آداب الأخوة الخاصة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
آداب الأخوة الخاصة​

في دنيا الناس لابد للعاقل من أخ يؤاخيه ، أو صديق يصطفيه ، أو صاحب يصحبه ، أو خليل يقربه ، فإن الأخوة والصداقة والصحبة والخلة نافعة في الدنيا والآخرة إذا أسست على التقوى لله تعالى ، وأما إذا بنيت على غير ذلك فلا تنفع أصحابها يقينًا في الآخرة ، وإن أصابهم بعض نفع دنيوي من ورائها ؛ قال الله تعالى : ] الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [ [ الزخرف : 67 ].
وفي الإسلام لهذه العلاقة ضوابط وحقوق وآداب ؛ ارتقت بها إلى أعلى مراتبها فيما عرفت البشرية .
ما أحوج الإنسان إلى أخوة حقيقية في الله ، مجردة لوجهه تعالى ، مع أخ ينبهك إذا غفلت ، ويجدد همتك إذا فترت ، ويرافقك المسير في الطريق المستقيم .
وفي رسالتنا هذه ( آداب الأخوة الخاصة ) نحاول أن نلقي الضوء على هذه العلاقة التي لا يستغني عنها عاقل في حياته .
 
تعريف الأخوة والإخوان
الأُخُوَّةً مصدر من التَّآخي ، وهو اتَّخاذُ الأخَوانِ بينهما إخاءً وأُخُوَّةً ، يعني من أخوَّة الصَّداقة ؛ والإخوان : جمع أخ ، ويجمع إِخْوَةٌ أيضًا ، والأَخُ من النسَب معروف ، وقد يكون الصديقَ والصاحِبَ ، وأكثر ما يستعمل الإخوان في الأصدقاء ، والإخوة في الولادة ( 1 ) .
وأخوة الصداقة والصحبة علاقة اجتماعية لها معان جليلة ؛ حتى شاع قولهم : رب أخٍ لك لم تلده أمك ؛ وعلى منوالها قال الشاعر :
كـم مِن أخٍ لم يَلـدِهْ أبُوكا ... وأخٍ أبـوهُ أبوكَ قد يَجْفُوكا
صافِ الكِرَامَ إذا أَردتَ إخاءَهم ... واعْلَم بأنَّ أخا الحِفاظ أُخوكا
والناسُ ما استغنيتَ كُنتَ أخاهُمُ ... وإذَا افتقرتَ إليهمُ رَفَضُوكَا
وقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : التارك للإخوان متروك .ا.هـ .
( 1 ) انظر مفردات الراغب ( مادة : أ خ ) ، ولسان العرب باب الخاء فصل الهمزة .
 
الصاحب والصديق والخليل
هذه ألفاظ تدخل في المعنى المراد بالأخوة ، فالأخ والصديق والصاحب والخليل كلمات تتقارب في المعنى ، وقد تتداخل حسب درجات الصداقة ؛ فقد ذهب الغزالي - رحمه الله - في ( إحياء علوم الدين ) إلى أن الصداقة تتفاوت ، فإنها إذا قويت صارت أخوة ، فإن ازدادت صارت محبة ، فإن ازدادت صارت خلة ؛ والخليل أقرب من الحبيب ؛ فالمحبة ، ما تتمكن من حبة القلب ، والخلة ما تتخلل سر القلب ؛ فكل خليل حبيب وليس كل حبيب خليلاً ؛ وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة .ا.هـ . ولذا فسنذكر معاني هذه الألفاظ :
الصاحب :
الصاد والحاء والباء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على مقارَنة شيءٍ ومقاربته ؛ ومن ذلك الصَّاحب ؛ فالصاحب : الملازم ؛ ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته ، وقد قيل فيما بين الصاحب والأخ في التقارب في المعنى :
ما ضاع من كان له صاحب ... يقدر أن يرفع من شانه
وإنـما الـدنيا بسكانها ... وإنـما الـمرء بإخوانه​
الصديق :
الصَّداقةُ والمُصادَقةُ : المُخالَّة ؛ وصادَقْتُه مُصادَقةً وصِداقًا خالَلْتُه ؛ والصَّداقةُ مصدر الصَّدِيق ، واشتقاقُه أَنه صَدَقَه المودَّة والنصيحةَ ؛ والصَّدِيقُ المُصادِقُ لك ، والجمع صُدَقاء وصُدْقانٌ وأَصْدِقاء وأَصادِقُ ؛ وقالَ الرّاغِبُ : الصَّداقَةُ : صِدْق الاعْتِقاد في المَوَدَّة ، وذلكَ مُخْتَصٌّ بالإنْسانِ دونَ غيْرِه .ا.هـ . قال ابن عطية : ولفظ ( الصديق ) يقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود .ا.هـ ( 1 ) . فالصديق هو الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك ؛ وإنما سمي الصديق صديقًا لصدقه فيما يدعيه من المودة ، وسمي العدو عدوًا لعَدْوِهِ عليك إذا ظفر بك ؛ وقِيلَ لِحَكِيمٍ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك أَخُوك أَوْ صَدِيقُك ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقًا .
الخليل :
اَلْخَلِيل : اَلصَّدِيق اَلْخَالِص اَلَّذِي تَخَلَّلَتْ مَحَبَّتُهُ اَلْقَلْبَ فَصَارَتْ فِي خِلَالِهِ ، أَيْ : فِي بَاطِنِهِ ؛ وَنقل النووي عن ابْن الْأَنْبَارِيِّ قَالَ : الْخَلِيل : مَعْنَاهُ الْمُحِبُّ الْكَامِل الْمَحَبَّة ، وَالْمَحْبُوب الْمُوَفِّي بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّة ، اللَّذَانِ لَيْسَ فِي حُبِّهمَا نَقْص وَلَا خَلَل .ا.هـ . وَقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله : قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : الْخَلِيل هُوَ الَّذِي يُوَافِقك فِي خِلَالك وَيُسَايِرك فِي طَرِيقك ، أَوْ الَّذِي يَسُدُّ خَلَلَكَ وَتَسُدُّ خَلَلَهُ ، أَوْ يُدَاخِلك خِلَال مَنْزِلك .ا.هـ . وَقِيلَ : أَصْل الْخُلَّة اِنْقِطَاع الْخَلِيل إِلَى خَلِيله ، وَقِيلَ : الْخَلِيل مَنْ يَتَخَلَّلهُ سِرُّك ، وَقِيلَ : مَنْ لَا يَسَع قَلْبه غَيْرَك ، وَقِيلَ : أَصْل الْخُلَّة الِاسْتِصْفَاء ، وَقِيلَ : الْمُخْتَصُّ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقِيلَ : اِشْتِقَاق الْخَلِيل مِنْ الْخَلَّة بِفَتْحِ الْخَاء وَهِيَ الْحَاجَة ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ الْمُحْتَاج إِلَى مَنْ يُخَالُّهُ ، وَهَذَا كُلُّه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَان ؛ أَمَّا خُلَّةُ اللَّه تَعَالَى لِلْعَبْدِ فَبِمَعْنَى نَصْره لَهُ وَمُعَاوَنَته ( 2 ) .
فالخُلَّةُ ( بالضم ) : صفاء المودة وتخللها في القلب ، وقيل : إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح ؛ كما قيل في ذلك :
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا​
وقال آخر:
هُمُومُ رِجَـالٍ فِي أُمُـورٍ كَثِيرَةٍ ... وَهَمِّي مِنْ الدُّنْيَا صَـدِيقٌ مُسَاعِدُ
نَكُونُ كَرُوحٍ بَيْنَ جِسْمَيْنِ قُسِّمَتْ ... فَجِسْمَاهُمَا جِسْمَانِ وَالرُّوحُ وَاحِدُ​
وقوله تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] ؛ قيل : سماه بذلك لافتقاره إليه سبحانه في كل حال ؛ وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله : وَالْخَلِيل فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِل ، وَهُوَ مِنْ الْخُلَّة بِالضَّمِّ وَهِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّة الَّتِي تَخَلَّلَتْ الْقَلْب فَصَارَتْ خِلَاله ؛ وَهَذَا صَحِيح بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي قَلْب إِبْرَاهِيم مِنْ حُبّ اللَّه تَعَالَى ؛ وَأَمَّا إِطْلَاقه فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى فَعَلَى سَبِيل الْمُقَابَلَة ، وَقِيلَ : الْخُلَّة أَصْلهَا الِاسْتِصْفَاء ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُوَالِي وَيُعَادِي فِي اللَّه تَعَالَى ، وَخُلَّة اللَّهِ لَهُ نَصْره وَجَعْله إِمَامًا ، وَقِيلَ : مُشْتَقّ مِنْ الْخَلَّة ( بِفَتْح الْخاء ) ؛ وَهِيَ الْحَاجَة ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى رَبِّه وَقَصْرهِ حَاجَته عَلَيْهِ ( 3 ) .
وأما ما رواه أحمد وابن ماجه عَنْ ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " أَلَا إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ؛ إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ " ( 4 ) ؛ ففيه فوائد ؛ منها :
1 – إنَّما قال ذلك لأن خُلَّتَه كانت مَقْصُورَة على حُبِّ الله تعالى ، فليس فيها لِغَيرِه مُتَّسَع ولا شَرِكَة من مَحابِّ الدنيا والآخرة ؛ وهذه حَال شَرِيفَة لا يَنَالها أحدٌ بِكسْب واجْتِهاد فإنَّ الطِّبَاع غالبَة ، وإنَّما يَخُصُّ اللَّه بها من يشاء من عِبَاِده مِثْل سَيِّد المرسلين صلوات اللّه وسلامه عليه ( 5 ) .
2 - أن أبا بكر متأهل لأن يتخذه صلى الله عليه وسلم خليلا لولا المانع المذكور ، وهو أنه امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته .
3 - وقَوْل أبي ذر : ( أَوْصَانِي خَلِيلِي ) ؛ لَا يُخَالِفُ قَوْله صلى الله عليه وسلم : " وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا " ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنَع أَنْ يَتَّخِذَ النَّبِيُّ  غَيْرَهُ خَلِيلًا ، وَلَا يَمْتَنِع اِتِّخَاذ الصَّحَابِيِّ وَغَيْره النَّبِيَّ  خَلِيلًا ؛ أفاده النووي وغيره( 6 ) .
وأما قول الكافر يوم القيامة : { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً } [ الفرقان : 28 ] ؛ فتنبيهًا على أن كل إنسان يندم على من خاللـه وصاحبه في تحري باطل فيقول : ليتني لم أخاللـه ؛ وذلك إشارة إلى ما قال تعالى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] ؛ كما فيه بيان إلى أن الخلة النافعة هي ما كانت مبنية على التقوى لله تعالى ؛ ولله در القائل :
وكل خليل ليس في الله وده ... فإني به في وده غير واثق​
وَقَالَ آخَرُ :
مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّهِ خِلَّتُهُ ... فَخَلِيلُهُ مِنْهُ عَلَى خَطَرِ​
وَقَالَ آخَرُ :
إذا لَمْ أجدْ خِلًّا تقيًّا فَوَحْدَتي ... أَلَذُّ وأَشَهَى مِنْ غَويٍّ أعاشرُه
وأَجلسُ وحدي للعبادةِ آمِنًا ... أَقَرُّ لعيني مِنْ جَليسٍ أحـاذرُه​

( 1 ) انظر المحرر الوجيز لابن عطية عند تفسير الآية ( 101 ) من سورة الشعراء .
( 2 ) انظر مفردات الراغب ، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير ( مادة خ ل ل ) ولسان العرب باب اللام فصل الخاء ، والمنهاج شرح مسلم بن الحجاج للنووي : 3 / 56 ، وفتح الباري : 7 / 23 .
( 3 ) انظر فتح الباري : 6 / 389 .
( 4 ) أحمد : 1 / 377 ، 389 ، وابن ماجة ( 93 ) ، والنسائي في الكبرى ( 8105 ) .
( 5 ) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة خ ل ل )
( 6 ) انظر شرح مسلم للنووي : 5 / 234 ، وفتح الباري لابن حجر : 3 / 57 .
 
