعالى : } فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [ عبس : 24 – 32 ] .
أمر تعالى في هذه الآيات الإنسان بالنظر إلى طعامه ، والاعتبار بما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له ، كتدبيره وتقديره في نشأة الإنسان ، وجمهور المفسرين على أن معنى الآية : فلينظر إلى مطعوماته ، وكيف يسرَّها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من : صب الماء ، وشق الأرض .. الخ .
قال القرطبي – رحمه الله : لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان ذكر ما يسر من رزقه ، أي : فلينظر كيف خلق الله طعامه ؛ وهذا النظر نظر القلب بالفكر، أي : ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاش ، ليستعد بها للمعاد[SUP] ( [1] ) [/SUP].
فالآيات تعالج توجيه القلب البشري إلى أمسِّ الأشياء به ، وهو طعامه وطعام حيوانه ، والاعتبار والتأمل في نعمة الله تعالى على الإنسان مما يستدعي الإيمان به وتوحيده ، شكرًا لنعمه العظيمة ، ومنها نعمة الطعام .
وقوله تعالى : } أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا { صب الماء هو : المطر ؛ وشق الأرض هو بالنبات ، أي : أسكنا الماء فيها ، فدخل في تخومها ، وتخلل في أجزاء الحب المودع فيها ، فنبت ، وارتفع ، وظهر على وجه الأرض ؛ والحب : جمع حَبة بفتح الحاء ، وهو كل ما يتخذه الناس ويدخرونه كالقمح والشعير ونحوه ، والقضب هو : كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضًا من النبات ، كالبقول ونحوه ، ويقضب أي : يُقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة ؛ فإنه من المطعوم جزءٌ عظيم ؛ } وَزَيْتُونًا { وهو معروف ، وهو أدم وعصيره أدم ، ويستصبح به ويدهن به ؛ { وَنَخْلًا } يؤكل بلحًا ؛ وبسرًا ، ورطبًا ، وتمرًا ، ونيئًا ، ومطبوخًا ، ويعتصر منه رُبٌّ وخل ؛ وقوله تعالى : { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } الحديقة : الشجر الذي قد أُحدق بجدار أو نحوه ، وحديقة غلباء : ملتفة ، والغُلب : الغلاظ الناعمة ؛ { وَفَاكِهَةً } أي : ما تأكله الناس من ثمار الأشجار ، كالتين والخوخ وغيرهما ؛ { وَأَبًّا } هو ما تأكله البهائم من العشب ، والأبُّ : المرعى ، قاله ابن عباس وجماعة ؛ وقال الضحاك : الأبُّ : التبن .
وقوله تعالى : { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } أي : تتمتعون به أنتم وأنعامكم ، فابن آدم في السبعة المذكورة ، والأنعام في الأبِّ .
هذه هي قصة طعام الإنسان وطعام دوابه ، مفصلة مَرْحلةً مَرْحلة ؛ هذه هي فلينظر إليها : فهل له من يد فيها ؟ هل له من تدبير لأمرها ؟ إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته ، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته ..... هذه هي قصة الطعام ؛ كلها من إبداع اليد التي أبدعت الإنسان ، وليس فيها للإنسان يدٌ يدعيها ، في أية مرحلة من مراحلها ؛ حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض ، إنه لم يبدعها ولم يبتدعها ، والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه ؛ والتربة واحدة بين يديه ، ولكن البذور والحبوب منوعه ، وكل منها يؤتى أكله في القطع المتجاورات من الأرض ؛ وكلها تُسقى بماء واحد ، ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار ؛ وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها ، فتنقلها إلى بنتها التي تلدها ؛ كل أولئك في خفية عن الإنسان ! لا يعلم سرَّها ، ولا يقضي أمرها ، ولا يستشار في شأن من شؤونها [SUP] [2] [/SUP]... فسبحان الذي خلق فأبدع ، وله الحمد في الأولى والآخرة .


[1] - انظر تفسير القرطبي عند الآيات ( 24 ) وما بعدها من سورة عبس .

[2] - انظر ( في ظلال القرآن ) عند الآيات ( 24 ) وما بعدها من سورة عبس .. باختصار وتصرف .
 
شكر النعمة
الطعام نعمة ، وتنوعه نعمة ، والحصول عليه نعمة ، واستساغته نعمة ، والتلذذ به نعمة ، وتحويله بعد أكله إلى عناصر مختلفة يستفيد منها جسم الإنسان على اختلاف حاجاته : نعمة ، ثم إخراج فضلاته من الجسم نعمة ، ولذا ورد في الأثر أن نوحًا عليه السلام كان يقول بعد الخلاء : ( الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى في قوته ، وأذهب عني أذاه ) [SUP]( [1] )[/SUP]، فكم من نعمة يغفل الإنسان عن شكرها ؟ وصدق ربي ذو الجلال : } إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ { [ غافر : 61 ] .
وقد أمر الله عباده بشكر نعمته من طيبات الرزق ؛ فقال عز وجل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ { [ البقرة : 172 ] ؛ وقال جل جلاله : } فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ { [ النحل : 114 ] ؛ وقال سبحانه حثًّا لعباده على شكر نعمته : } لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ { [ يـس : 35 ] .
والشُّكْرُ : الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، فهو عِرْفانُ الإِحسان ونَشْرُه ، ولا يكون إِلا عن يَدٍ ، أي : نعمة ، وقال ابن الأثير في ( النهاية ) : الشكرُ مُقابَلةُ النِّعمَة بالقَول والفِعل والنيَّة ؛ فيُثْنِي على المُنْعم بلِسانه ، ويُذِيب نفْسِه في طاعتِه ، ويَعْتَقِد أنه مُولِيها [SUP]( [2] ) [/SUP].
وروى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا " [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] ؛ والأَكْلَةُ : هي المرة الواحدة من الأكل ، كالغداء والعشاء .
قال المناوي – رحمه الله - في ( فيض القدير ) : وهذا تنويه عظيم بمقام الشكر ، حيث رتب هذا الجزء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء ، كما قال سبحانه وتعالى : ] وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [ [ التوبة : 72 ] ، في مقابلة شكره بالحمد ؛ وعبر بالمرة إشعارًا بأن الأكل والشرب يستحق الحمد عليه وإن قل جدًّا ، أو أنه يتعين علينا أن لا نحتقر من الله شيئًا وإن قلَّ[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وروى عبد الرزاق عن إبراهيم ( هو النخعي ) : شكر الطعام : أن تسمي إذا أكلت ، وتحمده إذا فرغت[SUP] ( [5] ) [/SUP]؛ وروى البيهقي – رحمه الله – في ( شعب الإيمان ) عن ابن أعبد قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا ابن أعبد ، ما حق الطعام ؟ قلت : ما هو يا ابن أبي طالب ؟ قال : حق الطعام إذا وضع من بين يديك أن تقنع ، وتقول : بسم الله ، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ؛ يا ابن أعبد ، هل تدري ما شكر الطعام ؟ قلت : ما هو ؟ قال : شكر الطعام أن تقول إذا أطعمت : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا [SUP] ( [6] ) [/SUP].
بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إتمامًا لشكر نعمة ربه يحمده إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ يقُولُ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا ، وَآوَانَا ، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُئْوِيَ "[SUP] ( [7] ) [/SUP].

[1] - روى ابن أبي شيبة (9) عن العوام قال : حدثت أن نوحًا كان يقول : الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى فيَّ منفعته ، وأذهب عني أذاه ؛ وقد رواه البيهقي في شعب الإيمان ( 4469 ) عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن نوحًا عليه السلام لم يقم عن خلاء قط إلا قال : الحمد لله الذي أذاقني لذته ، و أبقى منفعته في جسدي ، و أخرج عني أذاه " ، وفي إسناده مقال ، ورواه الطبراني في الدعاء ( 370) عن ابن عمر بإسناد ضعيف أيضًا .

[2] - انظر لسان العرب باب الراء فصل الشين ؛ والنهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة ش ك ر ) .

[3] - مسلم ( 2734 ) .

[4] - انظر ( فيض القدير ) : 2 / 262 .

[5] - انظر مصنف عبد الرزاق ( 19577 ) ، وإسناده صحيح إلى إبراهيم رحمه الله .

[6] - شعب الإيمان ( 6040 ) .

[7] - رواه مسلم ( 2715 ) ، عن أنس رضي الله عنه .
 
تحري الحلال في المطعم
قال الله تعالى : } كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا { [ المؤمنون : 51 ] ؛ فأمر جل جلاله بالأكل من الطيبات قبل العمل ؛ وقيل : إن المراد بالطيبات : الحلال .
وقال تعالى : } وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 188 ] ؛ فنهى سبحانه عن التحايل في أكل أموال الناس ، ولو بالتقاضي .
وقال عز وجل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ { [ النساء : 29 ] ؛ فنهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل أيًّا كانت صورته ، وبيَّن طريق الحلال } إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ { .
وقال تعالى : } إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا { [ النساء : 10 ] ، بينت الآية الكريمة صورة من صور أكل الأموال بالباطل ، وهي أكل مال اليتيم بغير وجه حق ، وبينت عقاب من يفعل ذلك ، تخويفًا وتحذيرًا .
وقال تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 278 ، 279 ] ؛ وقال قبل ذلك : } وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [ البقرة : 275 ] ، فجعل آكل الربا أول الأمر مؤذنًا بمحاربة الله ، وفي آخره متعرضًا للنار ؛ والآيات الواردة في الحلال والحرام لا تحصى في مقامنا هذا ، وكلها حاثَّة على تحري الحلال والتحذير من الحرام .
 
