الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة ببيان حقوق وآداب المسلم على أخيه المسلم ؛ لترسم لأخوة الدين مكانتها العظيمة في مجتمع الناس ، ولتسبق بذلك دعاة حقوق الإنسان في هذا الزمان . إنها آداب راقية تبني مجتمعًا متحابًا متعاطفًا متماسكًا ، كالبنيان يشد بعضه بعضًا ، وكالجسد الواحد إذا اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإذا اشتكى عينه اشتكى كله . هذا هو مجتمع المسلمين الذي تسود فيه تعاليم الإسلام وآدابه ، ومن يقرأ التاريخ سيجد أن هذا المجتمع المتراحم المتحاب كان قائمًا على مر تاريخ المسلمين ؛ وإنما تراجعت فيه هذه الصفات عندما تراجع فيه الاستمساك بتعاليم وآداب دين الإسلام . أذكر أن بعض المستشرقين قال : إن الإسلام يريد من أهله إذا عطس أحدهم بالمغرب أن يشمته الذي بالهند .ا.هـ . أقول : نعم ؛ إذا سمعه ، فقد قال نبي الإنسانية e : " فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ " ( [1] ) ؛ وقال e : " تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " ( [2] ) ؛ وقال - أيضًا : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ " ( [3] ) . وما أجمل قول الشاعر :
يا أخي في الهند أو في المغرب ... أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي ... إنـه الإسـلام أمي وأبي
لقد امتن الله تعالى على المسلمين الأوائل بقوله Y : ] وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[ [ آل عمران : 103 ] ؛ قال ابن كثير - رحمه الله : وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن وإحَنٌ وذُحُول( [4] ) طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانًا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى.ا.هـ . لقد ألف الإسلام بين هذه القلوب فجمعهم على تلك الأخوة الإيمانية ، التي تحولت بها القلوب من التنافر إلى التآلف ، ومن التكاره إلى التحاب ، ومن العداوة إلى المحبة . فبأخوة الإيمان زالت العداوة والفرقة ، وكانت المحبة والألفة ؛ وإن كان المراد بالآية الأوس والخزرج ، فإنها تعم كل من يدخل تحت مظلة الإسلام ، وإن دخل حديثًا في دين الله تعالى ؛ قال الله تعالى : ] فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ [ التوبة : 11 ] ؛ وسياق الآيات يبين أن الكفار والمشركين إن تابوا عن كفرهم وشركهم ، ووحدوا الله تعالى ، والتزموا أوامره ، فأقاموا له الصلاة ، وأدوا الزكاة إلى المستحقين كما أمر ؛ فهم بذلك إخوة للمسلمين : ] فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [ . ما أجمل أن يرجع المسلمون إلى تلك الأخوة الإيمانية التي تجمعهم تحت مظلة التراحم والتواد والتعاطف . لقد أصَّل الإسلام لأهله من التعاليم والآداب ما يحافظ به على هذه الأخوة العظيمة .. أخوة الدين ؛ فجعل من تمام الإيمان أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ؛ ونهاهم عن كل ما يوغر الصدور ويورث التباغض والتدابر والتحاسد . وسأحاول في هذه الرسالة إلقاء الضوء على مجمل هذه الآداب ، ليحافظ عليها المسلمون ، ويسترجعوا بها أخوتهم الإيمانية ، التي يسعدون بها في الدنيا ، ويدخلون بها الجنة ] إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ [ الحجر : 47 ] . هذا والله الكريم أسأل أن يردَّ المسلمين إلى دينهم ردًّا جميلا ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1] - جزء من حديث رواه البخاري ( 6223 ) ، والترمذي ( 2747 ) عن أبي هريرة t .
[2] - البخاري ( 6011 ) ، ومسلم ( 2586 ) عن النعمان بن بشير t .
[3] - أبو داود ( 2751 ) واللفظ له ، وابن ماجة ( 2685 ) عن عبد الله بن عمرو ، ورواه أحمد:1/119،وأبوداود(4530) والنسائي ( 4746 ) عن علي بنحوه .
[4] - الذَّحْلُ : الحقد والعداوة ، يقال : طلب بذحله ، أي : بثأره ، والجمع : ذُحُولٌ .