ومن لطائف الشعر في ذلك : ومن لم يغمض عينه عن صديقه 00 وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة 00يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
00000000
ما اقبح الود يدنيه ويبعده 00بين الصديقين إقلال وإكثار
 
ألفاظ تتفاوت في المعنى
اخْتُلِفَ فِي الْمَوَدَّة وَالْخُلَّة وَالْمَحَبَّة ؛ هل هِيَ مُتَرَادِفَة أَوْ مُخْتَلِفَة ؟ قَالَ أَهْل اللُّغَة : الْخُلَّة أَرْفَع رُتْبَة ، وَهُوَ الَّذِي يُشْعِر بِهِ قَوْله e : " لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْر رَبِّي " فَإِنَّهُ يُشْعِر بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَلِيل مِنْ بَنِي آدَم ؛ وَقَدْ ثَبَتَتْ مَحَبَّته لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابه كَأَبِي بَكْر وَفَاطِمَة وَعَائِشَة وَالْحَسَنَيْنِ وَغَيْرهمْ ، وَلَا يُعَكِّر عَلَى هَذَا اِتِّصَاف إِبْرَاهِيم u بِالْخُلَّةِ ، وَمُحَمَّد e بِالْمَحَبَّةِ ، فَتَكُون الْمَحَبَّةُ أَرْفَعَ رُتْبَة مِنْ الْخُلَّة ؛ لِأَنَّهُ يُجَاب عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا e قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا ، فَيَكُون رُجْحَانه مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( [1] ) .

[1] - انظر فتح الباري : 7 / 23 ح باختصار .
 
أنواع الأخوة

تنقسم الأخوة إلى أخوة عامة ، وأخوة خاصة ؛ أما الأولى فيشترك فيها كل مسلم آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولًا ، وهذه الأخوة لها حقوق وآداب عامة .
وأما الأخوة الخاصة ؛ فهي بين الإنسان وبين من يتخذه من أخ وصاحب وصديق وخليل ؛ وهذه مع ما لها من الحقوق والآداب العامة ، لها حقوق وآداب خاصة ؛ وسأتناول ذلك بشيء من التفصيل في هذه الرسالة ، والله المستعان .
 
آداب اختيار الصديق


من تؤاخي - تصاحب - تصادق - تخالل ؟

عرفت الدنيا إخوة حقٍّ ، وصحبة ودٍّ ، وصداقة صدق ، وخلة وفاء ؛ وعرفت - أيضًا - إخوة غش ، وصحبة مصلحة ، وصداقة أغراض ، وخلة غدر ؛ ذلك لاختلاف معادن الناس واختلاف أغراضهم في إقامة هذه العلاقة أو تلك .
والأخ الصادق ، والصاحب الودود ، والصديق الحميم ، والخل الوفي ، ينفعون في الدنيا والآخرة ؛ قال الله تعالى : ] الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [ [ الزخرف:67]؛ وقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الصَّدِيقِ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ : ] فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [ [ الشعراء : 100 ، 101 ] ؛ وقال قتادة : يعلمون - والله - أن الصديق إذا كان صالحًا نفع ، وأن الحميم إذا كان صالحًا شفع .ا.هـ.
والصديق الحميم هو القريب المشفق ؛ قال القرطبي : والحميم القريب والخاص ، ومنه حامة الرجل أي أقرباؤه ؛ وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار ؛ فحامة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه .ا.هـ . وقال ابن عطية : والحميم : الولي والقريب الذي يخصك أمره ويخصه أمرك ، وحامة الرجل خاصته ( [1] ) .
وروى أحمد - واللفظ له - والشيخان والنسائي وابن ماجة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمِنُوا ، فَمَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ ؛ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ، إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا ، وَيَصُومُونَ مَعَنَا ، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا ، فَأَدْخَلْتَهُمْ النَّارَ ؟ فَيَقُولُ : اذْهَبُوا فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ ؛ فَيَأْتُونَهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ ، لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ ، فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا ، أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا ؛ ثُمَّ يَقُولُ : أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنْ الْإِيمَانِ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ ، حَتَّى يَقُولَ : مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ " قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَذَا فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ : ] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ ( [2] ) .
ولهذا كان الحسن يقول : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة ( [3] ) .
وروى أحمد والترمذي وحسنه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ " ؛ قال المناوي في ( فيض القدير ) : الصاحب يقع على الأدنى والأعلى والمساوي في صحبة دين أو دنيا سفرًا أو حضرًا ؛ فخيرهم عند الله منزلة وثوابًا فيما اصطحبا أكثرهما نفعًا لصاحبه ، وإن كان الآخر قد يفضله في خصائص أخر .ا.هـ .
ومن هنا يجب على العاقل أن يختار أخاه وصديقه وصاحبه وخليله ؛ وسنحاول أن نذكر أهم ما ترتكز عليه هذه العلاقة لتكون صالحة منجية لصاحبها ، نافعة له في الدنيا والآخرة .
ويجمل الإمام الغزالي في كتابه ( بداية الهداية ) ما يلزم الإخوان والأصدقاء في وظيفتين :
الوظيفة الأولى : شروط الصحبة والصداقة .
الوظيفة الثانية : مراعاة حقوق الصحبة .
ولنبدأ في الحديث عن الوظيفة الأولى ، وهي : شروط الصحبة والصداقة :

[1] - انظر تفسير القرطبي ، وتفسير ابن عطية عند تفسير الآية ( 101 ) من سورة الشعراء .

[2] - أحمد : 3 / 94 ، والبخاري ( 7740 ) ، ومسلم ( 183 ) ، والنسائي ( 5010 ) ، وابن ماجة ( 60 ) .

[3] - ذكره البغوي في تفسيره عند تفسير الآية ( 100 ) من سورة الشعراء .
 
1 - لا تصاحب إلا مؤمنًا
روى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ؛ وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ " ( [1] ) ؛ وقَوْلُهُ : " لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا " أَيْ : كَامِلًا صادقًا ، أَوْ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ؛ لِأَنَّ مُصَاحَبَتَهُمْ مَضَرَّةٌ فِي الدِّينِ ، فَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ جِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَإِنَّمَا حَذَّرَ e مِنْ صُحْبَة مَنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ ، وَزَجَرَ عَنْ مُخَالَطَته وَمُؤَاكَلَته ، لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ وَالْمُطَاعَمَة تُوقِعُ الْأُلْفَة وَالْمَوَدَّة فِي الْقُلُوب ؛ بل هي أوثق عرى المداخلة ، ومخالطة غير التقي يخل بالدين ، ويوقع في الشبه والمحظورات ، فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار ، إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل ، أو مسامحة في إغضاء عن منكر ، فإن سلم من ذلك - ولا يكاد - فلا تخطئه فتنة الغير به ، وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى e أطعم المشركين ، وأعطى المؤلفة المئين ، بل يطعمه ولا يخالطه ؛ فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعًا ولا تخالل إلا تقيًّا ( [2] ) .
وأمر آخر وهو أن الصاحب يتأثر - غالبًا - بصحبته ، لأن الطباع سرَّاقة ، فالطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري ؛ وقَالَ الْغَزَالِيُّ - رحمه الله : مُجَالَسَةُ الْحَرِيصِ وَمُخَالَطَتُهُ تُحَرِّكُ الْحِرْصَ ، وَمُجَالَسَةُ الزَّاهِدِ وَمُخَالَلَتُهُ تُزْهِدُ فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ ؛ بَلْ الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنْ الطَّبْعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي .ا.هـ ( [3] ) ؛ وللخوارزمي :
لا تَصْحَبِ الكسلانَ في حَالاتِهِ ... كَمْ صالحٍ بفسادِ آخرِ يِفْسَدُ
عَدوَى البليدِ إلى الجليدِ سَريعةٌ ... والنارُ تُوضَعُ في الرمادِ فتخمدُ
وهذا أمر معلوم بالضرورة من الحياة ؛ فالصاحب ساحب ؛ وكان يقال : ما شيءٌ أسرع في فساد رجل وصلاحه من صاحبه ؛ ويُظَنُّ بِالْمَرْءِ مَا يُظَنُّ بِقَرِينِهِ ؛ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ :
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُـلُّ قَـرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْـتَدِي
إذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ ... وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
وقال أبو العتاهية :
من ذا الذي يخفي عليك ... إذا نظرت إلى قرينه
وكان يقال : الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب ، إن لم تكن مثله شانته ؛ ومن هنا قال الشاعر :
وما صاحب الإنسان إلا كرقعةٍ على ثوبه فليتخذه مشاكلا
ولذلك فكامل الإيمان أولى بالمصاحبة ، ومن ثم قيل : صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة الأشرار تورث الشر ، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتنًا ، وإذا مرت على الطيب حملت طيبًا ، وصدق من قال :
ولا يصحب الإنسان إلا نظيره ... وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد
وصحبة من لا يخاف الله لا تؤمن غائلتها ، لتغيره بتغير الأعراض ؛ قال تعالى :
] وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [ [ الكهف : 28 ] .
وفي هذا السياق ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ " ( [4] ) ؛ قال ابن عبد البر في ( بهجة المجالس وأنس المجالس ) : وهذا معناه - والله أعلم - أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه ، والدين العادة ، فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحلُّ ويجمل .ا.هـ .

[1] - أحمد : 3 / 38 ، وأبو داود ( 4832 ) ، والترمذي ( 2395 ) وحسنه ، وصححه ابن حبان ( 554 ، 560 ) ، والحاكم ( 7169 ) .

[2] - انظر فيض القدير : 6 / 404 ، 405 .

[3] - نقلا عن تحفة الأحوذي : 7 / 42 .

[4] - أحمد : 2 / 303 ، 334 ، وأبو داود ( 4833 ) ، والترمذي ( 2378 ) ، وحسنه ، وصححه الحاكم ( 7319 ، 7320 ) .
 