تحري الحلال ( 2 )
في الصحيحين عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ؛ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]. قال النووي - رحمه الله : قَالَ الْعَلَماء : وَسَبَب عُظْم مَوْقِعه ( أي هذا الحديث ) أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ فِيهِ عَلَى إِصْلَاح الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب وَالْمَلْبَس وَغَيْرهَا ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْك الْمُشْتَبِهَات ، فَإِنَّهُ سَبَب لِحِمَايَةِ دِينه وَعِرْضه ، وَحَذَّرَ مِنْ مُوَاقَعَة الشُّبُهَات ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَل بِالْحِمَى ، ثُمَّ بَيَّنَ أَهَمَّ الْأُمُور ، وَهُوَ مُرَاعَاة الْقَلْب فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة " ... إِلَى آخِره ؛ فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بِصَلَاحِ الْقَلْب يَصْلُح بَاقِي الْجَسَد ، وَبِفَسَادِهِ يَفْسُد بَاقِيه ؛ وَأَمَّا قَوْله صلى الله عليه وسلم : " الْحَلَال بَيِّن وَالْحَرَام بَيِّن " فَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْأَشْيَاء ثَلَاثَة أَقْسَام : حَلَال بَيِّنٌ وَاضِح لَا يَخْفَى حِلُّه ، كَالْخُبْزِ ، وَالْفَوَاكِه ، وَالزَّيْت ، وَالْعَسَل ، وَالسَّمْن ، وَلَبَن مَأْكُول اللَّحْم وَبَيْضه ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَطْعُومَات ؛ وَكَذَلِكَ الْكَلَام وَالنَّظَر وَالْمَشْي وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات ، فِيهَا حَلَال بَيِّن وَاضِح لَا شَكَّ فِي حِلِّهِ .
وَأَمَّا الْحَرَام الْبَيِّن فَكَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِير ، وَالْمَيْتَة ، وَالْبَوْل ، وَالدَّم الْمَسْفُوح ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا ، وَالْكَذِب ، وَالْغِيبَة ، وَالنَّمِيمَة ، وَالنَّظَر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة ، وَأَشْبَاه ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْمُشْتَبِهَات فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاضِحَةِ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَة ، فَلِهَذَا لَا يَعْرِفهَا كَثِير مِنْ النَّاس ، وَلَا يَعْلَمُونَ حُكْمهَا ، وَأَمَّا الْعُلَمَاء فَيَعْرِفُونَ حُكْمهَا بِنَصٍّ ، أَوْ قِيَاس ، أَوْ اِسْتِصْحَاب أَوْ غَيْر ذَلِكَ ؛ فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْء بَيْن الْحِلّ وَالْحُرْمَة ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصّ وَلَا إِجْمَاع ، اِجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِد ، فَأَلْحَقهُ بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِهِ صَارَ حَلَالًا ، وَقَدْ يَكُون غَيْر خَال عَنْ الِاحْتِمَال الْبَيِّن ، فَيَكُون الْوَرَع تَرْكه ، وَيَكُون دَاخِلًا فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم : " فَمَنْ اِتَّقَى الشُّبُهَات فَقَدْ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه " ؛ وَمَا لَمْ يَظْهَر لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ شَيْء وَهُوَ مُشْتَبَهٌ ، فَهَلْ يُؤْخَذ بِحِلِّهِ أَمْ بِحُرْمَتِهِ أَمْ يُتَوَقَّف فِيهِ ؟ ثَلَاثَةُ مَذَاهِب ، حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره ، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُخَرَّجَة عَلَى الْخِلَاف الْمَذْكُور فِي الْأَشْيَاء قَبْل وُرُود الشَّرْعِ ، وَفِيهِ أَرْبَعَة مَذَاهِب : الْأَصَحُّ : أَنَّهُ لَا يُحْكَم بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَة وَلَا إِبَاحَة وَلَا غَيْرهَا ، لِأَنَّ التَّكْلِيف عِنْد أَهْل الْحَقّ لَا يَثْبُت إِلَّا بِالشَّرْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُكْمهَا التَّحْرِيم . وَالثَّالِث : الْإِبَاحَة . وَالرَّابِع : التَّوَقُّف ؛ وَاَللَّه أَعْلَم [SUP]( [2] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 52 ) ، ومسلم ( 1599 ) .

[2] - انظر شرح مسلم : 11 / 28 .
 
تحري الحلال ( 3 )
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : } يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ { ، وَقَالَ : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ { ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ؛ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ " [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] ؛ فلكونه عز وجل طيبًا فلا يقبل إلا طيبًا ، أي : من الاعتقادات والأقوال والأفعال والأموال ؛ لهذا فإنه تعالى أمر المرسلين ومن آمنوا بهم بأكل الطيبات ، وشكره سبحانه على ذلك ، وهذا الشكر هو عمل الصالحات ؛ لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [ المؤمنون : 51 ] ؛ وقال للمؤمنين { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ { [ البقرة : 172 ] ؛ فدل هذا على أن الشكر هو العمل الصالح .
وَفِيهِ - كما قال النووي - رحمه الله : الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاق مِنْ الْحَلَال ، وَالنَّهْي عَنْ الْإِنْفَاق مِنْ غَيْره ؛ وَأَنَّ الْمَشْرُوب وَالْمَأْكُول وَالْمَلْبُوس وَنَحْوهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَة فِيهِ ، وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّعَاء كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْره ؛ وفيه أن العبد إذا أنفق نفقة طيبة فهي التي تزكو وتنمو ، وأن الطعام اللذيذ غير المباح يكون وبالاً على آكله ، ولا يقبل الله عمله [SUP]( [2] ) [/SUP]؛ ومن ذلك لا يجيب دعاءه في حال هو أحوج فيه إلى إجابة الدعاء ؛ وقال بعض السَّلف : لا تستبطئ الإجابة ، وقد سددتَ طرقها بالمعاصي ، وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
نحن نَدْعُو الإله في كُلِّ كَربٍ ... ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشفِ الكُروبِ
كَيْفَ نَرجُـو إجابةً لدُعـاءٍ ... قَـدْ سَدَدْنا طرِيقَها بالذُّنوب
فذكر صلى الله عليه وسلم أثر الأكل من الطيبات في حياة الإنسان وعلاقته بربه ، فكأنه قارن بين من يأكل الطيبات وبين من لا يتحرى أكل الطيبات ، وما هي النتيجة من عدم تحري الحلال الطيب ؟
وروى أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ " [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] .
وروى أحمد والحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ " [SUP]([/SUP] [4] [SUP]) [/SUP].
قال الحسن البصري – رحمه الله : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام [SUP]( [5] ) [/SUP].


[1] - رواه أحمد : 2 / 328 ، ومسلم ( 1015 ) ، والترمذي ( 2989 ) ، والدارمي ( 2713 ) .

[2] - انظر شرح مسلم للنووي : 7 / 100 ، وشرح الأربعين له عند الحديث العاشر .

[3] - رواه أحمد : 3 / 321 ، والترمذي ( 614 ) ، وابن حبان ( 1723 ) ، والحاكم ( 7163 ) وصححه ، وله شواهد .

[4] - رواه أحمد : 2 / 177 ، والحاكم ( 7876 ) وصححه ، وصححه الألباني في ( صحيح الترغيب ) .

[5] - ذكره السيوطي في ( الدر المنثور : 1 / 61 ) ، وعزاه لابن أبي الدنيا .
 
المحرمات من الأطعمة
أمر الله عباده بأكل الطيبات ، وهي كثيرة ومتعددة ، ونهاهم عن أكل المحرمات ، وهي قليلة محدودة ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : الطَّيِّبَاتُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ مَا كَانَ نَافِعًا لِآكِلِهِ فِي دِينِهِ ، وَالْخَبِيثُ مَا كَانَ ضَارًّا لَهُ فِي دِينِهِ ؛ وَأَصْلُ الدِّينِ الْعَدْلُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِإِقَامَتِهِ ، فَمَا أَوْرَثَ الْأَكْلَ بَغْيًا وَظُلْمًا حَرَّمَهُ ، كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ ؛ لِأَنَّهَا بَاغِيَةٌ عَادِيَةٌ ، وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي ، فَإِذَا تَوَلَّدَ اللَّحْمُ مِنْهَا صَارَ فِي الْإِنْسَانِ خُلُقُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ ... والدَّمُ يَجْمَعُ قُوَى النَّفْسِ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ ، فَإِذَا اغْتَذَى مِنْهُ زَادَتْ شَهْوَتُهُ وَغَضَبُهُ عَلَى الْمُعْتَدِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ مِنْهُ إلَّا الْمَسْفُوحُ ، بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ؛ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يُورِثُ عَامَّةَ الْأَخْلَاقِ الْخَبِيثَةِ ، إذْ كَانَ أَعْظَمُ الْحَيَوَانِ فِي أَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ ، لَا يَعَافُ شَيْئًا [SUP]( [1] ) [/SUP].
وقد جاءت المحرمات في القرآن العظيم في آيتين مكيتين ، وآيتين مدنيتين ؛ وكان ذلك على ترتيب النزول كالتالي :
قال الله تعالى : } قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ { [ الأنعام : 145 ] .
وقال جل وعلا : } إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ { [ النحل : 115 ] .
فهاتان الآيتان مكيتان ، وهما متشابهتان في المعنى ، ومتساويتان في عدِّ المحرمات ؛ وهن أربعة ؛ ولكن هل المراد حصر المحرمات في الأربعة المذكورة ؟
والجواب : ليس المراد حصر المحرمات في هذه الأربعة ، وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين فيما حرموه بغير علم من البحائر والسوائب وغيرها ؛ فالآية مكية ولم يكن نزل من المحرمات إلا ما ذكر ، ثم أضيف إليها بعد ذلك ما أضيف .
قال ابن كثير - رحمه الله – تعليقًا على آية الأنعام : والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم ؛ من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حرَّم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام ؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله ؟! وعلى هذا فلا ينفي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ، ولحوم السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، على المشهور من مذاهب العلماء .ا.هـ .
وقال القرطبى - رحمه الله : والآية مكية ، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة ، وزيد في المحرمات كالمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وغير ذلك ، وحرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير .ا.هـ .

[1] - مجموع الفتاوى : 19 / 24 ، 25 ، مختصرًا .
 