يقرر الإسلام أن الأخوة الإيمانية مطلب شرعي لابد من تحقيقه بين المسلمين ، قال الله تعالى : ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ ، وقال النبي e : " وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا "متفق عليه ( [1] ) ، وقال e : " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ " متفق عليه( [2] )، وقال e : " الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ " ( [3] ) . وقد آخَى النبي e بين المُهاجرين والأَنصار ، أَي : أَلَّف بينهم بأُخُوَّةِ الإِسلامِ والإِيمانِ ، وكان ذلك من أول ما قام به النبي e بعد الهجرة ؛ وقد سطر التاريخ بحروف من نور تلك الآداب الراقية التي كانت بين المتآخين في الدين ، لقد تقاسموا أعباء المعيشة ، وحمل بعضهم بعضًا ، حتى إنهم كانوا يتوارثون إلى أن نزلت آيات الميراث ، وأعطت المواريث لأولي الأرحام ؛ كما هو مقرر ومعلوم . وفي قصة سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - مثالا رائعًا لتلكم الأخوة التي ارتفعت حتى على خصاصة النفس من المال والزوجة ؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ ، فَآخَى النَّبِيُّ e بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ . وفي رواية : قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ e بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ ؛ فَقَالَ سَعْدٌ : قَدْ عَلِمَتْ الْأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا ، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ ؛ وَلِي امْرَأَتَانِ ، فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا ، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا ؛ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ ( [4] ) . ولم تكن واقعة سعد وابن عوف - رضي الله عنهما - منفردة شاذة ، بل كان هذا الواقع الأخوي بين المهاجرين والأنصار شائعًا مستمرًا ، فقد روى أحمد عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ الْمُهَاجِرُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ ، أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا فِي كَثِيرٍ ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَئُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ ، حَتَّى لَقَدْ حَسِبْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ ؛ قَالَ : " لَا ، مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ، وَدَعَوْتُمْ اللَّهَ U لَهُمْ" ( [5] ) . ولقد وصف القرآن ما كان يفعله هؤلاء مادحًا لهم ، فقال Y : ] وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ [ الحشر : 9 ] . إنها الأخوة التي يتقربون بها إلى الله ، ويرجون بها ثوابه وجنته . لقد قام بها الأولون من صحابة النبي e بما لم نجد في تاريخ الأولين والآخرين مثله ؛ وقد سطر التاريخ بأحرف من نور مؤاخاة النبي e بين المهاجرين والأنصار ، والأدب الراقي الذي كان على أثر هذه المؤاخاة ؛ مما يستدعي سؤالا يتجدد ، هل يمكن أن يعود المسلمون إخوة كما كان الأولون من الصحابة ؟ والجواب : نعم ؛ إذا قامت الأخوة على القاعدة التي قامت عليها أخوة الأولين .. تقوى الله تعالى .
مجتمع الأخوة الإيمانية مجتمع مترابط متماسك ، يشعر بعضهم ببعض ، يفرح بعضهم لفرح بعض ، ويألم بعضهم لألم بعض ؛ يتقربون إلى الله تعالى بحب بعضهم بعضًا ، وبمواساة بعضهم بعضًا ؛ ففي الصحيحين عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ t قَالَ:قَالَرَسُولُاللَّهِe:" تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ ، وَتَوَادِّهِمْ ، وَتَعَاطُفِهِمْ ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " وفي رواية لمسلم : " الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ ، إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ " ( [1] ) ؛ فَقَوْله e : " تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ " - إِلَى آخِره - صَرِيح فِي تَعْظِيم حُقُوق الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض , وَحَثّهمْ عَلَى التَّرَاحُم وَالْمُلَاطَفَة وَالتَّعَاضُد فِي غَيْر إِثْم وَلَا مَكْرُوه ؛ هكذا المؤمنون فيما بينهم ؛ فكما يألم الجسد إذا ألم أحد أجزائه ، فالمؤمنون يشعر بعضهم ببعض ، ويتألم بعضهم لألم بعض ؛ وفي مسند الإمام أحمد عن سهلِ بن سعدٍ t أن النَّبيَّ e قَالَ : " المؤمن من أهلِ الإيمانِ بمنْزلةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ ، يأْلَمُ المؤمنُ لأهلِ الإيمانِ كما يأْلَمُ الجَسَد لِما في الرَّأْسِ " ( [2] ) .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى t عَنْ النَّبِيِّ t قَالَ : " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ( [3] ) ؛ والمعنى : يشد بعضهم بعضًا مثل هذا الشدِّ ، فوقع التشبيك تشبيهًا لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض ، كما أن البنيان الممسك بعضه ببعض يشد بعضه بعضًا ، وذلك لأن أقواهم لهم ركن ، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي ، فإذا والاه قوي بما بباطنه ( [4] ) . أي : مثل الأجزاء الضعيفة في البناء فهي تقوى بأركانه وأصوله .