2 - اختبار من تريد أن تؤاخيه
لما كان الصاحب مناسب ؛ وكان الناس مختلفين في عقولهم وأفهامهم وطبائعهم وأخلاقهم ، كان لابد لمن أراد أن يصاحب أن يتلمس من يناسبه ، ولا يكون ذلك إلا باختباره وسبر أخلاقه ، فبذلك يعرف المناسب من غير المناسب ؛ قال الماوردي رحمه الله في ( أدب الدنيا والدين ) : فَأَوَّلُ أَسْبَابِ الْإِخَاءِ : التَّجَانُسُ ( 1 ) فِي حَالٍ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَيَأْتَلِفَانِ بِهَا ، فَإِنْ قَوِيَ التَّجَانُسُ قَوِيَ الِائْتِلَافُ بِهِ وَإِنْ ضَعُفَ كَانَ ضَعِيفًا مَا لَمْ تَحْدُثْ عِلَّةٌ أُخْرَى يَقْوَى بِهَا الِائْتِلَافُ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِالتَّشَاكُلِ ، وَالتَّشَاكُلُ بِالتَّجَانُسِ ، فَإِذَا عُدِمَ التَّجَانُسُ مِنْ وَجْهٍ انْتَفَى التَّشَاكُلُ مِنْ وَجْهٍ ، وَمَعَ انْتِفَاءِ التَّشَاكُلِ يُعْدَمُ الِائْتِلَافُ .
فَثَبَتَ أَنَّ التَّجَانُسَ ، وَإِنْ تَنَوَّعَ ، أَصْلُ الْإِخَاءِ وَقَاعِدَةُ الِائْتِلَافِ ؛ وعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ " ( 2 ) ؛ وَهَذَا وَاضِحٌ ، وَهِيَ- أي الأرواح - بِالتَّجَانُسِ مُتَعَارِفَةٌ ، وَبِفَقْدِهِ مُتَنَاكِرَةٌ ؛ وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْأَضْدَادُ لَا تَتَّفِقُ ، وَالْأَشْكَالُ لَا تَفْتَرِقُ .ا.هـ . فمن هنا كان لابد من الاختبار لمعرفة المناسب المجانس للائتلاف والتصاحب ؛ وقد قيل : مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ الِامْتِحَانَ قَبْلَ الثِّقَةِ ، وَالثِّقَةَ قَبْلَ أُنْسٍ ، أَثْمَرَتْ مَوَدَّتُهُ نَدَمًا ؛ فعليك بامتحان من أردت صحبته لا لكشف عورة بل لمعرفة الحق ؛ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
لَا تَحْمَدَنَّ امْرَأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ وَلَا تَذُمَّنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ
فَحَمْدُك الْمَرْءَ مَا لَمْ تُبْلِهِ خَطَأٌ وَذَمُّهُ بَعْدَ حَمْدٍ شَرُّ تَكْذِيبِ
يقول الإمام الغزالي في ( إحياء علوم الدين ) : ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال : أن يكون عاقلاً ، حسن الخلق ، غير فاسق ولا مبتدع ، ولا حريصًا على الدنيا .ا.هـ . ويمكن اختزال هذه الخمس في ثلاث : الدين والعقل ، وحسن الخلق ؛ فذو الدين لا يكون فاسقًا ولا مبتدعًا ولا حريصًا على الدنيا .
فأول ما يختبر به من تريد مؤاخاته هو ما تقوم الصحبة النافعة عليه ، وهو الدين الْوَاقِفُ بِصَاحِبِهِ عَلَى الْخَيْرَاتِ ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ مَوَدَّةُ غَيْرِهِ ؟ ( 3 ) وقد قال الله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] ؛ وقال  : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا تؤاخ الفاجر ؛ فإنه يزين لك فعله ، ويحب أن لك مثله ، ويزين لك أسوأ خصاله ، ومدخله عليك ومخرجه من عندك شين وعار ؛ ولا الأحمق فإنه يجهد نفسه لك ولا ينفعك ، وربما أراد أن ينفعك فيضرك ، فسكوته خير من نطقه ، وبعده خير من قربه ، وموته خير من حياته ؛ ولا الكذَّاب ، فإنه لا ينفعك معه عيش ، ينقل حديثك ، وينقل الحديث إليك ؛ وإن تحدث بالصدق فما يُصَدَّق( 4 ) ؛ وقال بعض العلماء : لا تصحب إلا أحد رجلين : رجل تتعلم منه شيئًا من أمر دينك فينفعك ، أو رجل تعلمه شيئًا في أمر دينه فيقبل منك ، والثالث فاهرب منه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - مراده من التجانس أن يكونا متفقين في الصفات ، فالصادق مثلا لا يمكن أن يصاحب كاذبا .. وهكذا .
2 – حديث عائشة أخرجه البخاري في صحيحه معلقا : كتاب ( أحاديث الأنبياء ) في ترجمة باب ( الأرواح جنود مجندة ) ، ووصله في الأدب ( 90 ، 901 ) ووصله أيضًا أبو يعلى ( 4381 ) ؛ والحديث رواه رواه أحمد : 2 / 295 ، 527 ، والبخاري في الأدب ( 902 ) ، ومسلم ( 2638 ) ، وأبو داود ( 4834 ) ، وابن حبان ( 6168 ) عن أبي هريرة ؛ ورواه الطبراني في الأوسط (1577 ) عن سلمان ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 9 / 185 ( 8912 ) عن ابن مسعود .
3 - هذه الجملة مقتبسة من كلام الإمام الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) .
4 - تاريخ دمشق لابن عساكر : 42 / 516 .
 
اختبار من تريد أن تؤاخيه ( 2 )
قدمنا أن أول الأمور في اختبار الأخ والصديق والخل : الدين ؛ والأمر الثاني : العقل : فإن مصاحبة الأحمق ضارة ، فلا خير في صحبته ، فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت ؛ وكان يقال : قطيعة الأحمق مثل صلة العاقل ؛ وقد قيل : عدو عاقل خير من صديق جاهل ، وإنما يعنون بالجهل هنا - غالبًا - الحمق ؛ ويعد الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) العقل أول ما يختبر به الصديق فيقول - رحمه الله : عَقْلٌ مَوْفُورٌ يَهْدِي إلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ الْحُمْقَ لَا تَثْبُتُ مَعَهُ مَوَدَّةٌ ، وَلَا تَدُومُ لِصَاحِبِهِ اسْتِقَامَةٌ ؛ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَدَاوَةُ الْعَاقِلِ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْ مَوَدَّةِ الْأَحْمَقِ ؛ لِأَنَّ الْأَحْمَقَ رُبَّمَا ضَرَّ وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَنْفَعَ ، وَالْعَاقِلُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي مَضَرَّتِهِ ، فَمَضَرَّتُهُ لَهَا حَدٌّ يَقِفُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ، وَمَضَرَّةُ الْجَاهِلِ لَيْسَتْ بِذَاتِ حَدٍّ ؛ وَالْمَحْدُودُ أَقَلُّ ضَرَرًا مِمَّا هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ ؛ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
إذَا مَا كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا ... فَلَا تَثِقَنَّ بِكُلِّ أَخِي إخَاءِ
فَإِنْ خُيِّرْت بَيْنَهُمْ فَأَلْصِقْ ... بِأَهْلِ الْعَقْلِ مِنْهُمْ وَالْحَيَاءِ
فَإِنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ لَهُ إذَا مَا ... تَفَاضَلَتْ الْفَضَائِلُ مِنْ كِفَاءِ ا.هـ .​
وقال غيره :
المرءُ يجمعُ والزمانُ يُفَرِّقُ ... ويَظَلُّ يُرْقِعُ والْخُطُوبُ تُمزقُ
ولأنْ يُعادي عاقلاً خيرٌ لهُ ... مِنْ أنْ يكونَ لهُ صديقٌ أحمقُ
فارغبْ بنفسك لا تصادق أحمقًا ... إنَّ الصديقَ على الصديقِ مصدقُ​
وقال زين العابدين علي بن الحسين يوصي ابنه : لا تصحبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق ، قال : قلت : جعلت فداك يا أبه ، من هؤلاء الخمسة ؟ قال : لا تصحبن فاسقًا فإنه بائعك بأكلة فما دونها ، قال : قلت : يا أبه وما دونها ؟ قال : يطمع فيها ثم لا ينالها ؛ قال : قلت : يا أبه ومن الثاني ؟ قال : لا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه ، قال : قلت : يا أبه ومن الثالث ؟ قال : لا تصحبن كذابًا فإنه بمنزلة السراب يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد ، قال : قلت : يا أبه ومن الرابع ؟ قال : لا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، قال : قلت : يا أبه ومن الخامس ؟ قال : لا تصحبن قاطع رحم ، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع( 1 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- حلية الأولياء : 3 / 184 ؛ ويلاحظ أنها قريبة من نصيحة جده علي رضي الله عنه ، فهم ذرية بعضها من بعض .
 
اختبار من تريد أن تؤاخيه ( 3 )
الأمر الثالث : محاسن الأخلاق ؛ فلابد أَنْ يَكُونَ الصاحب والصديق - كما يقول الماوردي - مَحْمُودَ الْأَخْلَاقِ مَرَضِيَّ الْأَفْعَالِ ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ آمِرًا بِهِ ، كَارِهًا لِلشَّرِّ نَاهِيًا عَنْهُ ، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الشِّرِّيرِ تُكْسِبُ الْأَعْدَاءَ وَتُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ ؛ وَلَا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَةً وَتُورِثُ مَذَمَّةً ، فَإِنَّ الْمَتْبُوعَ تَابِعُ صَاحِبِهِ ؛ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : إخْوَانُ الشَّرِّ كَشَجَرِ النَّارِنْجِ يُحْرِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؛ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ ؛ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ ، وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ .ا.هـ .
وقد قالت الحًكماء : لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له ، واصطناع مَن لا شكر عِنده ، والكريمُ يَوَدُّ الكريم عن لُقْية واحدة ، واللّئيم لا يَصِل أحدًا إلا عن رَغْبة أو رَهْبة ؛ وقال الشاعر :
احـذر مـودة مـاذقٍ ( 1 ) ... شاب المرارة بالحلاوة
يُحصي الذنوب عليك أيـ ... ـام الصداقة للعداوة​
وقال غيره :
وإخـوان حسبتهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سـهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صَغَتْ منا قلوبٌ ... لقد صدقوا ولكن عن ودادي​
فبناء الصداقة والأخوة على محاسن الأخلاق نجاة وفوز ؛ وإلا يفعل المرء ذلك فسيلقى في الدنيا ما لا يسره ، وقد يرى في الآخرة ما يضره ، عياذًا بالله تعالى .
ويضيف الماوردي إلى هذه الثلاثة رابعًا ، فيقول : : أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَيْلٌ إلَى صَاحِبِهِ ، وَرَغْبَةٌ فِي مُؤَاخَاتِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْكَدُ لِحَالِ الْمُؤَاخَاةِ وَأَمَدُّ لِأَسْبَابِ الْمُصَافَاةِ ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ إلَيْهِ طَالِبًا وَلَا كُلُّ مَرْغُوبٍ إلَيْهِ رَاغِبًا ؛ وَمَنْ طَلَبَ مَوَدَّةَ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ ، وَرَغِبَ إلَى زَاهِدٍ فِيهِ ، كَانَ مُعَنًّى خَائِبًا ، كَمَا قَالَ الْبُحْتُرِيُّ :
وَطَلَبْت مِنْك مَوَدَّةً لَمْ أُعْطَهَا ... إنَّ الْمُعَنَّى طَالِبٌ لَا يَظْفَرُ​
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ :
فَإِنْ كَانَ لَا يُدْنِيك إلَّا شَفَاعَةٌ ... فَلَا خَيْرَ فِي وُدٍّ يَكُونُ بِشَافِعِ
وَأُقْسِمُ مَا تَرْكِي عِتَابَك عَنْ قِلًى ... وَلَكِنْ لِعِلْمِي أَنَّهُ غَيْرُ نَافِعِ
وَإِنِّي إذَا لَمْ أَلْزَمِ الصَّبْرَ طَائِعًا ... فَلَا بُدَّ مِنْهُ مُكْرَهًا غَيْرَ طَائِعِ​
فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ فِي إنْسَانٍ وَجَبَ إخَاؤُهُ ، وَتَعَيَّنَ اصْطِفَاؤُهُ ؛
وَبِحَسَبِ وُفُورِهَا فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَيْلُ إلَيْهِ وَالثِّقَةُ بِهِ .ا.هـ .
__________
- مَذَقَ الوُدَّ ، أي :لم يُخلصه ، فهو ماذق ومَذَّاق و مُمَاذِق ، أي : غير مُخلص .
 