وأما الآيتان المدنيتان :
فقال عز وجل : } إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ { [ البقرة : 173] . ومعلوم أن سورة البقرة من أوائل ما نزل بالمدينة ، ولم تزد في عدِّ المحرمات عن المكيتين .
ثم أنزل جل وعلا : } حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ { [ المائدة : 3 ] .
وسورة المائدة من أواخر ما نزل ، وهذه الآية نزلت في يوم عرفة ، فبينت من المحرمات ما لم تبينه الآيات السابقة .
وجملة ما حرَّمه الله عز وجل على عباده من الخبائث المستكرهة ، التي تنفر منها الطباع السليمة ، أو ممَّا فيه ضرر واضح للبدن ، فذكر تعالى أنه إنما حرَّم عليهم الميتة ، والدم وهو المسفوح ، ولحم الخنزير ، كما حرَّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة ، وكلَّ ما ذُكر عليه اسم غير الله ، لكنْ إذا اضطر الإنسان ، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، غير باغٍ بأكله ما حرم الله عليه ، ولا متجاوز قدر الضرورة ، فليس عليه ذنب لأن الله غفور رحيم ، يغفر للمضطر ما صدر عن غير قصد الجرأة على الحرام ، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج .
والميتة : ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن ، فلهذا حرمها الله عز وجل . } وَالدَّمُ { يعني به المسفوح ، كقوله : } أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا { والسفح : الصب والسيلان ، أي : دمًا مصبوبًا سائلا ، كالدم الذي يخرج من المذبوح عند ذبحه ، لا الدم الجامد كالكبد والطحال . } وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ { يعني : إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ؛ وقوله : } فَإِنَّهُ رِجْسٌ { أي : قذر خبيث ، تعافه الطباع السليمة ، وضار بالأبدان .
وقوله تعالى : } وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله { ، وفي آية الأنعام } أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ { أي : ذبح لغير الله ، وذكر عند ذبحه غير اسم الله ، وهو كقولهم : باسم اللات والعزى ؛ وسمي } مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ { فسقًا ، لخروجه عن ما أمر الله به من الذبح على اسمه ؛ والفسق : الخروج عن طاعة الله تعالى ؛ قال عز وجل : } فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ { [ الأنعام : 118 ] ، وقال جل شأنه : } وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ { [ الأنعام : 121 ] .
وقوله جل جلاله : } وَالْمُنْخَنِقَةُ { : التي تموت بالخنق ؛ إما قصدًا ، وإما اتفاقًا ، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به . } وَالْمَوْقُوذَةُ { : هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها . } وَالْمُتَرَدِّيَةُ { : التي تقع من شاهق ، أو موضع عالٍ فتموت بذلك ، فلا تحل ، والتردي : السقوط . } وَالنَّطِيحَةُ { فعيلة بمعنى مفعولة ، أي : منطوحة ، وهي التي نطحتها شاة أخرى فماتت . } إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ { : إلا ما أدركتموه من هذه الأصناف وفيه حياة فذبحتوه ذبحًا شرعيًّا ، بقطع الودجين والحلقوم ، مع ذكر اسم الله تعالى عند الذبح ؛ فالاستثناء يرجع إلى المذكورات الخمسة . وأما } النُّصُبِ { : فصنمٌ أو حجر ، وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده . والأزلام : جمع زَلَم ، وهو القدح ؛ وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب : افعل ، وعلى الآخر : لا تفعل ، والثالث غفل ليس عليه شيء ؛ والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام . } ذَلِكُمْ فِسْقٌ { الفسق : الخروج عن الطاعة ؛ والاستقسام بالأزلام فسق . } الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ { يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارًا . وقوله : } مَخْمَصَةٍ { : مجاعة ، والخَمْصَ : الجوع . } مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ { : منحرفٍ مائلٍ إلى الإثم ، والجَنَفُ : الميل ؛ ، والإثم : الحرام . وهو بمعنى } غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ { .
وختم الله تعالى الآية الكريمة بأنه أكمل الدين وأتم الشريعة ؛ ثم بين أنَّ الدين يسر ؛ فمن كان في حالة اضطرار ألجأته إلى الأكل من بعض ما ذكر من المحرمات من غير ميل إلى الإثم ؛ أي : غير باغٍ بأكله ما حرم الله عليه ، ولا متجاوز قدر الضرورة ؛ فإن الله تعالى يستر له ذلك ، ويرحمه ؛ فهو سبحانه واسع المغفرة والرحمة ، لا يؤاخذ المضطرين ، ولا يكلف الناس بما فوق طاقتهم ، وإنما هو رءوف رحيم بهم ، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ؛ ومن رحمته أنه أباح له ما حرم عليهم عند الضرورة .
 
مسائل تتعلق بالآي
الأولى : يُخَصُّ من الميتة السمك والجراد ، ومن الدم : الكبد والطحال :
قد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر ، لقوله تعالى : } أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ { [ المائدة : 96 ] ، ولما في المسند والموطأ والسنن قوله صلى الله عليه وسلم في البحر : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ ( [2][SUP] ) [/SUP].
وروى أحمد وابن ماجة من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا : " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ؛ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ : فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ ، وَأَمَّا الدَّمَانِ : فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ "[SUP] ( [3] )[/SUP] ؛ روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن الطحال ؟ فقال : كلوه ؛ فقالوا : إنه دم ، فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح[SUP] ( [4] )[/SUP].

الثانية : حكم الدم الذي يبقى في عروق الذبحية :
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس ، لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد ذكر تعالى الدم في بعض الآيات مطلقًا ، وقيّده في الأنعام بقوله : } أَو دَمًا مَّسْفُوحًا { ، وحمل العلماء المطلق على المقيد ، ولم يحرموا إلا ما كان مسفوحًا ، وورد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : لولا أنّ الله قال : } أَو دَمًا مَّسْفُوحًا { لتتبّع الناس ما في العروق .ا.هـ . فما خالط اللحم غير محرم بإجماع ، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته ، وإن كان في الأصل دمًا .

الثالثة : ما الذي يباح للمضطر من الميتة ؟
اتفق العلماء على أن من احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله ، والله غفور رحيم له ، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له ؛ وفي المسند وصحيح ابن حبان عَنِ ابْنِ عُمَرَ مرفوعًا : " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ " لفظ ابن حبان[SUP] ( [5] ) [/SUP]. وفي لفظ لأحمد : " مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ جِبَالِ عَرَفَةَ "[SUP] ( [6] ) [/SUP]؛ ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان ؛ وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبًا ، وقد يكون مباحًا بحسب الأحوال .
واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسدُّ به الرمق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود ؟ فذهب الجمهور إلى الأول ، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها ، وأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل ؛ وذهب مالك - ورواية عن أحمد - إلى أن له أن يشبع ، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة ، ومقدار الضرورة إنما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد .
وسبب الخلاف يرجع إلى مفهوم قوله تعالى : } غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ { فالجمهور فسروا البغي بالأكل من الميتة لغير حاجة ، والعاد هو المعتدي حدَّ الضرورة ؛ ومالك فسره بالبغي والعدوان على الإمام ، ولكلٍّ وجهة ؛ والله أعلم .


[1] - مالك : 1 / 22 ( 12 ) ، وأحمد : 2 / 237 ، 361 ، 378 ، 393 ، وأبو داود ( 83 ) ، والترمذي ( 69 ) وقال : حسن صحيح ، والنسائي ( 332 ، 4350 ) ، وابن ماجة ( 386 ، 3246 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه .

[2] - رواه البخاري ( 5176 ) ، ومسلم ( 1952 ) .

[3] - أحمد : 2 / 97 ، وابن ماجة ( 3218 ، 3314 ) ، وصححه الألباني .

[4] - ابن أبي شيبة ( 24364 ) ، والبيهقي في الكبرى ( 20257 ) .

[5] - أحمد : 2 / 108 ، بإسناد صحيح ، وابن حبان ( 2742 ) .

[6] - أحمد : 2 / 71 .
 
ما جاءت السنة بتحريمه
السنة النبوية المطهرة هي الوحي الثاني ، والمصدر الثاني من مصادر التشريع ، وقد قال الله عز وجل : } وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا { [ الحشر : 7 ] ؛ وروى أحمد وأبو داود عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ ... " الحديث[SUP] ( [1] ) [/SUP].
فبيَّن الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي السنة كما أوتي القرآن ، وأن ما يحرمه صلى الله عليه وسلم إنما هو عن وحي يوحى إليه ، ثم ذكر بعض هذه المحرمات التي لم تذكر في القرآن العظيم .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ [SUP]( [2] ) [/SUP].
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ " [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] ؛ وفي رواية عند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ ، وَالْمُجَثَّمَةَ ، وَالْحِمَارَ الْإِنْسِيَّ [SUP]([/SUP] [4] [SUP])[/SUP] . والمجثمة هي التي تصبر بالنَّبل ، أي : المصبورة التي تربط فترمي حتى تقتل .
وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ [SUP]( [5] ) [/SUP].
روى أحمد والترمذي - واللفظ له - عن جابر رضي الله عنه قَالَ : " حَرَّمَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم الْحُمُر الْإِنْسِيَّة ، وَلُحُوم الْبِغَال ، وَكُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع ، وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وذو الناب : من له سن طويل يجرح به الحيوان الذي يعدو عليه ؛ والسباع : كل حيوان يعدو على الناس والدواب فيفترسها ، كالأسد والذئب والكلب وأمثالها مما يعدو .
والمِخْلَبُ للطير والسباع بمنزلة الظفر للإنسان ، لكنه أشدُّ منه وأغلظ وأحدُّ ، فهو له كالناب للسبع ؛ يستخدمها الطير في صيد فريسته .
قال ابن حجر – رحمه الله : المراد بما له ناب ، قيل : إنه ما يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبًا كالأسد والفهد والصقر والعقاب ، وأما ما لا يعود كالضبع والثعلب فلا ، وإلى هذا ذهب الشافعي والليث ومن تبعهما ، وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها ، وأما الثعلب فورد في تحريمه حديث خزيمة بن جزء عند الترمذي وابن ماجه ، ولكن سنده ضعيف [SUP]( [7] ) [/SUP].
والعلم عند الله تعالى .


[1] - أحمد : 4 / 130 ، وأبو داود ( 4604 ) .

[2] - البخاري ( 5210 ) ، ومسلم ( 1932 ) .

[3] - مسلم ( 1933 ) .

[4] - أحمد : 2 / 366 .

[5] - مسلم ( 1934 ) .

[6] - أحمد : 3 / 322 ، والترمذي ( 1478 ) ، وحسنه ، واللفظ له ، وصححه الألباني .

[7] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 657 ، 658 .
 
تحريم لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ
في الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ [SUP]( [1] ) [/SUP]. وفيهما عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ ، وَعَنْ لُحُومِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ [SUP]( [2] ) [/SUP]. وفيهما عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ [SUP]( [3] ) [/SUP]. وفيهما عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ [SUP]([/SUP] [4] [SUP])[/SUP] .
ولحوم الحمر الإنسية نسبة إلى الإنس ، وهي الأهلية ، ويؤخذ من التقييد بها جواز أكل الحمر الوحشية ، وقد جاء صريحًا في حديث أبي قتادة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجًّا ، فَخَرَجُوا مَعَهُ ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ ، فَقَالَ : " خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ " فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا ، أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا ، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا ، وَقَالُوا : أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ ؛ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا ، وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا ، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا ، ثُمَّ قُلْنَا : أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا ، قَالَ : " أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا " قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا "[SUP] ( [5] ) [/SUP].

[1] - البخاري ( 3980 ) ، ومسلم ( 561 ) .

[2] - البخاري ( 4825 ) ، ومسلم ( 1407 ) .

[3] - البخاري ( 3982 ) ، ومسلم ( 1941 ) .

[4] - البخاري ( 5206 ) ، ومسلم ( 1936 ) .

[5] - البخاري ( 1728 ) ، ومسلم ( 1176 ) .
 