[1]- أحمد : 1 / 122 ، وأبو داود ( 4530 ) ، والنسائي ( 4735 ) ، واللفظ لأحمد والنسائي . [2]- أبو داود ( 2751 ) ، وابن ماجة ( 2685 ) . [3] - ابن ماجة ( 2683 ) . [4] - أي إذا عقد المسلم عقد أمان لكافر ، وإن كان هذا المسلم داره بعيدة ، فلا يجوز للأقرب دارًا أن يخفر ذمة المسلم الأبعد دارًا . [5] - انظر عون المعبود في شرح سنن أبي داود : 7 / 302 ، 303 ، باختصار وتصرف . [6] - النهاية في غريب الحديث والأثر : 5 / 292 .
لتحقيق أخوة الإيمان وضع الإسلام لأهله تعاليم وأحكامًا وآدابًا تنظم هذه العلاقة ، وتحفظ استمراريتها ، وتقوي أواصرها ، وتنميها ؛ فبين أن للمسلم على المسلم حقوقًا ، وأن كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ، وشرع آدابًا راقية للتعامل بين المسلمين ، هي في ذاتها قربة إلى الله تعالى ، ومن مقاصدها تآلف القلوب ، وتنمية المحبة والمودة والألفة . ونحاول في رسالتنا هذه أن نوجز أهم هذه التعاليم والآداب .
المؤمن مرآة أخيه
من الآداب الجليلة التي أمر بها الإسلام أهله ، النصح لكل مسلم ؛ حتى وصف النبي e المسلم في هذا الموطن بأنه مرآة أخيه ؛ فروى البخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود عن أبي هريرة t عنِ النَّبيِّ e قال : " المؤمنُ مرآةُ المؤمنِ ، المؤمنُ أخو المؤمن ، يكُفُّ عنه ضَيعَته ، ويحوطُه من ورائه " ( [1] ) ؛ فقوله e : " الْمُؤْمِن مِرْآة الْمُؤْمِن " أَيْ :آلَةٌ لِإِرَاءَةِ مَحَاسِن أَخِيهِ وَمَعَائِبِهِ ، لَكِنْ بَيْنه وَبَيْنه , فَإِنَّ النَّصِيحَة فِي الْمَلَأ فَضِيحَة ؛ وَأَيْضًا هُوَ يَرَى مِنْ أَخِيهِ مَا لَا يَرَاهُ أخوه مِنْ نَفْسه , كَمَا يُرْسَم فِي الْمِرْآة مَا هُوَ مُخْتَفٍ عَنْ صَاحِبه فَيَرَاهُ فِيهَا , أَيْ: إِنَّمَا يَعْلَم الشَّخْص عَيْبَ نَفْسه بِإِعْلَامِ أَخِيهِ ،كَمَا يَعْلَمُ خَلَل وَجْهه بِالنَّظَرِ فِي الْمِرْآة . وقوله e : " يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَته " : أَيْ : يَمْنَعُ تَلَفه وَخُسْرَانه , فَالضيعة : المَرَّة مِنْ الضَّيَاع ، وهـذا من تمام نصح المؤمن لأخيه ورعايته لحقه ؛ قَالَ ابن الأثير : وَضَيْعَة الرَّجُل مَا يَكُون مِنْ مَعَاشه كَالصَّنْعَةِ وَالتِّجَارَة وَالزِّرَاعَة وَغَيْر ذَلِكَ .ا.هـ ( [2] ) . أَيْ : يَجْمَع إِلَيْهِ مَعِيشَته وَيَضُمُّهَا لَهُ ، فيعينه على شيء من معيشته ، أو يساعده إذا طلب مساعدته فيما يستطيعه ، ونحو ذلك ، ولا يحسده على نعمة وهبها الله له ؛ وقوله e : " وَيَحُوطهُ مِنْ وَرَائِهِ " : أَيْ : يَحْفَظهُ وَيَصُونَهُ وَيَذُبّ عَنْهُ بِقَدْرِ الطَّاقَة .