3 - حدود لا تغفل عنها
لأسباب قد تخفى على كثير من الناس كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا " ( 1 ) .
إن الإنصاف في العلاقة مطلوب ، والمغالاة في طرفي الأمور مذموم ، والعرب تقول : حب التناهي شطط خير الأمور الوسط ؛ وكما قيل :
عَلَيكَ بِأَوساطِ الأَمورِ فإِنَّها ... طَريقٌ إِلى نَهجِ الصِراطِ قَويمُ
وَلا تَكُ فيها مُفرِطًا أَو مُفرِّطًا ... كِلَا طَرَفَي قَصْدِ الأُمورِ ذميمُ
وهذه قاعدة صالحة لكل العلاقات ؛ فكم غالى إنسان في حب إنسان ثم ندم على ما كان منه ؛ وغالى آخر في كره آخر ، ثم ندم على ما كان منه .
ولعل من أسباب هذه الوصية النبوية الغالية أن الإنسان لا يطلع على دواخل من يؤاخيه أو يصاحبه ؛ فقد يظهر له ما لا يبطن ؛ وهذا كثير في عالم الناس .
ومن الأسباب - أيضًا - أن القلوب تقلب ، ولسبب ما قد تنقلب الصداقة عداوة ، وغالبًا ما يسعى العدو في الإيذاء ، فإن كان هناك من أسرار عرفها في أيام صداقته ، فقد يفشيها ، ويتضرر من كان له صديق ؛ وقال منصور الفقيه :
احْذَرْ عَـدُوَكَ مَـرَّةً ... واحْذَرْ صَدِيقَكَ ألفَ مَرَّةْ
فلربما انقلبَ الصديـ ... ـقُ فكانَ أعلمَ بالمضرةْ
وَلهذا السبب قَالَ عَلِيٌّ  لابنه الحسن : اُبْذُلْ لِصَدِيقِك كُلَّ الْمُرُوءَةِ ، وَلَا تَبْذُلْ لَهُ كُلَّ الطُّمَأْنِينَةِ ، وَأَعْطِهِ مِنْ نَفْسِك كُلَّ الْمُوَاسَاةِ ، وَلَا تُفْضِ إلَيْهِ بِكُلِّ الْأَسْرَارِ ( 2 ) ؛ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ  : لَا يَكُنْ حُبُّك كَلَفًا ، وَلَا بُغْضُك تَلَفًا ؛ وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ :
وَكُنْ مَعْدِنًا لِلْخَيْرِ وَاصْفَحْ عَنْ الْأَذَى فَإِنَّك رَاءٍ مَا عَلِمْت وَسَامِـعُ
وَأَحْبِبْ إذَا أَحْبَبْت حُـبًّا مُقَـارِبًا فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ نَازِعُ
وَأَبْغِضْ إذَا أَبْغَضْت غَـيْرَ مُـبَايِنٍ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ رَاجِعُ
_________
1 - رواه الترمذي ( 1997 ) ، والطبراني في الأوسط ( 3395 ، 6185 ) ، وابن عدي : 2 / 298 عن أبي هريرة . ورواه الطبراني في الأوسط ( 5119 ) ، والقضاعي في الشهاب ( 739 ) ، عن ابن عمر . ورواه الطبراني في الأوسط ( 5120 ) عن ابن عمرو . ورواه الضياء في المختارة : 2 / 55 : 58 ( 434 : 436 ) من طرق عن علي ، وإسناده حسن بطرقه . ورمز السيوطي لحسنه في الجامع الصغير ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 176 ) . ورواه ابن أبي شيبة ( 35876 ) ، والبخاري في الأدب ( 1321 ) ، والبيهقي في الشعب ( 6593 ) عن علي موقوفًا .
2 - ذكره ابن ماكولا في ( إكمال الكمال ) : 5 / 29 ، في ترجمة شبال بن عبد العزيز عن أبيه عن جده قال : قال على بن أبى طالب لابنه الحسن : فذكره .
 
4 - وصايا جامعة
هذه وصايا جمعتها تحت هذا العنوان ، لتتم الفائدة :
1 ) في ( شعب الإيمان ) عن مجاهد – رحمه الله - قال : كانوا يقولون : لا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل ما ترى له ( 1 ) .
2 ) قال ابن عبد البر – رحمه الله - في ( بهجة المجالس وأنس المجالس ) : قال علىُّ بن أبي طالب رضي الله عنه : لا خير في صحبة من تجتمع فيه هذه الخلال : من إذا حدّثك كذبك ، وإذا ائتمنته خانك ، وإذا ائتمنك اتهمك ، وإذا أنعمت عليه كفرك ، وإذا أنعم عليك منَّ عليك .
3 ) وقيل لخالد بن صفوان : أيُّ إخوانك أحب إليك ؟ قال : الذي يغفر زللي ، ويقبل عللي ، ويسد خللي .
4 ) وفي ( عيون الأخبار لابن قتيبة ) قَالَ عَلْقَمَةُ بنُ لَبِيدٍ الْعُطَارِدِيِّ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إنْ عَرَضَتْ لَك إلى صُحْبَةِ الرِّجَالِ حَاجَةٌ ، فَاصْحَبْ مَنْ إذَا خَدَمْته صَانَك ، وَإِنْ صَحِبْته زَانَك ( أَيْ حَفِظَك ) ، وَإِنْ قَعَدَ بِك مَانَك ( أَيْ حَمَلَ مُؤْنَتَك ) ؛ اصْحَبْ مَنْ إذَا مَدَدْت يَدَك بِخَيْرٍ مَدَّهَا ، وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً عَدَّهَا ، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً سَدَّهَا ؛ اصْحَبْ مَنْ إذَا سَأَلْته أَعْطَاك ، وَإِنْ سَكَتَّ ابْتَدَاك ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِك نَازِلَةٌ وَاسَاك ( أَيْ جَعَلَك كَنَفْسِهِ ) ؛ اصْحَبْ مَنْ إذَا قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَك ، وَإِنْ حَاوَلْتَ أَمْرًا آمَرَكَ [ أي : أطاعك ] ، وَإِنْ تَنَازَعْتُمَا آثَرَك .
5 ) وفي ( شعب الإيمان للبيهقي ) عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال : كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد له في الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه ، وما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وعليك بإخوان الصدق ، فكثِّر في اكتسابهم ، فإنهم زينة في الرخاء ، وعدة عند عظيم البلاء ، ولا تهاون بالحلف فيهينك الله ، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ، ولا تضع حديثك إلا عند من يشتهيه ، وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق ، واعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين ، ولا أمين إلا من خشي الله عز وجل ، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب .ا.هـ قال البيهقي : وقد روينا بعض هذه الألفاظ عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه .
6 ) قال بعض الأدباء : لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ، ويستر عيبك ، فيكون معك في النوائب ، ويؤثرك بالرغائب ، وينشر حسنتك ، ويطوي سيئتك ؛ فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك .
7 ) وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لِيَكُنْ غَرَضُك فِي اتِّخَاذِ الْإِخْوَانِ وَاصْطِنَاعِ النُّصَحَاءِ تَكْثِيرَ الْعُدَّةِ لَا تَكْثِيرَ الْعِدَّةِ ، وَتَحْصِيلَ النَّفْعِ لَا تَحْصِيلَ الْجَمْعِ ، فَوَاحِدٌ يَحْصُلُ بِهِ الْمُرَادُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ تُكَثِّرُ الْأَعْدَادَ .
8 ) قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا يُزْهِدَنَّكَ فِي رَجُلٍ حُمِدَتْ سِيرَتُهُ ، وَارْتَضَيْتَ وَتِيرَتَهُ ، وَعَرَفْتَ فَضْلَهُ ، وَبَطَنْتَ عَقْلَهُ عَيْبٌ تُحِيطُ بِهِ كَثْرَةُ فَضَائِلِهِ ، أَوْ ذَنْبٌ صَغِيرٌ تَسْتَغْفِرُ لَهُ قُوَّةُ وَسَائِلِهِ ؛ فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ - مَا بَقِيت - مُهَذَّبًا لَا يَكُونُ فِيهِ عَيْبٌ ، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ ؛ فَاعْتَبِرْ نَفْسَك بَعْدَ أَنْ لَا تَرَاهَا بِعَيْنِ الرِّضَا ، وَلَا تَجْرِي فِيهَا عَلَى حُكْمِ الْهَوَى ، فَإِنَّ فِي اعْتِبَارِك وَاخْتِيَارِك لَهَا مَا يُؤَيِّسُك مِمَّا تَطْلُبُ ، وَيُعَطِّفُك عَلَى مَنْ يُذْنِبُ ؛ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا ... كَفَى الْمَرْءُ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ​
9 ) قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِابْنِهِ رحمهما الله : يَا بُنَيَّ مَنْ غَضِبَ مِنْ إخْوَانِك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَقُلْ فِيك سُوءًا ؛ فَاِتَّخِذْهُ لِنَفْسِك خِلًّا .ا.هـ . عن سفيان: اصحب من شئت ، ثم أغضبه ، ثم دس إليه من يسأله عنك ( 2 ) .
10 ) قال الأبشيهي – رحمه الله - في ( المستطرف في كل فن مستظرف ) : قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] ، فأثبت الله المماثلة بيننا وبين البهائم وذلك إنما هو في الأخلاق خاصة ، فليس أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم ؛ ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة : فإذا رأيت الرجل جاهلاً في خلائقه ، غليظًا في طبائعه ، قويًا في بدنه ، لا تؤمن ضغائنه ، فألحقه بعالم النمورة ، والعرب تقول : أجهل من نَمِر .
وإذا رأيت الرجل هجَّامًا على أعراض الناس ، فقد ماثل عالم الكلاب ، فإن دأب الكلب أن يجفو من لا يجفوه ، ويؤذي من لا يؤذيه ، فعامله بما كنت تعامل به الكلب إذا نبح ، ألست تذهب وتتركه ؟
وإذ رأيت إنسانًا قد جبل على الخلاف ، إن قلت : نعم ، قال : لا ، وإن قلت : لا ، قال : نعم ؛ فألحقه بعالم الحمير ، فإن دأب الحمار إن أدنيته بَعُد ، وإن أبعدته قرب ، فلا تنتفع به ، ولا يمكنك مفارقته .
وإن رأيت إنسانًا يهجم على الأموال والأرواح ، فألحقه بعالم الأسود ، وخذ حذرك منه كما تأخذ حذرك من الأسد .
وإذا بُليت بإنسان خبيث ، كثير الروغان ، فألحقه بعالم الثعالب .
وإذا رأيت من يمشي بين الناس بالنميمة ، ويفرق بين الأحبة ، فألحقه بعالم الظربان ، وهي دابة صغيرة ، تقول العرب عند تفرق الجماعة : مشى بينهم ظربان فتفرقوا .
وإذا رأيت إنسانًا لا يسمع الحكمة والعلم ، وينفر من مجالسة العلماء ، ويألف أخبار أهل الدنيا ، فألحقه بعالم الخنافس ، فإنه يعجبها أكل العذرات ، وملامسة النجاسات ، وتنفر من ريح المسك ، وإذا شمت الرائحة الطيبة ماتت لوقتها .
وإذا رأيت الرجل يصنع بنفسه كما تصنع المرأة لبعلها : يبيض ثيابه ، ويعدل عمامته ، وينظر في عطفيه ، فألحقه بعالم الطواويس .
وإذا بليت بإنسان حقود ، لا ينسى الهفوات ، ويجازي بعد المدة الطويلة على السقطات ، فألحقه بعالم الجمال ، والعرب تقول : أحقد من جمل ، فتجنب قرب الرجل الحقود .
وعلى هذا النمط فليحترز العاقل من صحبة الأشرار وأهل الغدر ومن لا وفاء لهم ، فإنه إذا فعل ذلك سلم من مكائد الخلق ، وأراح قلبه وبدنه ؛ والله أعلم .ا.هـ .
11 ) قال أبو حاتم البستي – رحمه الله - في ( روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ) : العاقل لا يؤاخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة ، ذا عقل ، نشأ مع الصالحين ، لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهَّال .ا.هـ .
______
1 - شعب الإيمان ( 9502 ) .
2 - انظر ( سير أعلام النبلاء ) : 7 / 276 .
 