تحريم أكل الجلالة وشرب لبنها
الجلَّالة : هي الإبل التي يكون أكثر علفها العذرة ، وأرواح العذرة توجد في عرقها وجزرها . قال الشافعي - رحمه الله : وفى معنى الإبل : البقر والغنم وغيرهما مما يؤكل [SUP]( [1] ) [/SUP]. والمراد ما ظهر في لحمها ولبنها نتن ؛ فإذا حبست أيامًا على علف طيب حتى يتغير ما بها من النتن ، جاز ذبحها وأكلها .
روى الترمذي وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا ، ورواه أبو داود بلفظ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَلَّالَةِ فِي الْإِبِلِ : أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا ، أَوْ يُشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا "[SUP] ( [2] )[/SUP] .
فجملة ما حرمته السنة : كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، والحمر الأهلية ، والمجثمة ، والجلالة .


[1] - انظر ( السنن الكبرى ) للبيهقي : 9 / 332 – دار الباز – مكة المكرمة .

[2] - أبو داود ( 3787 ) ، والترمذي ( 1824 ) ، وحسنه ، وابن ماجة ( 3189 ) وصححه الألباني .
 
مَا لَمْ يُذْكَرْ تَحْرِيمُهُ
ما لم يأت النص بتحريمه من الكتاب والسنة فهو عفو ، فقد روى الترمذي وابن ماجة عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ ، فَقَالَ : " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وروى أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ ؛ وَتَلَا : ] قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [SUP]( [2] ) [/SUP]. قال ابن حجر – رحمه الله – بعد أن أورد كلام ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه ، وقد تواردت الأخبار بذلك ، والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل ، وعلى القياس [SUP]( [3] ) [/SUP].
قال مقيده – عفا الله عنه : وإنما ذكر ابن حجر - رحمه الله - ذلك حتى لا يظن قارئ قول ابن عباس t أنه لا محرمات إلا المذكورة في الآية ، وقد تقدم أنها ليست محصورة في الأربعة المذكورة .

[1] - الترمذي ( 1726 ) ، وابن ماجة ( 3367 ) ، والحاكم ( ) ، وصححه ، وحسنه الألباني .

[2] - أبو داود ( 3800 ) ، والحاكم ( 7113 ) وصححه ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني .

[3] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 655 .
 
] وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [
هذا الجزء من الآية يبين ميزان الأكل والشرب ، حتى قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية : } وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا { [ الأعراف : 21 ] ؛ وروى عبد الرزاق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة [SUP]( [1] ) [/SUP]؛ وروى أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا ، فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ ؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ " ورواه النسائي وابن ماجة بنحوه[SUP] ( [2] ) [/SUP]؛ وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ " [SUP]( [3] ) [/SUP]. وقوله : } وَلَا تُسْرِفُوا { قال ابن زيد : ولا تأكلوا حرامًا ، ذلك الإسراف . وقال ابن عباس في قوله تعالى : } إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { في الطعام والشراب[SUP] ( [4] ) [/SUP].
قال ابن جرير : وقوله : } إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { يقول الله تعالى : إن الله لا يحب المتعدين حده في حلال أو حرام ، الغالين فيما أحل الله أو حرم ؛ بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يُحلَّل ما أحل ، ويحرم ما حرم ، وذلك العدل الذي أمر به[SUP] ( [5] ) [/SUP].
ولا شك أن أكل الحرام إسرافٌ ، ومن الإسراف - أيضًا - صنع ما لا يحتاجه من الطعام ثم الرمي به ، فلا يستفيد منه إنسان ولا حيوان ، وكذلك الأكل فوق الحاجة هو من الإسراف ؛ لأنه مضر بالجسد ؛ والعلم عند الله تعالى .


[1] - عبد الرزاق ( 20515 ) ، ورواه ابن جرير : 8 / 120 ، و ابن أبي حاتم ( 8379 ) .

[2] - أحمد : 2 / 181 ، 182 ، والنسائي ( 2559 ) ، وابن ماجة ( 3605 ) ، وإسناده حسن . ورواه ابن أبي شيبة ( 24877 ) ، والحاكم : 4 / 135 ، وصححه ووافقه الذهبي .

[3] - أحمد : 4 / 132 ، والترمذي ( 2380 ) ، والنسائي في الكبرى ( 6768 : 6770 ) ؛ وابن ماجة ( 3349 ) ، والحاكم : 4 / 121 ، 331 ، 332 ، وصححه ووافقه الذهبي ؛ وحسنه الحافظ في الفتح : 9 / 438 ( الريان للتراث ) .

[4] - انظر الأقوال عند ابن جرير : 8 / 120 ، وابن أبي حاتم ( 8387 ، 8380 ) .

[5] - ابن جرير : 8 / 121 .
 
آداب الأكل
ما ذكرناه آنفًا آداب تراعى في حياة المسلم قبل أن يكون شراء وطبخ وأكل ، فإذا روعيت هذه الآداب ، وتم إعداد الطعام ، فعند الأكل آداب لابد من مراعاتها نجملها في الآتي :
- غسل اليدين إن كان بهما شيء من عرق أو تراب – لا يعاب الطعام – الاجتماع على الطعام - انتظار الكبير أو الضيف – لا يأكل متكئًا – التسمية – الأكل باليمين – الأكل مما يلي الآكل – الأكل بثلاث أصابع - الأكل من جوانب الصحفة - إذا سقطت لقمة يميط عنها الأذى ويأكلها – غمس الذباب إذا وقع في الطعام – تفتيش التمر المسوس – عدم القران في التمر ونحوه – يلعق الصفحة - يلعق أصابعه بعد الأكل – ما يستحب للإنسان من الأكل - يحمد الله تعالى بعد الأكل – يدعو لمن أضافه – غسل اليدين بعد الأكل .
 
1 - غسل اليدين إن كان بهما شيء من أذى
ذهب جمهور العلماء إلى استحباب غسل اليدين قبل الأكل وبعده ، وقيده بعضهم بما إذا كان في يده شيء من أذى ، لأنه لم يصح في الغسل قبل الأكل شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حال الجنابة ؛ فقد روى أحمد والنسائي عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ غَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ أَكَلَ [SUP]( [1] ) [/SUP].
قَالَ ابْن الْقَيِّم - رَحِمَهُ اللَّه : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْم ؛ أَحَدهمَا : يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْل الطَّعَام ؛ وَالثَّانِي : لَا يُسْتَحَبُّ . وَهُمَا فِي مَذْهَب أَحْمَد وَغَيْره ؛ وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ ؛ وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابه ( الْكَبِير ) : ( بَاب تَرْك غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْل الطَّعَام ) , ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ حَدِيث اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ سَعِيد بْن الْحُوَيْرِث عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَبَرَّزَ ثُمَّ خَرَجَ , فَطَعِمَ وَلَمْ يَمَسَّ مَاء [SUP]( [2] ) [/SUP]. وَإِسْنَاده صَحِيح ؛ ثُمَّ قَالَ : ( بَاب غَسْلِ الْجُنُب يَده إِذَا طَعِمَ ) ، وَسَاقَ مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَام وَهُوَ جُنُب تَوَضَّأَ وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُل غَسَلَ يَدَيْهِ . وَهَذَا التَّبْوِيب وَالتَّفْصِيل فِي الْمَسْأَلَة هُوَ الصَّوَاب[SUP]( [3] )[/SUP].
قال مقيده - عفا الله عنه : حديث ابن عباس رواه أحمد ومسلم بلفظ : إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى حَاجَتَهُ مِنَ الْخَلاَءِ ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ ، فَأَكَلَ وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وعليه فغسل اليدين قبل الأكل ليس من الأمور التعبدية , لعدم صحة الحديث به , بل هو معقول المعنى , فحيث وجد المعنى شُرِع , وإلا فلا ؛ والله تعالى أعلم .


[1] - أحمد : 6 / 119 ، والنسائي ( 256 ) ، وابن حبان ( 12158 ) ، وصححه الألباني .

[2] - السنن الكبرى للنسائي ( 6736 ) .

[3] - انظر ( حاشية ابن القيم على سنن أبي داود ) : 10 / 166 – الكتب العلمية – بيروت .

[4] - أحمد : 1 / 347 ، 348 ، ومسلم ( 374 ) .
 
2 - لا يعاب الطعام
هذا من الآداب الراقية التي علَّمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ ، كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ[SUP] ( [1] ) [/SUP].
والمراد ما عاب طعامًا مباحًا ، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه ؛ قال النووي – رحمه الله : هذا من آداب الطعام المتأكدة ؛ وعيب الطعام : كقوله مالح ، قليل الملح ، حامض ، رقيق ، غليظ ، غير ناضج .. ونحو ذلك[SUP] ( [2] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 3370 ، 5093 ) ، ومسلم ( 2064 ) .

[2] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 14 / 26 .
 
3 - الاجتماع على الطعام
وهذا من الآداب التي هي من أسباب بركة الطعام ؛ فقد روى أبو داود وأن ماجة عَنْ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ رضي الله عنه أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ ! قَالَ : " فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ ؟ " ، وفي رواية : " فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 3 / 501 ، وأبو داود ( 3764 ) ، وابن ماجة ( 3286 ) ، وصححه الألباني .
 
4 - انتظار الكبير
روى أحمد والنسائي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ ، حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ يَبْدَأُ [SUP]( [1] ) [/SUP]. وروى مسلم وأبو داود والنسائي عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا ، لَمْ يَضَعْ أَحَدُنَا يَدَهُ حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ... الحديث[SUP] ( [2] ) [/SUP].
فيه أنه ينبغي إذا كان هناك كبير على الطعام ، ألا يتقدم أحد قبل أكله ، بل يؤثرون الكبير بالأكل أولا ، لأن التقدم بين يدي الكبير غير مناسب ، وينافى الأدب .


[1] - أحمد : 3 / 364 ، والنسائي في ( الكبرى ) رقم ( 6753 ) .

[2] - مسلم ( 2017 ) ، وأبو داود ( 3766 ) ، والنسائي في الكبرى ( 6742 ) .
 
5 - لا يأكل متكئًا
المتكئ هو المائل على أحد شقيه معتمدًا عليه وحده ؛ وفيه من الكبر والتعاظم والتشبه بالأعاجم ؛ وأيضًا فمن جهة الطب - كما قال ابن الأثير - فالطعام لا ينحدر في مجاريه سهلا ، ولا يسيغه صاحبه هنيئًا ، وربما تأذى به [SUP]( [1] ) [/SUP].
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا آكُلُ مُتَّكِئًا "[SUP] ( [2] ) [/SUP]؛
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – قَالَ : مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ ، وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ رَجُلَانِ[SUP] ( [3] ) [/SUP].
والاتكاء خلاف الأدب المطلوب حال الأكل ؛ وهو فعل المتكبرين .
وروى أبو داود وابن ماجة عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ يُقَالُ لَهَا : الْغَرَّاءُ ، يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ ، فَلَمَّا أَضْحَوْا وَسَجَدُوا الضُّحَى ، أُتِىَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ - يَعْنِى : وَقَدْ ثُرِدَ فِيهَا - فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا ، فَلَمَّا كَثُرُوا جَثَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا " ؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " كُلُوا مِنْ حَوَالَيْهَا ، وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا ، يُبَارَكْ فِيهَا "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وجثا جثوًا وجثيًّا : جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه .
قال ابن حجر – رحمه الله : وإذا ثبت كونه ( أي : الاتكاء ) مكروهًا ، أو خلاف الأولى ؛ فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه وظهور قدميه ، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى ... قال : واختلف في علة الكراهة ، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال : كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم ... فهو المعتمد ، ووجه الكراهة فيه ظاهر ، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب ؛ والله أعلم[SUP] ( [5] ) [/SUP].
[1] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : ت ك أ ) .