[1]- البخاري في الأدب المفرد ( 239 ) ، وأبو داود ( 4918 ) وإسناده حسن ، وللجزء الأول منه شاهد عن أنس ؛ رواه الطبراني في الأوسط ( 2114 ) ؛ واختاره الضياء في المختارة ( 2185 ) ؛ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : 7 / 264 : رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وفيه عثمان بن محمد من ولد ربيعة بن أبي عبدالرحمن ، قال ابن القطان : الغالب على حديثه الوهم ؛ وبقية رجاله ثقات .ا.هـ . [2] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر : 3 / 108 .
إن العقل ليقف مشدوهًا أمام هذه الآداب الراقية التي جاء بها الإسلام لينظم العلاقة بين المسلمين ؛ ولا يمكننا أن نتحدث عن كل هذه الآداب في هذه الرسالة ، ولكن لنأخذ أنموذجًا من سورة الحجرات . قال الله تعالى : ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ [ الحجرات : 10 ]؛ فتقرر هذه الآية الكريمة الأخوة الإيمانية ، وأن من حقوقها السعي في الصلح بين الأخوة عند التنازع والتخاصم ؛ لإزالة ما يعكر صفو الأخوة . ثم تتتابع الآيات لتبين بعض الحقوق والآداب التي تنتظم فيها هذه الأخوة : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [ [ الحجرات : 11 ، 12 ] . فتبين الآيات حقوقًا وآدابًا تحفظ قيام هذه الأخوة في ودٍّ وتراحم وتعاطف ، فتنهى عن سخرية الرجال من الرجال والنساء من النساء ، ذلك لأنها توغر الصدور ، وتورث البغضاء ، وتذهب بالود الذي هو أصل علاقة الأخوة ؛ وتبين الآية العلة الأساس من تحريم السخرية ؛ ] عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [ ، ] عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [ أي : عند الله تعالى ، فكم ممن يُسخر منه لحال أو لشكل أو لجنسية ، هم عند الله تعالى خير ممن يسخرون منهم ؛ وقد يغضب الله تعالى لعبد أو أمة ممن يُسخر منه فينتصر له ، ويكون ذلك وبالًا على الساخر أي وبال . كما تنهى الآية عن اللمز ، وهو العيب والوقوع في الناس ؛ وقيل : هو العيب في الوجه ، والهمز العيب بالغيب ( [1] ) ؛ فيحرم على المسلم أن يلمز أخاه المسلم ، بل يجب عليه أن يستره لا أن يلمزه . وكذلك تنهى الآية الأولى عن التنابز بالألقاب ، وتعده فسوقًا ، ثم تدعو إلى التوبة من ذلك ، وتحذر من الاستمرار في مثل هذه القبائح فإنه ظلم ؛ ] وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ وفي ذلك تهديد شديد ووعيد أكيد ، لأن عاقبة الظلم وخيمة . ثم تأتي الآية الثانية لتنهى عن أمور أخرى ينتظم معها تلكم الأخوة التي يريدها الإسلام لأهله ؛ فالأصل في المسلم السلامة وحسن الظن إلا أن يظهر عليه ما يدل على غيره ؛ ولذلك أهدر القرآن كثيرًا من الظن لأن بعضه إثم ؛ حفاظًا على الأخوة الإيمانية ؛ وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا : " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ؛ وَلَا تَحَسَّسُوا ، وَلَا تَجَسَّسُوا ، وَلَا تَنَافَسُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا "( [2] ) .
كما تنهى الآية عن التجسس ، وهو محاولة معرفةماخفيمنأمورالمسلمين، ولا يكون التجسس إلا في أمور الشر وتتبع العورات ؛ ولا يحدث هذا ممن آمن إيمانًا صادقًا ؛ وقد حذر النبي e من ذلك أشد التحذير ؛ فروى أحمد وغيره عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ " ( [3] ) ، ورواه الترمذي بنحوه عن ابن عمر ( [4] ) . ثم تنهى الآية عن الغيبة بين المسلمين لما يترتب عليها من مفاسد قلبية ، تفضي إلى تباغض وتدابر وتقاطع ؛ وتُنفِّر الآية الكريمة من هذه الكبيرة القبيحة فتصف صاحبها بأنه يأكل لحم أخيه ميتًا ، ] أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [ . ثم تأمر المسلمين بتقوى الله تعالى ، وفيه إشارة إلى أن التقي لا يفعل من هذه المنهيات شيئًا ، وتدعو إلى التوبة لمن وقع منه شيء من ذلك : ] وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [ . فهذه بعض الحقوق والآداب التي تحدثت عنها هذه الآيات الكريمات لينتظم المسلمون في مجتمع الأخوة .. مجتمع التراحم والتعاطف والتواد .. مجتمع البنيان الذي يشد بعضه بعضًا . والقرآن في آياته التي تحدثت عن الأحكام ، والأخرى التي تحدثت عن الأخلاق والمعاملات والآداب ، إنما يقصد بناء ذلك المجتمع المتراحم المتعاطف .. مجتمع الأخوة الإيمانية .