التحذير من مصاحبة الأشرار
روى الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً " ( 1 ) .
قال النووي - رحمه الله : فِيهِ تَمْثِيله صلى الله عليه وسلم الْجَلِيس الصَّالِح بِحَامِلِ الْمِسْك , وَالْجَلِيس السُّوء بِنَافِخِ الْكِير , وَفِيهِ فَضِيلَة مُجَالَسَة الصَّالِحِينَ وَأَهْل الْخَيْر وَالْمُرُوءَة وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَالْوَرَع وَالْعِلْم وَالْأَدَب , وَالنَّهْي عَنْ مُجَالَسَة أَهْل الشَّرّ وَأَهْل الْبِدَع , وَمَنْ يَغْتَاب النَّاس , أَوْ يَكْثُر فُجْرُهُ وَبَطَالَته ؛ وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاع الْمَذْمُومَة .ا.هـ .
فلا تصحب فاسقًا مصرًّا على معصية كبيرة ، لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله ، بل يتغير بتغير الأحوال والأعراض ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تُطِع مَن أَغفَلْنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطا } .
وينبغي أن يُعلم أن المصاحبة - في عصرنا هذا - لا تقتصر على الأشخاص ، فإن من الأجهزة المعاصرة كالتلفاز والكومبيوتر ما يقوم بأشد مما يقوم به صحبة الفاسق ، فليحذر العاقل ذلك أشد من حذره من صحبة الأشرار من الناس .
قال الغزَّالي - رحمه الله - في ( بداية الهداية ) : فاحذر صحبة الفاسق ؛ فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية ، وتهوِّن عليك أمرها ، ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها ، ولو رأوا خاتمًا من ذهب ، أو ملبوسًا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه ، والغيبة أشد من ذلك .ا.هـ . وقال الأبشيهي في ( المستطرف في كل فن مستظرف ) : فينبغي للإنسان أن يجتنب معاشرة الأشرار ويترك مصاحبة الفجار ويهجر من ساءت خلته وقبحت بين الناس سيرته ، قال الله تعالى : " الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ  [ الزخرف:67 ] .ا.هـ .
قال مالك بن دينار : إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار ؛ وأنشد :
وصاحب خيار الناس تنج مسلَّمَا ... وصاحب شرار الناس يومًا فتندمَا ( 2 )​
وقد عرف ذلك عقلاء الناس مؤمنهم وكافرهم ، ففي كتابٍ لِلْهند : إنَّ الرَّجل السُّوء لا يَتَغَيَّرُ عن طبْعه ، كما أنَّ الشَّجرةَ المُرَّة لو طَلَيْتها بالعَسل لم تثمر إلا مُرًّا .
ولا تزال الأيام تحكي لنا عن من واقع مصاحبة الأشرار أمورًا تبكي ، وقصصًا يتقطع لها القلب ؛ وما تلك الجرائم الأخلاقية الموجودة في كثير من المجتمعات إلا نتيجة مصاحبة الأشرار ؛ فليحذر العاقل من مصاحبتهم ، وليفارقهم من ابتلي بهم إن كان يريد النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة ؛ وعن الشعبي رحمه الله قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لرجل ذكر له صحبة رجل به رهق ( 3 ) :
وَلا تَصحَب أَخا الجَهـ ... ـلِ وَإياكَ وَإِيَّاهُ
فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليمًا حـينَ يَلقاهُ
يَقاسُ المَـرءُ بِالمَـرءِ ... إِذا ما هُـوَ ماشاهُ
وَلِلشَّيءِ عَلى الشَيءِ ... مَقاييسُ وَأَشـباهُ
وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حينَ يَلقاهُ ( 4 )
____________
1 - البخاري ( 2101 ، 5534 ) ، ومسلم ( 2628 ) واللفظ له .
2 - ذكره القرطبي في التفسير : 13 / 27 ؛ والخبيص نوع من الحلوى .
3 - رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه ؛ والرهق : السفه وغشيان المحارم ؛ انظر النهاية في غريب الحديث ( مادة ر هـ ق ) .
4 - كنز العمال ( 25592 ) .
 
طبقات الإخوان
لا يستوي الإخوان جميعًا في مؤاخاتهم ، فمنهم من هو أقرب من الآخر ، ومنهم من يدنيه أخوه فلا يبوح بسره إلا له ، ولا يطلب حاجته إلا منه ، ولا يستغني عنه كالغذاء ؛ ومنهم من لا يحتاجه إلا لمامًا كالدواء ، ومنهم من لا يحتاج إليه أبدًا ، بل ويستثقل قربه كالداء .
قَالَ الْمَأْمُونُ : الْإِخْوَانُ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ : كَالْغِذَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُمْ أَبَدًا وَهُمْ إخْوَانُ الصَّفَاءِ ، وَإِخْوَانٌ كَالدَّوَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَهُمْ الْفُقَهَاءُ ؛ وَإِخْوَانٌ كَالدَّاءِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَلَقِ وَالنِّفَاقِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ .ا.هـ .
قال الماوردي - رحمه الله - في ( أدب الدنيا والدين ) بعد أن ذكر تقسيم المأمون : وَلَعَمْرِي إنَّ النَّاسَ عَلَى مَا وَصَفَهُمْ ، لَا الْإِخْوَانُ مِنْهُمْ ؛ وَلَيْسَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالدَّاءِ ، مِنْ الْإِخْوَانِ الْمَعْدُودِينَ ، بَلْ هُمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ الْمَحْذُورِينَ ؛ وَإِنَّمَا يُدَاجُّونَ الْمَوَدَّةَ اسْتِكْفَافًا لِشَرِّهِمْ ، وَتَحَرُّزًا مِنْ مُكَاشَفَتِهِمْ ، فَدَخَلُوا فِي عِدَادِ الْإِخْوَانِ بِالْمُظَاهَرَةِ وَالْمُسَاتَرَةِ ، وَفِي الْأَعْدَاءِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ .ا.هـ .
قلت : كلا الوصفين صحيح ، فإن المأمون حمل لفظ الإخوان على عموم أخوة الناس ؛ وأما الماوردي فحمل الأخوة على الخاصة منها .
قال ابن عبد ربه - رحمه الله - في ( العقد الفريد ) : وقالت الحُكماء : الِإخوانُ ثَلاثة : فأخٌ يُخْلِص لك ودَّه ، ويَبْذُلُ لك رِفْدَه ، ويَستَفْرغ في مُهمِّك جُهْده ؟ وأَخٌ ذو نِيَّة يَقْتصر بك على حُسنِ نيَّتهِ دون رِفْده ومَعُونته ، وأخٌ يتَملق لك بلِسانِه ويَتَشاغَل عنك بشانه ، ويُوسعكَ مِن كَذِبه وأيمانه .ا.هـ .
قال الغزالي - رحمه الله : والإخوان ثلاثة : أخ لآخرتك ، فلا تُرَاعِ فيه إلا الدين ؛ وأخ لدنياك ، فلا تراعِ فيه إلا الخلق ؛ وأخ لتستأنس به ، فلا تراعِ فيه إلا السلامة من شره وخبثه وفتنته ( 1 ) .
وقال الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) : الْإِخْوَانِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ وَيَسْتَعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ .
فَأَمَّا الْمُعِينُ وَالْمُسْتَعِينُ فَهُوَ مُعَاوِضٌ مُنْصِفٌ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوْفِي مَا لَهُ ؛ فَهُوَ الْقَرُوضُ يُسْعِفُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَسْتَرِدُّ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ ، وَهُوَ مَشْكُورٌ فِي مَعُونَتِهِ ، وَمَعْذُورٌ فِي اسْتِعَانَتِهِ ؛ فَهَذَا أَعْدَلُ الْإِخْوَانِ .
وَأَمَّا مَنْ لَا يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ ، فَهُوَ مُنَازِلٌ قَدْ مَنَعَ خَيْرَهُ ، وَقَمَعَ شَرَّهُ ؛ فَهُوَ لَا صَدِيقٌ يُرْجَى ، وَلَا عَدُوٌّ يُخْشَى ؛ وَقَدْ قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضي الله عنه : التَّارِكُ لِلْإِخْوَانِ مَتْرُوكٌ ؛ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ كَالصُّورَةِ الْمُمَثَّلَةِ يَرُوقُك حُسْنُهَا ، وَيَخُونُك نَفْعُهَا ، فَلَا هُوَ مَذْمُومٌ لِقَمْعِ شَرِّهِ ، وَلَا هُوَ مَشْكُورٌ لِمَنْعِ خَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِاللَّوْمِ أَجْدَرَ ؛ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
وَأَسْوَأُ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمُ لَا يُرَى ... لَهُ أَحَدٌ يُزْرِي عَلَيْهِ وَيُنْكِرُ​
غَيْرَ أَنَّ فَسَادَ الْوَقْتِ وَتَغَيُّرَ أَهْلِهِ يُوجِبُ شُكْرَ مَنْ كَانَ شَرُّهُ مَقْطُوعًا ، وَإِنْ كَانَ خَيْرُهُ مَمْنُوعًا ، كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي :
إنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ ... مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ إحْسَانٌ وَإِجْمَالُ​
وَأَمَّا مَنْ يَسْتَعِينُ وَلَا يُعِينُ فَهُوَ لَئِيمٌ كَلٌّ ، وَمَهِينٌ مُسْتَذَلٌّ ، قَدْ قَطَعَ عَنْهُ الرَّغْبَةَ ، وَبَسَطَ فِيهِ الرَّهْبَةَ ، فَلَا خَيْرُهُ يُرْجَى ، وَلَا شَرُّهُ يُؤْمَنُ .
وَحَسْبُك مَهَانَةً مِنْ رَجُلٍ مُسْتَثْقِلٍ عِنْدَ إقْلَالِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ عِنْدَ اسْتِقْلَالِهِ ، فَلَيْسَ لِمِثْلِهِ فِي الْإِخَاءِ حَظٌّ وَلَا فِي الْوِدَادِ نَصِيبٌ ؛ وَهُوَ مِمَّنْ جَعَلَهُ الْمَأْمُونُ مِنْ دَاءِ الْإِخْوَانِ لَا مِنْ دَوَائِهِمْ ، وَمِنْ سُمِّهِمْ لَا مِنْ غِذَائِهِمْ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَرُّ مَا فِي الْكَرِيمِ أَنْ يَمْنَعَك خَيْرَهُ ،
وَخَيْرُ مَا فِي اللَّئِيمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْك شَرَّهُ ؛ وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ :
عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي إبْدَاءِ شَوْكٍ ... يَرُدُّ بِهِ الْأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ
فَمَا لِلْعَوْسَجِ الْمَلْعُونِ أَبْدَى ... لَنَا شَوْكًا بِلَا ثَمَرٍ نَرَاهُ
وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ وَلَا يَسْتَعِينُ فَهُوَ كَرِيمُ الطَّبْعِ ، مَشْكُورُ الصُّنْعِ ؛ وَقَدْ حَازَ فَضِيلَتَيْ الِابْتِدَاءِ وَالِاكْتِفَاءِ ، فَلَا يُرَى ثَقِيلًا فِي نَائِبَةٍ ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ نَهْضَةٍ فِي مَعُونَةٍ .
فَهَذَا أَشْرَفُ الْإِخْوَانِ نَفْسًا وَأَكْرَمُهُمْ طَبْعًا .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَوْجَدَهُ الزَّمَانُ مِثْلَهُ - وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ ؛ لِأَنَّهُ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالدُّرُّ الْيَتِيمُ - أَنْ يَثْنِيَ عَلَيْهِ خِنْصَرَهُ ، وَيَعَضَّ عَلَيْهِ نَاجِذَهُ ، وَيَكُونَ بِهِ أَشَدَّ ضَنًّا مِنْهُ بِنَفَائِسِ أَمْوَالِهِ ، وَسَنِيِّ ذَخَائِرِهِ ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْإِخْوَانِ عَامٌّ وَنَفْعَ الْمَالِ خَاصٌّ ، وَمَنْ كَانَ أَعَمَّ نَفْعًا فَهُوَ بِالْادِّخَارِ أَحَقُّ ؛ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ :
يَمْضِي أَخُوك فَلَا تَلْقَى لَهُ خَلَفًا ... وَالْمَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْمَالِ مُكْتَسَبُ​
وَقَالَ آخَرُ :
لِكُلِّ شَيْءٍ عَدِمْته عِوَضٌ ... وَمَا لِفَقْدِ الصَّدِيقِ مِنْ عِوَضِ ا.هـ .​
___________
- نقلا عن فيض القدير : 6 / 405 . والذي في ( إحياء علوم الدين ) : الإخوان ثلاثة : أخ لآخرتك ، وأخ لدنياك ، وأخ لتأنس به .ا.هـ هكذا فقط .
 