[2] - البخاري ( 5084 ) ، ورواه أحمد : 4 / 308 ، 309 ، وأبو داود ( 3769 ) ، والنسائي في الكبرى ( 6753 ) .

[3] - أبو داود ( 3773 ) ، وابن ماجة ( 3263 ) ، وصححه الألباني .

[4] - أحمد : 2 / 165 ، 167 ، وأبو داود ( 3770 ) ، وابن ماجة ( 244 ) ، وصححه الألباني ؛ وقوله : ( لا يطأ عقبيه رجلان ) أي : لا يمشي رجلان خلفه ، فضلا عن الزيادة .

[5] - فتح الباري : 9 / 542 .
 
6 - التسمية
أي : قول : ( بسم الله ) عند ابتداء الطعام ، وهذا أدب عظيم ، من أسباب بركة الطعام ، وقد مرَّ حديث وحشي رضي الله عنه : " فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ " ؛ وهو - أيضًا – يمنع مشاركة الشيطان في الطعام ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ ، فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ ، قَالَ الشَّيْطَانُ : لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ ؛ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ ، قَالَ الشَّيْطَانُ : أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ ؛ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ ، قَالَ : أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفيه - أيضًا - عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا ، لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعَ يَدَهُ ؛ وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا ، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لاَ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا ؛ فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا "[SUP] ( [2] )[/SUP] .
والمعنى أنه يتمكن من أكل الطعام إذا شرع فيه إنسان بغير ذكر اسم الله تعالى ، وأما إذا لم يشرع فيه أحد فلا يتمكن .
فإذا نسي أحدٌ أن يسمي في أول طعامه ، فليقل : " بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ " ، فعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ ، فَلْيَقُلْ : بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
قال النووي – رحمه الله : قال العلماء : ويستحب أن يجهر بالتسمية ، ليسمع غيره وينبهه عليها ؛ ولو ترك التسمية في أول الطعام عامدًا ، أو ناسيًا ، أو جاهلًا ، أو مُكْرَهًا ، أو عاجزًا لعارض آخر ، ثم تمكن في أثناء أكله منها ، يستحب أن يسمي ويقول : بسم الله أوله وآخره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ .. " ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم [SUP]( [4] ) [/SUP].


[1] - مسلم ( 2018 ) .

[2] - مسلم ( 2017 ) .

[3] - رواه أبو داود ( 3767 ) ، والترمذي ( 1858 ) ، وصححه .

[4] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13 / 188 ، 189 .
 
7 - الأكل باليمين
وهذا من الأدب الذي لابد من التزامه ، فإن الشيطان هو الذي يأكل بشماله ويشرب بشماله ؛ فقد روى مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ " [SUP]( [1] )[/SUP] .
وروى – أيضا - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وعند ابن ماجه عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ ، وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ ، وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ ، وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ ، وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ ، وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وقد اختلف في حكم الأكل باليمين هل هو للوجوب أم للاستحباب ؟ وظاهر الأحاديث يدل على الوجوب .
قال ابن عبد البر – رحمه الله – في حديث ابن عمر : في هذا الحديث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين ، وفي حديث جابر النهي عن الأكل بالشمال والشرب بها ؛ ومعلوم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وهذا تأكيد منه صلى الله عليه وسلم في النهي عن الأكل بالشمال ، والشرب بها ؛ فمن أكل بشماله ، أو شرب بشماله ، وهو عالم بالنهي ، ولا عذر له ، ولا علة تمنعه ، فقد عصى الله ورسوله ، ومن عصى الله ورسوله فقد غوى [SUP]( [4] ) [/SUP].
قال الحافظ بن حجر – رحمه الله : ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : " كُلْ بِيَمِينِكَ " ، قَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ ؛ قَالَ : " لاَ اسْتَطَعْتَ " .. مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ ؛ قَالَ : فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم الصغار ذلك ، تنبيهًا للآباء على تعليم الصغار ، وعدم تركهم على غير هذه الآداب ؛ ففي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ - رضي الله عنهما - قَالَ : كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " يَا غُلَامُ ، سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ[SUP] ( [6] ) [/SUP]؛ وقوله : ( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ) أي : صفة أكلي ، أي : لزمت ذلك ، وصار عادة لي .
وكان الصحابة ينكرون على من يأكل بشماله إلا من عذر ، ففي مصنف ابن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلًا وقد ضرب بيده اليسرى ليأكل بها ؛ قال : لا ، إلا أن تكون يدك عليلة ، أو معتلة[SUP] ( [7] ) [/SUP]؛ وفيه - أيضًا - أن عائشة - رضي الله عنها - رأت امرأة تأكل بشمالها فنهتها[SUP] ( [8] ) [/SUP].


[1] - مسلم ( 2020 ) ، ورواه أبو داود ( 3776 ) ، والترمذي ( 1799 ) ، والنسائي في الكبرى ( 6745 – 6748 ) .

[2] - مسلم ( 2019 ) .

[3] - ابن ماجة ( 3266 ) ، وصححه الألباني .

[4] - الاستذكار : 8 / 341 ، 342 .

[5] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 522 ، والحديث رواه مسلم ( 2021 ) .

[6] - البخاري ( 5061 – 5063 ) ، مسلم ( 2022 ) ، والصحفة دون القصعة ، وهي ما تسع ما يشبع خمسة ، والقصعة تشبع عشرة .

[7] - ابن أبي شيبة ( 24442 ) .

[8] - ابن أبي شيبة ( 24443 ) .
 
8 - الأكل مما يلي الآكل
في حديث أنس رضي الله عنه في زواج النبي صلى الله عليه وسلم : ثُمَّ جَعَلَ ( أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَقُولُ لَهُمْ : " اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ " [SUP]( [1] ) [/SUP]، ورواه مسلم بلفظ : " لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ " [SUP]( [2] )[/SUP] .
وفي حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه المتقدم : " وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " .
وهو أدب راق ، يراعي حق الآخرين ، ويمنع ما قد يكون من تقذر نفس صاحبه مما خاضت فيه اليد .
قال القرطبي – رحمه الله : قوله : " وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " محله ما إذا كان الطعام نوعًا واحدًا ، لأن كل أحد كالحائز لما يليه من الطعام ، فأخذ الغير له تعد عليه ، مع ما فيه من تقذر النفس مما خاضت فيه الأيدي ، ولما فيه من إظهار الحرص والنهم ، وهو مع ذلك سوء أدب بغير فائدة ، أما إذا اختلفت الأنواع فقد أباح ذلك العلماء [SUP]( [3] ) [/SUP].
وفي حديث عمر بن أبي سلمة قال النووي – رحمه الله : في هذا الحديث بيان ثلاث سنن من سنن الأكل وهي : التسمية ، والأكل باليمين ، والأكل مما يليه ؛ لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة ، وترك مروءة ، فقد يتقذره صاحبه ، لا سيما في الأمراق وشبهها ؛ وهذا في الثريد والأمراق وشبهها ، فإن كان تمرًا أو أجناسًا فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه ، والذي ينبغي تعميم النهي حملا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص [SUP]( [4] ) [/SUP].


[1] - رواه البخاري ( 4868 ) .

[2] - رواه مسلم ( 1428 ) ؛ ورواه بنحوه الترمذي ( 3218 ) وصححه ، والنسائي ( 3387 ) .

[3] - نقلا عن فتح الباري : 9 / 523 .

[4] - انظر ( شرح النووي على مسلم : 7 / 58 .
 
9 - إذا أكل بيده فليأكل بثلاث أصابع
الأصل الذي كان معروفًا هو الأكل باليد ، إلى أن اخترع الناس الملاعق وغيرها مما يستخدم في الأكل اليوم ، ولا يزال مِنَ الناس مَنْ يأكل بيده ؛ فإذا أكل الإنسان بيده فالسنة أن يكون ذلك بثلاث أصابع : الإبهام والسبابة والوسطى ، ففي صحيح مسلم عَنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال النووي – رحمه الله : فيه استحباب الأكل بثلاث أصابع ، ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر ، بأن يكون مرقًا وغيره مما لا يمكن بثلاث ، وغير ذلك من الأعذار [SUP]( [2] ) [/SUP].
وقال ابن حجر - رحمه الله : ويؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الأكل بثلاث أصابع ، وإن كان الأكل بأكثر منها جائزًا ، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عبيد الله ابن أبي يزيد أنه رأى ابن عباس إذا أكل لعق أصابعه الثلاث[SUP] ( [3] ) [/SUP]. قال عياض : والأكل بأكثر منها من الشره ، وسوء الأدب ، وتكبير اللقمة ؛ ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث ، فإن اضطر إلى ذلك لخفة الطعام ، وعدم تلفيفه بالثلاث ، فيدعمه بالرابعة أو الخامسة .ا.هـ. وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكلَ أكل بخمس ؛ فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال [SUP]([/SUP] [4] [SUP])[/SUP] .


[1] - مسلم ( 2032 ) .

[2] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13 / 203 ، 204 .

[3] - ورواه ابن أبي شيبة ( 24454 ) .

[4] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 578 .
 
10 - الأكل من جوانب الصفحة
وهذا من الآداب التي يُحافظ بها على بركة الطعام ، فيُشبع الآكلين .
روى أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا ، فَلاَ يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ ، وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا ، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلاَهَا " ، وفي رواية أَنَّ النَّبِيَّ أُتِىَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ ، فَقَالَ : " كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا ، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا "[SUP] ([1] ) [/SUP]؛ البركة تعني الزيادة ، وطعام مبارك ، أي : كثير وفيه خير .
وروى أحمد وأهل السنن عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ يُقَالُ لَهَا : الْغَرَّاءُ ، يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ ، فَلَمَّا أَضْحَوْا وَسَجَدُوا الضُّحَى ، أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ - يَعْنِي وَقَدْ ثُرِدَ فِيهَا - فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا ، فَلَمَّا كَثَرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " كُلُوا مِنْ حَوَالَيْهَا ، وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا ، يُبَارَكْ فِيهَا "[SUP] ( [2] ) [/SUP]. والذِرْوة من كل شيء أعلاه .
وروى ابن ماجه عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِ الثَّرِيدِ ، فَقَالَ : " كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ، مِنْ حَوَالَيْهَا ، وَاعْفُوا رَأْسَهَا ؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَأْتِيهَا مِنْ فَوْقِهَا "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وفي هذه الأحاديث أن الأدب بدء الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه ، فإن الوسط محل نزول البركة .