الوظيفة الثانية : مراعاة حقوق الصحبة
فإذا أَبْرَمْتَ عقد الأخوة ، وانتظمت بينك وبين شريكك الصحبة ، فعليك حقوق يوجبها هذا العقد ، وفي القيام بها آداب يدوم معها الود ، وتستديم بها الصداقة ؛ إذ الصداقة كالغرس إذا لم يتعاهد ذبل ومات .
تفاوت الحقوق بتفاوت المعرفة
قال الغزالي - رحمه الله - في ( إحياء علوم الدين ) : حق المسلم يتأكد بتأكد المعرفة ؛ وللمعارف درجات فليس حق الذي عرف بالمشاهدة كحق الذي عرف بالسماع ؛ بل آكد منه ، والمعرفة بعد وقوعها تتأكد بالاختلاط .
وكذلك الصحبة تتفاوت درجاتها ؛ فحق الصحبة في الدرس والمكتب آكد من حق صحبة السفر .
وكذلك الصداقة تتفاوت ، فإنها إذا قويت صارت أخوة ، فإن ازدادت صارت محبة ، فإن ازدادت صارت خلة ؛ والخليل أقرب من الحبيب ؛ فالمحبة ، ما تتمكن من حبة القلب ، والخلة ما تتخلل سر القلب ؛ فكل خليل حبيب وليس كل حبيب خليلاً ؛ وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة .
فأما كون الخلة فوق الأخوة فمعناه أن لفظ الخلة عبارة عن حالة هي أتم من الأخوة ، وتعرفه من قوله صلى الله عليه وسلم : " وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ؛ وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ " ، إذ الخليل هو الذي يتخلل الحب جميع أجزاء قلبه ظاهرًا وباطنًا ويستوعبه ، ولم يستوعب قلبه عليه السلام سوى حب الله ، وقد منعته الخلة عن الاشتراك فيه مع أنه اتخذ عليًّا رضي الله عنه أخًا فقال له : " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي " ، فعدل بعلي عن النبوة كما عدل بأبي بكر عن الخلة ، فشارك أبو بكر عليًّا - رضي الله عنهما - في الأخوة وزاد عليه بمقاربة الخلة وأهليته لها ، لو كان للشركة في الخلة مجال ، فإنه نبه عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : " لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا " .
فإذن ليس قبل المعرفة رابطة ولا بعد الخلة درجة ، وما سواهما من الدرجات بينهما ، وإنما تتفاوت الحقوق بحسب تفاوت المحبة والأخوة ، حتى ينتهي أقصاها إلى أن يوجب الإيثار بالنفس والمال ، كما آثر أبو بكر رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكما آثره طلحة ببدنه ، إذ جعل نفسه وقاية لشخصه العزيز صلى الله عليه وسلم .ا.هـ .
وفي هذا السياق قال ابن حزم في ( الأخلاق والسير ) : حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر ، ويسره ما يسره ؛ فما سفل عن هذا فليس صديقًا ، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق ، وقد يكون المرء صديقًا لمن ليس صديقه ؛ وليس كل صديق ناصحًا ، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه .. وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها : من شاركك بنفسه وبماله لغير علة توجب ذلك ، وآثرك على من سواك .ا.هـ . مختصرًا ( 1 ) .
أي : إن هناك حدًا أدنى للرعاية تدل على الصداقة ؛ وهي مشاركة الصديق ما يعيشه صديقه أو يعرض له من فرح وترح ومسرة ومضرة ؛ وكلما ازدادت علاقة الأخوة والصداقة ، ازدادت معها الحقوق والرعاية . والعلم عندالله تعالى .
_____________
- انظر رسائل ابن حزم - تحقيق إحسان عباس : 1 / 361 .
 
الحقوق والآداب

لابد ابتداء من إثبات أن هذه الحقوق والآداب متبادلة بين الصديقين ؛ فعليك لأخيك مثل الذي عليه لك ؛ فإن اختل ذلك اختلت العلاقة ؛ وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول : اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم ، فإنهم سيصحبونك بمثله ( [1] ) .
وأول الحقوق بين الأخوين المتصادقين :
1 - صدق المودة : إذ هي معنى الصداقة ؛ فمن لم يصدق في مودته فليس بصديق ؛ وصدق المودة معناه : أن يضمر في قلبه مثل ما يظهره ، فيكون صادقًا في وده سرًا وعلانية ؛ وأن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مساره ، والحزن على ما يناله من مكارهه ، وأن يبدأه بالسلام عند إقباله ، ويبش في وجهه عند لقائه ، وأن يوسع له في المجلس ويخرج له من مكانه ، وأن يشيعه عند قيامه ؛ وألا يعده ويخلف ، فإنه نفاق ؛ قال e : " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " ( [2] ) ؛ وقد قيل : لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبة بغضة ؛ وأنشدوا :

يا واعِداً أَخلفَ في وَعـدِهِ ... ما الخُلفُ مِن سيرَةِ أَهلِ الوَفا


ما كانَ ما أَظهَرتَ مِن وُدِّنا ... إِلّا سِـراجًا لاحَ ثُـمَ اِنطَفا

وعلى الجملة ، فيعامله بما يحب أن يعامل به ؛ فمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأخوته نفاق ، وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة ؛ وللشافعيرحمه الله :

إذا المرءُ لا يَلْقاكَ إلا تَكَلُّفَا ... فَدَعْهُ ولا تُظهرْ عليه التَّأَسُفَا


ففي الناسِ أبدالٌ وفي التركِ راحةٌ ... وفي القلبِ صبرٌ للحبيبِ ولو جَفَا


فما كلُّ مِنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قَلْبُهُ ... ولا كلُّ مِنْ صافَيْتَهُ، لكَ قد صَفَا


إذا لم يكنْ صَفْوُ الودادِ طبيعةً ... فلا خيرَ في خلٍ يجيءُ تَكَلُّفَا


ولا خيرَ في خلٍ يخونُ خَليلَهُ ... ويَلقاهُ من بعدِ المودةِ بالْجَفَا


ويُنْكِرُ عَيْشًا قدْ تَقَادمَ عَهْدُهُ ... ويُظهرُ سِرًّا كان بالأمسِ قد خَفَا


سلامٌ على الدنيا إذا لم يَكُنْ بها ... صديقٌ صدوقٌ صادقُ الوعدِ مُنْصِفَا

ولا تصدق المودة - حقيقة - إلا إذا كانت لله تعالى ؛ فالمتحابون في الله هم الأصدقاء حقًّا ، وهم الأخلاء حقًّا ؛ وصداقتهم هي النافعة في الدنيا والآخرة ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ " وذكرمنهم:" وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ " ؛ وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي " ( [3] ) ؛ وعند أبي داود أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : " إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ ؟ قَالَ:" هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا ؛ فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ ؛ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : ] أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ [ يونس : 62 ] ( [4] ) .
وعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ ، فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا ، وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ ، وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ ؛ فَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ ، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي ، قَالَ : فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قُلْتُ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ ، فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ ، فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ ، فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ ، وَقَالَ : أَبْشِرْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : " وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ " ( [5] ) .
ومن علامات صدق المودة سلامة القلب واللسان ؛ فليس في قلبه لأخيه إلا الحب ، وحب الخير له في الدنيا والآخرة ؛ فعن أبي جعفر قال : اعرف المودة لك في قلب أخيك بما له في قلبك ( [6] ) ؛ ومن ذلك إينَاسُهُ بِالِانْبِسَاطِ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ .
ولا ينطق لسانه إلا بما يدل على ذلك ؛ من ذكر محاسنه والكف عن عيوبه ، وستر ما يكون من زلاته ؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

[1] - سير أعلام النبلاء : 4 / 584 .

[2]- متفق عليه من حديث أبي هريرة : البخاري ( 33 ) ، ومسلم ( 59 ) .

[3] - مسلم ( 2566 ) .

[4] - أبو داود ( 3527 ) .

[5] - رواه مالك في الموطأ : 2 / 953 (1711 ) ، وأحمد : 5 / 233 .

[6]- رواه أبو نعيم في حلية الأولياء : 3 / 187 ، وانظر صفة الصفوة : 2 / 112 .
 
الحقوق والآداب
2 - الإعانة على قضاء حوائج الدنيا على قدر الاستطاعة : من الآداب التي يتعايش بها الإخوان الأصدقاء ما يكون من قضاء الحوائج مما يصعب على أحدهما قضاؤه لسبب من الأسباب ؛ والسعي في قضاء حاجة الصديق مما ندب إليه الإسلام ، ورتب عليه الأجر العظيم ، فقد روى الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ e , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ , وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ , أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً , أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا , أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ؛ وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ - شَهْرًا , وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ , وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ - وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ - مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ " ( [1] ) ؛ وقدمنا في رسالة ( آداب الأخوة العامة ) أن ذلك من الحقوق العامة ؛ فهو في الحقوق الخاصة أولى ؛ ومع ذلك فلابد من مراعاة الحال ، وأن يؤثر التخفيف عنه ، فلا يكلفه شيئًا من حاجاته مما قد يصعب عليه ، فَيُرَوِّحُ سره من مهماته .

[1] - الطبراني في الكبير : 12 / 153 ( 13646 ) ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 906 ) ، وقال في صحيح الترغيب ( 2623 ) : حسن لغيره .
 
3 - المواساة بالمال
هذا أمر مما يحتاجه كثير من الإخوان بعضهم من بعض ؛ وإذا كان ذلك مطلوب في حقوق الأخوة العامة - كما تقدم في رسالة ( آداب الأخوة العامة ) – فهو في الأخوة الخاصة أولى ؛ وقد رفع الله U الحرج عن المسلمين في الأكل من بيوت الأصدقاء : ] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ [ النور : 61 ] ؛ فضم الأصدقاء في هذا الباب إلى القرابات القريبة ؛ ولا يخفى ما فيه من حق الصديق .
وروى الحاكم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله e رأس شاة ، فقال : إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منا ؛ قال : فبعث إليه ؛ فلم يزل يبعث إليه واحدًا إلى آخر ، حتى تداولها سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى الأول ؛ فنزلت : ] وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ [ الحشر : 9 ] إلى آخر الآية ( [1] ) .
فمن حق الأخ على أخيه ­- كما يقول الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) -مُعَاوَنَتُهُ فِيمَا يَنُوبُهُ مِنْ حَادِثَةٍ ، أَوْ يَنَالُهُ مِنْ نَكْبَةٍ ؛ فَإِنَّ مُرَاقَبَتَهُ فِي الظَّاهِرِ نِفَاقٌ ، وَتَرْكَهُ فِي الشِّدَّةِ لُؤْمٌ ؛ وَقِيلَ : شَرُّ الْإِخْوَانِ مَنْ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ مَعَ الزَّمَانِ إذَا أَقْبَلَ ، فَإِذَا أَدْبَرَ الزَّمَانُ أَدْبَرَ عَنْك . وللشافعي رحمه الله :
صديقٌ ليسَ يَنفعُ يومَ بُؤسٍ ... قريبٌ من عدوٍ في القياسِ
وما يَبْقَى الصديقُ بكل عصرٍ ... ولا الإخوانُ إلا للتآسِي
عَمَرْتُ الدهرَ مُلْتَمِساً بجهدي ... أخا ثقةٍ فأعياني التماسي
تنكرتِ البلادُ ومَنْ عليها ... كأنَّ أُناسَها ليسوا بناسِ
فإذا ارتقت الصداقة وعلت المصافاة ؛ كانت المواساة في أعلى درجاتها ؛ روى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن الوصافي قَالَ : كُنَّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ [ الباقر ] يَوْمًا فَقَالَ : هَلْ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كُمِّ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ مَالَهُ ؟ قُلْنَا : لَا ، قَالَ : مَا أَنْتُمْ بِإِخْوَانٍ ( [2] ) .

[1] - الحاكم ( 3799 ) وصححه ، وعنه البيهقي في شعب الإيمان ( 3479 ) .

[2] - شعب الإيمان ( 10879 ) ؛ والوصافي هو : عبيد الله بن الوليد .
 
الحقوق والآداب
4 - تفقد حاله والسؤال عنه وزيارته ؛ فلعله يحتاج إلى معاونة ، أو يكون مريضا فيعاد ؛ وهذا أدب راق ، وهو مما يزيد المودة ، ويظهر صدقها .
وقد أخبر النبي e عن فضل زيارة الإخوان وعيادتهم ؛ ففي سنن الترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا ، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ ، نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا " ( [1] ) ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ ، قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ؛ قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لَا ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ U ، قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ " ( [2] ) . قال النووي - رحمه الله : فِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل الْمَحَبَّة فِي اللَّه تَعَالَى , وَأَنَّهَا سَبَب لِحُبِّ اللَّه تَعَالَى الْعَبْد , وَفِيهِ فَضِيلَة زِيَارَة الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَاب.ا.هـ ( [3] ) . وَوَصَّى بَعْضُ الْأُدَبَاءِ أَخًا لَهُ فَقَالَ :كُنْ لِلْوُدِّ حَافِظًا وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُحَافِظًا ، وَلِلْخَلِّ وَاصِلًا وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُوَاصِلًا.
والقصد في كل شيء حسن ؛ فتقليل الزيارة داعية للهجران ، وتكثيرها سبب الملال؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ e لِأَبِي هُرَيْرَةَ t: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا"([4] )؛ وَقَالَ لَبِيدٌ :

تَوَقَّفْ عَنْ زِيَارَةِ كُلِّ يَوْمٍ ... إذَا أَكْثَرْت مَلَّكَ مَنْ تَزُورُ

وَقَالَ آخَرُ :

أَقْلِلْ زِيَارَتَك الصَّدِيقَ وَلَا تُطِلْ ... هِجْرَانَهُ فَيَلِجَّ فِي هِجْرَانِهِ
إنَّ الصَّدِيقَ يَلِجُّ فِي غَشَيَانِهِ ... لِصَدِيقِهِ فَيَمَلُّ مِنْ غَشَيَانِهِ
حَتَّى يَرَاهُ بَعْدَ طُولِ سُرُورِهِ ... بِمَكَانِهِ مُتَثَاقِـلًا بِمَكَانِهِ
وَإِذَا تَوَانَى عَنْ صِيَانَةِ نَفْسِهِ ... رَجُلٌ تُنُقِّصَ وَاسْتُخِفَّ بِشَانِهِ

[1] - الترمذي ( 2008 ) وحسنه ، وابن ماجه ( 1443 ) .

[2] - رواهمسلم ( 2567 ) ؛ وتَرُبُّهَا : أَيْ : تَقُوم بِإِصْلَاحِهَا , وَتَنْهَض إِلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ .

[3] - انظر شرح مسلم : 16 / 124 .

[4] - هذا لفظ الطيالسي ( 2535 ) ؛ والحديث ورد عن جماعة من الصحابة ، وطرقه كلها معلولة ؛ لكن ذكره الكتاني في ( نظم المتناثر من الحديث المتواتر ) رقم ( 219 ) وأشار إلى تقويته بكثرة طرقه .
 
الحقوقو والآداب
5 - كتمان السر ؛ وأصل ذلك أنيحفظالإنسانسرنفسه،ولايفشيهلأحد؛ فعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ " ( [1] ) ؛ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : انْفَرِدْ بِسِرِّك ، وَلَا تُودِعْهُ حَازِمًا فَيَزِلَّ ، وَلَا جَاهِلًا فَيَخُونَ .
ولكن بعض الْأَسْرَارِ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ صَدِيقٍ مُسَاهِمٍ ، وَاسْتِشَارَةِ نَاصِحٍ مُسَالِمٍ ؛ قال الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) : وَإِظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ إظْهَارِهِ سِرَّ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَبُوءُ بِإِحْدَى وَصْمَتَيْنِ : الْخِيَانَةُ إنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ، أَوْ النَّمِيمَةُ إنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا ؛ فَأَمَّا الضَّرَرُ فَرُبَّمَا اسْتَوَيَا فِيهِ وَتَفَاضَلَا ؛ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ ، وَهُوَ فِيهِمَا مَلُومٌ .ا.هـ .
فحفظ سر الصديق أدب بين الإخوان لصيق ؛ وقال بعض الحكماء : قلوب الأحرار قبور الأسرار ؛ وقيل : أفشى رجل لصديق له سرًا من أسراره ، فلما فرغ قال له : حفظته ؟ قال : لا ، بل نسيته . مبالغة في كتمانه .
ولبعضهم :

لَيسَ الكَريمُ الَّذي إِن زَلَّ صاحِبُهُ ... بَثَّ الَّذي كانَ مِن أَسرارِهِ عَلِما


إِنَّ الكَـريمَ الَّـذي تَبَقى مَودَّتُهُ ... وَيَحفَظُ السِرَّ إِن صافى وَإِن صَرَما


[1] - رواه الطبراني في الأوسط ( 2455 ) ، وصححه الألباني في ( الصحيحة ) رقم ( 1453 ) .
 
الحقوق والآداب
6 - نصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه ؛ فيراعي في صحبة الإخوان صلاحهم لا مرادهم ، ودلالتهم على رشدهم لا على ما يحبونه ؛ قال بعضهم : المؤمن من يعاشرك بالمعروف ، ويدلك على صلاح دينك ودنياك ؛ والمنافق من يعاشرك بالمماذقة ( أي : بخلط الأمور ) ، ويدلك على ما تشتهيه ، والمعصوم من فرق بين الحالين .
وإن كان النصح بين المسلمين مطلوبًا شرعًا ، فالتناصح بين الأصدقاء أولى وأحرى ؛ إذ صدق المودة يقتضي صدق النصيحة ؛ روى أحمد وأبو داود والنسائي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ : " يَا مُعَاذُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ " ؛ فَقَالَ : " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " ( 1 ) . فانظر - رحمك الله - كيف قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " يَا مُعَاذُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ " بين يدي وصيته له بما فيه الخير له في الدنيا والآخرة .
وقد قدمنا في رسالة ( آداب الأخوة العامة ) قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ " ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ( 2 ) .
ومن الأدب الذي لا يغفل عند النصيحة أن تكون على انفراد ؛ فإنها أنفع وأنجع ؛ وقد قيل : النصيحة على انفراد نصيحة ، وفي الملأ فضيحة ؛ ولله در الشافعي قال :
تعمدني بنصحك في انفراد ... وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تجزع إذا لـم تعط طاعة
__________
1 - أحمد : 5 / 328 ، وأبو داود ( 1522 ) ، والنسائي ( 1303 ) .
2 - مسلم ( 55 ) .
 