[1] - أحمد : 1 / 270 ، 300 ، 364 ، وأبو داود ( 3772 ) ، والترمذي ( 1805 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 6762 ) ، وابن ماجة ( 3277 ) .

[2] - أبو داود ( 3773 ) ، وابن ماجة ( 3263 ) ، ورواه ابن ماجة مختصرا ( 3275 ) .

[3] - ابن ماجة ( 3276 ) .
 
11 - إذا سقطت لقمة يميط عنها الأذى ويأكلها
في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ ، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا ، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ؛ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفيه – أيضًا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ ، فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى ، وَلْيَأْكُلْهَا ، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ " ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ ، قَالَ : " فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قال النووي - رحمه الله : واستحباب أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها هذا إذا لم تقع على موضع نجس ، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ، ولابد من غسلها إن أمكن ؛ فإن تعذر أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على العمل بهذه السنة ، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن حميد عن أنسٍ t أن لقمة سقطت من يده ، فطلبها حتى وجدها ؛ وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ ، فَلْيُمِطْ مَا عَلَيهَا ، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا ، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ "[SUP] ( [4] )[/SUP] .
وروى ابن ماجة والطبراني عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ : بَيْنَمَا هُوَ يَتَغَدَّى ، إِذْ سَقَطَتْ مِنْهُ لُقْمَةٌ ، فَتَنَاوَلَهَا فَأَمَاطَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ أَذًى ، فَأَكَلَهَا ، فَتَغَامَزَ بِهِ الدَّهَاقِينُ ، فَقِيلَ : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ، إِنَّ هَؤُلَاءِ الدَّهَاقِينَ يَتَغَامَزُونَ مِنْ أَخْذِكَ اللُّقْمَةَ ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ هَذَا الطَّعَامُ ! قَالَ : إِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأَدَعَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِهَذِهِ الْأَعَاجِمِ ؛ إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ أَحَدُنَا إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَتُهُ أَنْ يَأْخُذَهَا فَيُمِيطَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ أَذًى وَيَأْكُلَهَا ، وَلَا يَدَعَهَا لِلشَّيْطَانِ[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وإنما صار تركها للشيطان ؛ لأن فيه إضاعة نعمة الله ، والاستحقار بها من ما بأس ؛ ثم إنه من أخلاق المتكبرين ، فالمانع عن تناول تلك اللقمة في الغالب هو الكبر ، وذلك من عمل الشيطان .

[1] - أحمد 3 / 331 ، 337 ، ومسلم ( 2033 ) .

[2] - أحمد : 2 / 100 ، ومسلم ( 2034 ) ، وسَلَتَ الصَّحْفَة : تَتَبَّع ما بقى فيها من الطعام ، ومسحها بالأصْبع ونحوها ، وأصل السلت القطع .

[3] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13/ 204 .

[4] - ابن أبي شيبة ( 24459 ) .

[5] - ابن ماجة ( 3278 ) ، والطبراني في الكبير : 20 / 200 ( 450 ) ، والحسن لم يسمع من معقل بن يسار .
 
12 - الذُّبَابِ يَقَعُ فِي الطَّعَامِ
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً ، وَفِي الْآخَرِ دَاءً "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وفي رواية أبي داود والترمذي : " وَإِنَّهُ يَتَّقِى بِالْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ " ؛ ومعنى : " فَلْيَغْمِسْهُ " : فليغطه وليدخله فيه ، " دَاء " : سبب المرض ، " شِفَاء " : سبب الشفاء من ذلك الداء الذي في إحدى الجناحين .
وروى أحمد عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ ، فَأَتَانَا بِزُبْدٍ وَكُتْلَةٍ ، فَأُسْقِطَ ذُبَابٌ فِي الطَّعَامِ ، فَجَعَلَ أَبُو سَلَمَةَ يَمْقُلُهُ بِأُصْبُعِهِ فِيهِ ؛ فَقُلْتُ : يَا خَالُ ، مَا تَصْنَعُ ؟! فَقَالَ : إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ أَحَدَ جَنَاحَيْ الذُّبَابِ سُمٌّ ، وَالْآخَرَ شِفَاءٌ ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ ؛ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ ، وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ "[SUP] ( [2] ) [/SUP]. وقوله صلى الله عليه وسلم : " فَامْقُلُوهُ : اغمسوه كله ، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
قال ابن القيم - رحمه الله : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَى " اُمْقُلُوهُ " : اغْمِسُوهُ لِيَخْرُجَ الشّفَاءُ مِنْهُ كَمَا خَرَجَ الدّاءُ ؛ يُقَالُ لِلرّجُلَيْنِ : هُمَا يَتَمَاقَلَانِ إذَا تَغَاطَّا فِي الْمَاءِ .
وَاعْلَمْ أَنّ فِي الذّبَابِ عِنْدَهُمْ قُوّةً سَمِّيَّةً ، يَدُلُّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكَّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السّلَاحِ ، فَإِذَا سَقَطَ فِيمَا يُؤْذِيهِ اتّقَاهُ بِسِلَاحِهِ ؛ فَأَمَرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السّمّيّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي جَنَاحِهِ الْآخَرِ مِنْ الشّفَاءِ ، فَيُغْمَسُ كُلّهُ فِي الْمَاءِ وَالطّعَامِ ، فَيُقَابِلُ الْمَادَّةَ السُّمِّيَّةَ الْمَادَّةُ النّافِعَةُ ، فَيَزُولُ ضَرَرُهَا ؛ وَهَذَا طِبّ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كِبَارُ الْأَطِبّاءِ وَأَئِمّتُهُمْ ، بَلْ هُوَ خَارِجٌ مِنْ مِشْكَاةِ النّبُوّةِ ، وَمَعَ هَذَا فَالطَّبِيبُ الْعَالِمُ الْعَارِفُ الْمُوَفّقُ يَخْضَعُ لِهَذَا الْعِلَاجِ ، وَيُقِرّ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَنّهُ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَأَنّهُ مُؤَيّدٌ بِوَحْيٍ إلَهِيِّ خَارِجٍ عَنْ الْقُوَى الْبَشَرِيّةِ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَطِبّاءِ أَنّ لَسْعَ الزّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ إذَا دُلِكَ مَوْضِعُهُ بِالذّبَابِ نَفَعَ مِنْهُ نَفْعًا بَيّنًا وَسَكَّنَهُ ، وَمَا ذَاكَ إلّا لِلْمَادَّةِ الّتِي فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ ، وَإِذَا دُلِكَ بِهِ الْوَرَمُ الّذِي يَخْرُجُ فِي شَعْرِ الْعَيْنِ الْمُسَمّى ( شَعْرَةً ) - بَعْدَ قَطْعِ رُءُوسِ الذّبَابِ - أَبْرَأَهُ [SUP]( [3] ) [/SUP].
قال مقيده – عفا الله عنه : وقد أثبتت التجارب العلمية الحديث ما جاء به الحديث الشريف ؛ ففي مجلة ( التجارب الطبية الانجليزية ) عدد 1037 سنة 1927 ما ترجمته : لقد أطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض ، وبعد حين من الزمن ماتت تلك الجراثيم ، واختفى أثرها ، وتكونت في الذباب مادة مفترسة للجراثيم ، تسمى ( بكتريوناج ) ؛ ولو عملت خلاصة من الذباب في محلول ملحي لاحتوت على ( البكتريوناج ) ، التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض ، ولاحتوت تلك الخلاصة - أيضًا - على مادة خلاف البكتريوناج نافعة للمناعة ضد أربعة أنواع أخرى للجراثيم[SUP] ( [4] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 5445 ) .

[2] - أحمد : 3 / 67 ، وروى ابن ماجة المرفوع منه ( 3504 ) ، وكذلك أبو يعلى ( 986 ) ، وعنه ابن حبان ( 1247 ) .

[3] - انظر ( زاد المعاد ) : 4 / 102 .

[4] - نقلا عن ( مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها ) لعبد الله القصيمي - اهتم بطبعه المجلس العلمي السلفي ، تحت إشراف دار الدعوة السلفية ، شيش محل رود - لاهور- باكستان - رجب 1406هـ - مارس 1986 م .
 
13 - تَفْتِيشِ التَّمْرِ الْمُسَوَّسِ عِنْدَ الْأَكْلِ روى أبو داود وابن ماجة عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ عَتِيقٍ ، فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ ( 1 ) ، وفي رواية : كَانَ يُؤْتَى بِالتَّمْرِ فِيهِ دُودٌ ( 2 ) . والعتيق : القديم ؛ وفي الحديث مشروعية تفتيش قديم التمر – وما شابهه – لإخراج ما به ؛ وفيه - أيضًا - أن الطعام لا ينجس بوقوع الدود والسوس فيه ، ولا يحرم أكله . قال البيهقي في ( السنن الكبرى ) : وَرُوِىَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْىِ عَنْ شَقِّ التَّمْرَةِ عَمَّا فِي جَوْفِهَا ؛ فَإِنْ صَحَّ ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِذَا كَانَ التَّمْرُ جَدِيدًا ، وَالَّذِي رُوِّينَاهُ وَرَدَ فِي التَّمْرِ إِذَا كَانَ عَتِيقًا ( 3 ) .1 ) أبو داود ( 3832 ) ، وابن ماجة ( 3333 ) .2 ) أبو داود ( 3833 ) .3 ) انظر ( السنن الكبرى ) للبيهقي : 7 / 281 ، وحديث ابن عمر رواه الطبراني في ( الأوسط ) كما في ( مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : 5 / 55 ) بلفظ : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتش التمر عما فيه . قال الهيثمي : وفيه قيس بن الربيع ، وثقه شعبة والثوري ، وضعفه يحيى القطان ، وبقية رجاله ثقات .
 