الحقوق والآداب
7 - العفو عن زلته وهفوته :
مِنْ حَقِّ الْإِخْوَانِ - كما يقول الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) - أَنْ تَغْفِرَ هَفْوَتَهُمْ ، وَتَسْتُرَ زَلَّتَهُمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَامَ بَرِيئًا مِنْ الْهَفَوَاتِ ، سَلِيمًا مِنْ الزَّلَّاتِ ، رَامَ أَمْرًا مُعْوِزًا ، وَاقْتَرَحَ وَصْفًا مُعْجِزًا ؛ وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : أَيُّ عَالِمٍ لَا يَهْفُو ، وَأَيُّ صَارِمٍ لَا يَنْبُو ، وَأَيُّ جَوَادٍ لَا يَكْبُو ؛ وَقِيلَ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ : أَيُّ إخْوَانِك أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : مَنْ غَفَرَ زَلَلِي ، وَقَطَعَ عِلَلِي ، وَبَلَّغَنِي أَمَلِي ؛ وَلِلشَّافِعِيِّ :
أُحِبُّ مِنْ الْإِخْوَانِ كُلَّ مَوَاتِي ... وَكُلَّ غَضِيضِ الطَّرْفِ عَنْ عَثَرَاتِي
يُوَافِقُنِي فِي كُـلِّ أَمْرٍ أُرِيدُهُ ... وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْـدَ وَفَـاتِي
فَمَنْ لِي بِهَذَا لَيْتَ أَنِّي أَصَبْته ... فَقَاسَمْته مَا لِي مِـنْ الْحَسَنَاتِ
تَصَفَّحْت إخْوَانِي وَكَانَ أَقَلُّهُمْ ... عَلَى كَثْرَةِ الْإِخْـوَانِ أَهْلَ ثِقَاتِي
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ قَالَ : تَنَاسَ مَسَاوِئَ الْإِخْوَانِ يَدُمْ لَك وُدُّهُمْ ( [1] ) ؛ وَحُكِيَ عَنْ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ - وَكَانَ أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ : مَا رَأَيْت قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك ، قَالَ : مَهْ ! وَلِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك ، وَإِذَا أَعْسَرْت تَرَكُوك . قَالَ : هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ ، يَأْتُونَنَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ ، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ .
فَانْظُرْ كَيْفَ تَأَوَّلَ بِكَرْمِهِ هَذَا التَّأْوِيلَ حَتَّى جَعَلَ قَبِيحَ فِعْلِهِمْ حَسَنًا ، وَظَاهِرَ غَدْرِهِمْ وَفَاءً .
وَهَذَا مَحْضُ الْكَرَمِ وَلُبَابُ الْفَضْلِ ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَلْزَمُ ذَوِي الْفَضْلِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا الْهَفَوَاتِ مِنْ إخْوَانِهِمْ ؛ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
إذَا مَا بَدَتْ مِنْ صَاحِبٍ لَك زَلَّةٌ ... فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالًا لِزَلَّتِهِ عُذْرَا
أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ ... كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَقْرَا
سَلِيمُ دَوَاعِي الصَّبْرِ لَا بَاسِطٌ أَذًى ... وَلَا مَانِعٌ خَيْرًا وَلَا قَائِلٌ هُجْرَا
وَالدَّاعِي إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ شَيْئَانِ : التَّغَافُلُ الْحَادِثُ عَنْ الْفَطِنَةِ ، وَالتَّأَلُّفُ الصَّادِرُ عَنْ الْوَفَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : وَجَدْت أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّغَافُلِ ؛ وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ شَدَّدَ نَفَّرَ ، وَمَنْ تَرَاخَى تَأَلَّفَ ، وَالشَّرَفُ فِي التَّغَافُلِ .
وَمَن لَم يُغمّض عَينَهُ عَن صَديقِهِ ... وَعَن بَعضِ ما فيهِ يَمُت وَهُوَ عاتِبُ
وَمَن يَتَتَبَّع جاهِـداً كُلَّ عَـثرَةٍ ... يَجِدها وَلا يَسلَم لَهُ الدَهرَ صاحِبُ

[1] - رواه البيهقي في شعب الإيمان ( 11200 ) - الكتب العلمية .
 
الحقوق والآداب
8 - قبول عذره والصفح عنه ، وترك إثقال العتب عليه : قبول العذر من فاعله ، صدق أو كذب ، فالمعتذر مظهر لما يمحو به الذنب ؛ وفي اعتذاره إقرار بخطئه ، وطلب للعفو ؛ وقد قيل : شَفِيعُ الْمُذْنِبِ إقْرَارُهُ ، وَتَوْبَتُهُ اعْتِذَارُهُ ؛ وقد ندبنا ربنا إلى هذه الخلق الكريم في آي ذوات عدد ، منها : ] وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ [ النور : 22 ] ؛ وأشارت الآية إلى أن الجزاء من جنس العمل ، فمن غفر غُفر له ، ومن عفا عُفي عنه ، ومن صفح صُفح عنه .
قال الراغب : وجميع المعاذير لا تنفك عن ثلاثة أوجه : إما أن يقول : لم أفعل ، أو فعلت لأجل كذا ، فيتبين ما يخرجه عن كونه ذنبًا ، أو يقول : فعلت ، ولا أعود ؛ فمن أنكر وأنبأ عن كذب ما نسب إليه ، فقد برئت منه ساحته ؛ وإن فعل وجحد ، فقد يعد التغابي عنه كرمًا ، ومن أقر فقد استوجب العفو بحسن ظنه بك ( [1] ) ؛ وقد احسن من قال :
اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرًا ... إنْ بَرَّ عِنْدَك فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا
فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ ... وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا
ولأبي الحسن بن أبي العالية البيهقي :
قِيلَ لِي قَـدْ أَسَاءَ إلَيْكَ فُلَانُ ... وَقُعُودُ الْفَتَى عَلَى الضَّيْمِ عَارُ
قُلْتُ قَدْ جَاءَنَا فَأَحْدَثَ عُذْرَا ... دِيَـةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الِاعْتِذَارُ ( [2] )
وقال غيره :
أَقِلْ ذَا الْـوُدِّ عَثَرْتَهُ وَقِفْهُ ... عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَهْ
وَلَا تُسْـرِعْ بِمَعْتَبَةٍ إلَيْهِ ... فَقَـدْ يَهْفُـو وَنِيَّتُـهُ سَلِيمَهْ
وإن كان لابد من عتاب ، فعتاب رفيق ، قصده إبقاء الصديق ، والتجاوز عنه ؛ وقد قال أَبُو الدَّرْدَاءِ : مُعَاتَبَةُ الْأَخِ أَهْوَنُ مِنْ فَقْدِهِ ، وَمَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ ، فَأَعْطِ أَخَاكَ وَهَبْ لَهُ ، وَلَا تُطِعْ فِيهِ حَاسِدًا فَتَكُونَ مِثْلَهُ ( [3] ) ؛ وقال بعضهم :
مَنْ لَمْ يُعَاتِبْ عَلَى الزَّلَّةِ ... فَلَيْسَ بِحَافِظٍ لِلْخُلَّةِ
ذلك لأن كثيرًا مما قد يكون سببًا فيما يحدث بين الأصدقاء من جفاء أو هجران ، مع العتاب يظهر كذبه ، أو أنه كان عن غير قصد أو نحو ذلك ؛ فمع العتاب تعود الصلة قوية ، ويقطع دابر الشيطان .

[1] - نقلًا عن فيض القدير : 6 / 73 .

[2] - شعب الإيمان للبيهقي ( 11203 ) .

[3] - رواه أبو نعيم في حلية الأولياء : 1 / 215 ، 216 .
 
الحقوق والآداب
9 - أن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته ، وهذا وإن كان من حقوق الأخوة العامة ، كما تقدم في رسالة ( آداب الأخوة العامة ) ، إلا أنه للأخوة الخاصة أحرى وبها أجدر .

10 - أن يحسن الوفاء معه ومع أهله وأقاربه بعد موته ؛ وهذا أدب راق ، إذ الإنسان بعد موته أحوج ما يكون لدعاء خالص من قلبٍ محب .
ومعنى الوفاء - كما يقول الغزالي في (إحياء علوم الدين ) : الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه ، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه ، فإن الحب إنما يراد للآخرة ، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي ؛ ولذلك قال e في السبعة الذين يظلهم الله في ظله : " وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ " ، وقال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة .ا.هـ .
ونقل ابن عبد البر في ( بهجة المجالس وأنس المجالس ) عن عَلِيٍّ t قَالَ : لَا يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقًا حَتَّى يَحْفَظَ الصَّدِيقَ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ .
هذا بإيجاز ما يختص به الأخ الصديق ، الذي اختاره المسلم ليكون له صاحبًا وخليلا ؛ مع احتفاظه بحقه من حقوق الأخوة العامة .
قال رشيد رضا - رحمه الله - بعد عدة مقالات كتبها في المنار عن حقوق الأخوة مختصرة من إحياء علوم الدين للغزالي : نقول : إِنَّ بُعْدَنا عن أخلاق ديننا وآدابه ، صَيَّر سيرة سلفِنا في نظرنا من الأعاجيب التي لا تكاد تصدق ، وأين الذين يُنسَبون للإسلام اليوم ؛ وأحدهم يعادي أخاه في النسب ، بل يقتل الأم والأب لأجل قليل من الحُطام - من أولئك الذين كانت ( الجامعة الإسلامية ) كافية عندهم لأن يلقي أحدهم كيسه للآخر يأخذ منه ما شاء ؟
فلنرجع إلى الآداب ، ولنُرَبِّ أولادنا عليها ؛ يرجع إلينا مجد آبائنا الأولين ، وإلا فإن الأماني ودعوى الإسلام لا تغني عنا شيئًا ، والسلام ( [1] ) .
والله المسئول أن يجعلنا ممن يوفون حقوق إخوانهم ، وأن يجعلنا ممن قـال فيهم : ] وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ [ الحجر:47 ] .


[1] - مجلة المنار - المجلد (‌ 2 ) الجزء (‌ 27 ) ص 422 -‌ 10 جمادى الأولى 1317هـ - 16 سبتمبر 1899 م .
 
خاتمة
وفي ختام هذه الآداب أنقل لك – أيها القارئ – هذه الوصية الجامعة ؛ روى أبو حاتم البستي في ( روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ) عن سعيد بن المسيب قال : وضع عمر بن الخطاب t للناس ثمانية عشر كلمة ، كلها حكم ؛ قال : ما كافأت من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا ، ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه ، وعليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم ، فإنهم زينة في الرخاء ، وعدة في البلاء ؛ وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق ، ولا تعرض لما لا يعنيك ، ولا تسأل عما لم يكن ، فإن فيما كان شغلًا عما لم يكن ، ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يحب لك نجاحها ، ولا تصحبن الفاجر فتعلَّم فجوره ، واعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين ، ولا أمين إلا من خشي الله ، وتخشع عند القول ، وذل عند الطاعة ، واعتصم عند المعصية ؛ واستشر في أمرك الذين يخشون الله ، فإن الله يقول : ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ [ فاطر : 28 ] .ا.هـ .
والحمد لله أولًا وآخرًا ، وظاهرًا وباطنًا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلم تسليمًا كثيرًا .
 
عودة
أعلى