14 - عدم القران في التمر ونحوه
وهذا أدب فيه مراعاة حق الآكلين ، خاصة إن كان التمر قليلا ؛ ففي الصحيحين عن شُعْبَةُ : حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ : أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَرَزَقَنَا تَمْرًا ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَأْكُلُ ، وَيَقُولُ : لَا تُقَارِنُوا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْقِرَانِ ؛ ثُمَّ يَقُولُ : إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال ابن حجر – رحمه الله : أَيْ : فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَازَ ، وَالْمُرَاد بِالْأَخِ رَفِيقه الَّذِي اِشْتَرَكَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ التَّمْر[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP].
ورواه أحمد وأبو داود بلفظ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِقْرَانِ ، إِلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَكَ [SUP]( [3] ) [/SUP]؛ وفي رواية لأحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مَعَ صَاحِبِهِ ، فَلَا يَقْرِنَنَّ حَتَّى يَسْتَأْمِرَهُ " ؛ يَعْنِي : التَّمْرَ[SUP] ( [/SUP][4][SUP] ) [/SUP].
قال النووي – رحمه الله : هذا النهى متفق عليه حتى يستأذنهم ، فإذا أذنوا فلا بأس ؛ واختلفوا في أن هذا النهى على التحريم أو على الكراهة والأدب ، فنقل القاضي عياض عن أهل الظاهر أنه للتحريم ، وعن غيرهم أنه للكراهة والأدب ؛ والصواب التفصيل : فإن كان الطعام مشتركًا بينهم فالقران حرام إلا برضاهم ، ويحصل الرضا بتصريحهم به ، أو بما يقوم مقام التصريح ، من قرينة حال أو إدلال عليهم كلهم ، بحيث يعلم يقينًا أو ظنًا قويًّا أنهم يرضون به ، ومتى شك في رضاهم فهو حرام ؛ وان كان الطعام لغيرهم أو لأحدهم ، اشترط رضاه وحده ، فإن قرن بغير رضاه فحرام ؛ ويستحب أن يستأذن الآكلين معه ولا يجب ، وإن كان الطعام لنفسه وقد ضيفهم به ، فلا يحرم عليه القران ؛ ثم إن كان في الطعام قلة ، فحسن ألا يقرن ، لتساويهم ؛ وإن كان كثيرًا بحيث يفضل عنهم ، فلا بأس بقرانه ؛ لكن الأدب مطلقًا التأدب في الأكل وترك الشره ، إلا أن يكون مستعجلا ، ويريد الإسراع لشغل آخر ؛ وقال الخطابي : إنما كان هذا في زمنهم وحين كان الطعام ضيقًا ، فأما اليوم مع اتساع الحال فلا حاجة إلى الإذن .ا.هـ وليس كما قال ، بل الصواب ما ذكرنا من التفصيل ؛ فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لو ثبت السبب ، كيف وهو غير ثابت ؛ والله أعلم[SUP] ( [5] ) [/SUP].
قال ابن حجر – رحمه الله : فِي مَعْنَى التَّمْر الرُّطَب وَكَذَا الزَّبِيب وَالْعِنَب وَنَحْوهمَا ، لِوُضُوحِ الْعِلَّة الْجَامِعَة . قَالَ الْقُرْطُبِيّ : حَمَلَ أَهْل الظَّاهِر هَذَا النَّهْي عَلَى التَّحْرِيم ، وَهُوَ سَهْو مِنْهُمْ وَجَهْل بِمَسَاقِ الْحَدِيث وَبِالْمَعْنَى ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُور عَلَى حَال الْمُشَارَكَة فِي الْأَكْل وَالِاجْتِمَاع عَلَيْهِ ، بِدَلِيلِ فَهْم اِبْن عُمَر رَاوِيه ، وَهُوَ أَفْهَم لِلْمَقَالِ وَأَقْعَد بِالْحَالِ .
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِمَّنْ يُوضَع الطَّعَام بَيْن يَدَيْهِ مَتَى يَمْلِكهُ ؟ فَقِيلَ : بِالْوَضْعِ ، وَقِيلَ : بِالرَّفْعِ إِلَى فِيهِ ، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ ؛ فَعَلَى الْأَوَّل فَمِلْكهمْ فِيهِ سَوَاء ، فَلَا يَجُوز أَنْ يَقْرُن إِلَّا بِإِذْنِ الْبَاقِينَ ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوز أَنْ يَقْرُن ؛ لَكِنَّ التَّفْصِيل الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة . نَعَمْ مَا يُوضَع بَيْن يَدَيْ الضِّيفَان ، وَكَذَلِكَ النِّثَار فِي الْأَعْرَاس ، سَبِيله فِي الْعُرْف سَبِيل الْمُكَارَمَة لَا التَّشَاحِّ ، لِاخْتِلَافِ النَّاس فِي مِقْدَار الْأَكْل ، وَفِي الِاحْتِيَاج إِلَى التَّنَاوُل مِنْ الشَّيْء ، وَلَوْ حُمِلَ الْأَمْر عَلَى تَسَاوِي السُّهْمَان بَيْنهمْ لَضَاقَ الْأَمْر عَلَى الْوَاضِع وَالْمَوْضُوع لَهُ ، وَلَمَا سَاغَ لِمَنْ لَا يَكْفِيه الْيَسِير أَنْ يَتَنَاوَل أَكْثَر مِنْ نَصِيب مَنْ يُشْبِعهُ الْيَسِير ، وَلَمَّا لَمْ يَتَشَاحَّ النَّاس فِي ذَلِكَ ، وَجَرَى عَمَلهمْ عَلَى الْمُسَامَحَة فِيهِ ، عُرِفَ أَنَّ الْأَمْر فِي ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاق فِي كُلّ حَالَة ، وَاللَّهُ أَعْلَم [SUP]( [/SUP][6][SUP] ) [/SUP].
وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا قرن أحدهم قال لإخوانه : إني قد قرنت فاقرنوا ؛ فروى ابن حبان والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة t قَالَ : كُنْت فِي أَصْحَاب الصُّفَّة ، فَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَمْر عَجْوَة ، فَكُبَّت بَيْننَا ، فَجعلنَّا نَأْكُل الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْجُوع ، وَجَعَلَ أَصْحَابنَا إِذَا قَرَنَ أَحَدهمْ قَالَ لِصَاحِبِهِ : إِنِّي قَدْ قَرَنْت فَاقْرِنُوا[SUP] ( [7] ) [/SUP].

[1] - البخاري ( 5131 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2045 ) .

[2] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 482 .

[3] - أحمد : 2 / 131 .

[4] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 482 .

[5] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13 / 228 ، 229 .

[6] - انظر ( فتح الباري ) : 9 / 484 .

[7] - ابن حبان ( 5233 ) ، والحاكم ( 7132 ) ، وصححه ووافقه الذهبي .
 
15 - يلعق الصحفة
وهذا من الأدب الذي فيه الحرص على نيل بركة الطعام ، ففي حديث أنس المتقدم : وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ ، قَالَ : " فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وسَلَتَ الصَّحْفَة : تَتَبَّع ما بقى فيها من الطعام ، ومسحها بالأصْبع ونحوها ، وأصل السلت القطع .
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ ، وَقَالَ : " إِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ "[SUP] ( [2] ) [/SUP]. واللعق كالسلت .
قال النووي – رحمه الله : وَقَوْله صلى الله عليه وسلم : " لَا تَدْرُونَ فِي أَيّه الْبَرَكَة " مَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَم - أَنَّ الطَّعَام الَّذِي يَحْضُرهُ الْإِنْسَان فِيهِ بَرَكَة ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَة فِيمَا أَكَلَهُ ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعه ، أَوْ فِي مَا بَقِيَ فِي أَسْفَل الْقَصْعَة ، أَوْ فِي اللُّقْمَة السَّاقِطَة ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظ عَلَى هَذَا كُلّه ، لِتَحْصُل الْبَرَكَة ، وَأَصْل الْبَرَكَة الزِّيَادَة وَثُبُوت الْخَيْر وَالْإِمْتَاع بِهِ ، وَالْمُرَاد هُنَا - وَاللَّهُ أَعْلَم - مَا يَحْصُل بِهِ التَّغْذِيَة ، وَتَسْلَم عَاقِبَته مِنْ أَذًى ، وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى ؛ وَغَيْر ذَلِكَ[SUP] ( [3] ) [/SUP].

[1] - أحمد : 2 / 100 ، ومسلم ( 2034 ) .

[2] - مسلم ( 2033 ) .

[3] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13/ 206 .
 
يلعق أصابعه بعد الأكل
هذا - أيضًا - من الأدب المتعلق بتحصيل البركة ؛ ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ ، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا ، أَوْ يُلْعِقَهَا "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي صحيح مسلم عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا[SUP] ( [2] ) [/SUP].
قال النووي – رحمه الله : " يَلْعَقَهَا ، أَوْ يُلْعِقَهَا " معناه - والله أعلم – لا يمسح يده حتى يلعقها ، فإن لم يفعل فحتى يُلعقها غيره ، ممن لا يتقذر ذلك ، كزوجة وجارية وولد وخادم يحبونه ويلتذون بذلك ، ولا يتقذرون ، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها ، والله أعلم [SUP]( [3] ) [/SUP].
قال الخطابي – رحمه الله : عاب قوم أفسد عقلَهم الترفه ، فزعموا أن لعق الأصابع مستقبح ، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه ، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرًا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرًا ، وليس في ذلك أكبر من مصه أصابعه بباطن شفتيه ؛ ولا يشك عاقل في أن لا بأس بذلك ، فقد يمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه ، فيدلك أسنانه وباطن فمه ، ثم لم يقل أحد : إن ذلك قذارة أو سوء أدب[SUP]( [4] ) [/SUP].

[1] - البخاري ( 5140 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2031 ) .

[2] - مسلم ( 2032 ) .

[3] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 13 / 206 باختصار .

[4] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 9 / 578 ، 579 .
 
17 – القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل
لا شك أن الإفراط في الطعم والشراب مضر بالإنسان ، وقديمًا قال الأطباء : المعدة بيت الداء ، وتقدم أن الله لا يحب المسرفين في الطعام والشراب ، ولذلك وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم ميزانًا تَعَجَّب منه أهل الطب ؛ فقد روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ "[SUP] ([1] ) [/SUP].
قال ابن حجر – رحمه الله : قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي ( شَرْح الْأَسْمَاء ) : لَوْ سَمِعَ بُقْرَاط بِهَذِهِ الْقِسْمَة ، لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَة ؛ وَقَالَ الْغَزَالِيّ قَبْله فِي ( بَاب كَسْر الشَّهْوَتَيْنِ ) مِنْ ( الْإِحْيَاء ) : ذُكَرَ هَذَا الْحَدِيث لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَة فَقَالَ : مَا سَمِعْت كَلَامًا فِي قِلَّة الْأَكْل أَحْكَم مِنْ هَذَا .ا.هـ . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ أَثَر الْحِكْمَة فِي الْحَدِيث الْمَذْكُور وَاضِح ، وَإِنَّمَا خُصَّ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَسْبَاب حَيَاة الْحَيَوَان ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُل الْبَطْن سِوَاهَا .
وَهَلْ الْمُرَاد بِالثُّلُثِ التَّسَاوِي عَلَى ظَاهِر الْخَبَر ، أَوْ التَّقْسِيم إِلَى ثَلَاثَة أَقْسَام مُتَقَارِبَة ؟ مَحَلّ اِحْتِمَال ، وَالْأَوَّل أَوْلَى [SUP]( [2] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 4 / 132 ، الترمذي ( 2380 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 6768 ، 6769 ) ، وابن ماجة ( 3349 ) ، ورواه ابن حبان ( 674 ) .

[2] - نقلا عن ( فتح الباري ) : 9 / 438 ، 439 .
 
18 - يحمد الله تعالى بعد الأكل
فهذا أدب عظيم ، فيه الإقرار بالنعمة ، وشكرها لموليها عز وجل ، وقد ورد في ذلك أنواع من الحمد ، وكلها مجزئة ، والأولى أن يذكر كل واحد منها بعد كل أكلة منوعًا ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ ، كَثِيرًا ، طَيِّبًا ، مُبَارَكًا فِيهِ ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ ، وَلَا مُوَدَّعٍ ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
ومائدته ، أي : بقية طعامه ، إذ المعلوم أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يأكل على خوان ؛ ومكفيّ ( بفتح الميم وتشديد الياء ) : قد تكون من الكفاية ، وعليه فمعناه : أن الله هو المُطعِم والكافي ، وهو غير مُطعَم ولا مكفي ، فهو سبحانه يُطعِم ولا يُطعَم ؛ قاله الخطابي وغيره . وقد تكون من كفأت الإناء للاستغناء عنه ، أو لعدمه ؛ " وَلَا مُوَدَّعٍ " أي : غير متروك الطلب منه ، والرغبة إليه[SUP] ( [/SUP][2][SUP] )[/SUP] .
وفي رواية : " الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي كَفَانَا ، وَأَرْوَانَا ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ ، وَلَا مَكْفُورٍ " ، وَقَالَ مَرَّةً : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ ، وَلَا مُوَدَّعٍ ، وَلَا مُسْتَغْنًى رَبَّنَا " [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] . " كَفَانَا " من الكفاية ، وهي أعم من الشبع والري ؛ " وَأَرْوَانَا " من الري ، وهو أخذ الكفاية من الماء ؛ " وَلَا مَكْفُورٍ " : غير مجحود فضله ، ولا تنكر نعمته .
وروى أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِ سِنِينَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ قَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ : " اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ ، وَأَسْقَيْتَ ، وَأَغْنَيْتَ ، وَأَقْنَيْتَ ، وَهَدَيْتَ ، وَاجْتَبَيْتَ ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وروى أبو داود والنسائي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ، قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ ، وَسَقَى ، وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وروى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلاَ قُوَّةٍ ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " [SUP]( [6] ) [/SUP].
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ أَطْعَمه الله طعامًا فليقل : " اللهمّ بَارِك فيه ، وأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ ؛ وَمَنْ سَقَاهُ الله لَبَنًا ، فَلْيَقُلْ : اللّهُمّ بارِكْ لَنَا فِيهِ ، وَزِدْنَا مِنْهُ " وَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكانَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ غَيْرَ اللّبَنِ " [SUP]( [7] ) [/SUP]؛ أي : ليس شيء يكفي في دفع الجوع والعطش معًا مكان الطعام والشراب ، أي : مكان جنس المأكول والمشروب وبدلهما غير اللبن .
[1] - البخاري ( 5142 ) ؛ ورواه أحمد : 5 / 256 ، وأبو داود ( 3849 ) ، والترمذي ( 3456 ) ، والنسائي في الكبرى ( 10116 ) .

[2] - انظر معالم السنن : 5 / 344 ، وشرح السنة : 11 / 277 ، 278 ، والنهاية في غريب الحديث : 4 / 182 ، والأذكار للنووي : ص211 .

[3] - البخاري ( 5143 ) .

[4] - أحمد : 4 / 337 .

[5] - أبو داود ( 3851 ) ، والنسائي في الكبرى ( 6867 ) ، ورواه ابن حبان ( 5220 ) .

[6] - أحمد : 3 / 439 ، وأبو داود ( 4023 ) ، والترمذي ( 3453 ) ، وابن ماجة ( 3285 ) .

[7] - أحمد : 1 / 225 ، 284 ، وأبو داود ( 3730 ) ، والترمذي ( 3455 ) ، وابن ماجة ( 3285 ) .
 
19 – يدعو لمن أضافه
هذا أدب راق ، يعلمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل عند سعد بن عبادة زيتًا ( زبيبًا ) ، ثم قال : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ " [SUP]( [/SUP][1][SUP] )[/SUP] ؛ وليس في هذه الرواية ما يخصص هذه الدعوة بحالة الإفطار ، وأما ما رواه أحمد والنسائي والدارمي عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند أهل بيت قال : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَلائِكَةُ ( وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلائِكَةُ ) "[SUP] ( [/SUP][2][SUP] )[/SUP] ؛ فيدل على أنه كان يدعو بهذا الدعاء في هذه الحالة ، ولا ينفي أنه كان يدعو به أحيانًا من غير أن يكون صائمًا ، كما في حديث أكله عند سعد t ، كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو بغيره أيضًا ؛ والله أعلم .
فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي ، فقربنا إليه طعامًا ووطبة ، فأكل منها .. فقال أبي : ادع لنا ؛ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ "[SUP]( [/SUP][3][SUP] )[/SUP] .
والوطبة ( بفتح الواو وإسكان الطاء ) : قربة لطيفة يكون فيها لبن .
وعن المقداد رضي الله عنه في حديثه الطويل .. وفيه : قال : فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء فقال : " اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي ، وَاسْقِ مَنْ سْقَانِي " [SUP]([/SUP][4][SUP] )[/SUP] .

[1] - رواه عبد الرزاق في المصنف ( 7907 ، 19425 ) مختصرًا ومطولا ، ومن طريقه أحمد : 3 / 138، وأبو داود ( 3854 ) .

[2] - أحمد : 3 / 118 ، والنسائي في اليوم والليلة ( 298 ) ، والدارمي ( 1773 ) .

[3] - رواه مسلم ( 2042 ) .

[4] - رواه مسلم ( 2055 ) .
 
20 - غَسْلِ الْيَدِ مِنَ الطَّعَامِ
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأهل السنن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
ففي الحديث الندب إلى غسل اليدين بعد اللعق كما تقدم ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك بقوله : " ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " ، وهذا الشيء الذي يمكن أن يصيبه من أثر هذا الدهن الذي تركه ولم يغسله ، قد يكون إيذاء من بعض الحشرات أو الهوام ، وذلك لأن الهوام وذوات السموم ربما تقصده وهو نائم لريح الطعام فتؤذيه ؛ أو لنمو الميكروبات على آثار الطعام التي لم تغسل ... والعلم عند الله تعالى .
وروى النسائي وابن حبان والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : دَعَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ قُبَاءٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ ، فَلَمَّا طَعِمَ وَغَسَلَ يَدَهُ ، أَوْ يَدَيْهِ ، قَالَ : " الْحَمْدُ للهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ، مَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا ، وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا ، وَكُلَّ بَلاَءٍ حَسَنٍ أَبْلانَا ، الْحَمْدُ للهِ ، غَيْرَ مُوَدَّعٍ ، وَلا مُكَافَأٍ ، وَلا مَكْفُورٍ ، وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطَّعَامِ ، وَسَقَى مِنَ الشَّرَابِ ، وَكَسَا مِنَ الْعُرْيِ ، وَهَدَى مِنَ الضَّلالَةِ ، وَبَصَّرَ مِنَ الْعَمَى ، وَفَضَّلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ تَفْضِيلاً ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "[SUP] ( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP].
وواضح من قوله : ( فَلَمَّا طَعِمَ وَغَسَلَ يَدَهُ ) استحباب غسل اليد بعد الأكل ، والعلم عند الله تعالى .


[1] - أحمد : 2 / 262 ، 344 ، والأدب المفرد ( 1219 ) ، وأبو داود ( 3852 ) ، والترمذي ( 1860 ) ، وابن ماجة ( 3297 ) .

[2] - النسائي في الكبرى ( 10133 ) ، وابن حبان ( 5219 ) ، والحاكم ( 2003 ) وصححه على شرط مسلم .
 
21 – أدب الجشاء
الجشاء : ريح يخرج من الفم مع صوت عند الشبع ؛ روى الترمذي وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] ؛ والكف : الصرف والدفع ؛ قال العلماء : والنهي عن الجشاء نهى عن سببه ، وهو الشبع ، وهو مذموم شرعًا وطبًّا ؛ وقد تقدم الحديث عن القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل .


[1] - الترمذي ( 2478 ، وابن ماجة ( 3350 ) وحسنه الألباني .
 
هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل
قال ابن تيمية - رحمه الله : وَكَانَ خُلُقُهُ فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا تَيَسَّرَ إذَا اشْتَهَاهُ ، وَلَا يَرُدُّ مَوْجُودًا ، وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا ؛ فَكَانَ إنْ حَضَرَ خُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ ، وَإِنْ حَضَرَ فَاكِهَةٌ وَخُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ ، وَإِنْ حَضَرَ تَمْرٌ وَحْدَهُ ، أَوْ خُبْزٌ وَحْدَهُ ، أَكَلَهُ ؛ وَإِنْ حَضَرَ حُلْوٌ ، أَوْ عَسَلٌ ، طَعِمَهُ أَيْضًا ؛ وَكَانَ أَحَبَّ الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوُ الْبَارِدُ ، وَكَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ إذَا حَضَرَ لَوْنَانِ مِنْ الطَّعَامِ يَقُولُ : لَا آكُلُ لَوْنَيْنِ ! وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ ؛ وَكَانَ أَحْيَانًا يَمْضِي الشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ لَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ ، وَلَا يَأْكُلُونَ إلَّا التَّمْرَ وَالْمَاءَ ، وَأَحْيَانًا يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ ، وَكَانَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا ، فَإِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ ، وَإِلَّا تَرَكَهُ . وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ لَحْمُ ضَبٍّ ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ ، وَقَالَ : " إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي ، فَأَجِدُنِي أَعَافَهُ " [SUP]( [1] ) [/SUP].
[1] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 22 / 310 ، 311 .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم في تسطير هذه الآداب ، وأساله سبحانه أن يتقبلها ، وأن ينفع بها ؛ وما كان فيها من صواب فبتوفيق الله وحده ، وله الحمد والمنة ، وما كان من تقصير فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم منه .
لكن قـدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
والله أسأل التوفيق والسداد ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
} رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ { .. آمين ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله .
 
عودة
أعلى