[1]- انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : ل م ز ) .
[2] - البخاري ( 6064 ، 6066 ) ، ومسلم ( 2563 ) عن أبي هريرة .
2 – المسلم لا يخذل أخاه المسلم :قال e: " وَلَا يُسْلِمُهُ " أَيْ : لَا يَخْذُلهُ ؛ يُقَال : أَسْلَمَ فُلَان فُلَانًا إِذَا أَلْقَاهُ إِلَى التَّهْلُكَة وَلَمْ يَحْمِهِ مِنْ عَدُوِّهِ ( [1] ) ؛ ومعناه - كما يقول ابن حجر : لَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيه وَلَا فِيمَا يُؤْذِيه , بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ , وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ تَرْك الظُّلْم , وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا ، بِحَسَبِ اِخْتِلَاف الْأَحْوَالِ , وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق أُخْرَى عن سالم بن عبد الله: " وَلَا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ " ( [2] ) .ا.هـ . وهذا أدب راق في دنيا الناس ، إذ الإنسان إنما هو في حاجة أخيه عند الشدائد ، وعندها يظهر صدق الأخوة ، وفي هذا السياق يقول الشاعر :
جزى الله الشدائد كل خير ... عرفت بها العدو من الصديق
وللشافعي رحمه الله :
صديقٌ ليسَ يَنفعُ يومَ بُؤسٍ ... قريبٌ من عدوٍ في القياسِ وما يَبْقَى الصديقُ بكل عصرٍ ... ولا الإخوانُ إلا للتآسِي عَمَرْتُ الدهرَ مُلْتَمِسًا بجهدي ... أخا ثقةٍ فأعياني التماسي تنكرتِ البلادُ ومَنْ عليها ... كأنَّ أُناسَها ليسوا بناسِ
[1] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : س ل م ) . [2] - انظر فتح الباري : 5 / 97 ؛ وحديث سالم بن عبد الله بن عمر رواه الطبراني في الكبير : 12 / 322 ( 13239 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : وإسناده جيد .
3 – السعي في حاجة المسلم : الحاجة اسم لما يفتقر إليه الإنسان ، أي : يحتاجه ؛ ومن الآداب المقررة بين المسلمين سعي الأخ في حاجة أخيه ؛ وهي قربة إلى الله تعالى ؛ قال النبي e : " وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ " أَيْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا , وَلَطَفَ بِهِ فِيهَا ، وسعى - حسب طاقته - في قضائها ؛ سَوَاءً كَانَ بِقَلْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ بِهِمَا لِدَفْعِ الْمَضَارِّ أَوْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ إِذْ الْكُلُّ عَوْنٌ ؛ " كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ " أي أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَى ذلك بِجِنْسِهَا مِنْ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، وهي أن الله تعالى ييسر له قضاء حاجاته كما يسعى هو في قضاء حاجة إخوانه . روى الطبراني عَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : " لا يَزَالُ اللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ " ( [1] ) ؛ وفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة t عِنْد مُسْلِم " وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْد فِي عَوْنِ أَخِيهِ " .
[1] - الطبراني في الكبير : 5 / 118 ( 8401 ) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : 8 / 193 ، ورجاله ثقات .ا.هـ وهو صحيح لغيره .
5 – ستر المسلم أخاه المسلم : قال e : " وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا " أَيْ : ستر بَدَنه ، أَوْ عَيْبه إذارَآهُ عَلَى قَبِيحٍ فَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلنَّاسِ ؛ ففي مسند أحمد وسنن أبي داود عَنْ دُخَيْنٍ كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قُلْتُ لِعُقْبَةَ : إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ ؛ فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ ؛ فَفَعَلَ ، فَلَمْ يَنْتَهُوا ، فَجَاءَهُ فَقَالَ : إِنِّي نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ ؛ فَقَالَ عُقْبَةُ : وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا " ( [1] ) ، يعني كان ثوابه كثواب من أحيا موءودة أي كمن رأى حيا مدفونا في قبره فأخرجه من القبر كي لا يموت ؛ ووجه الشبه أن الساتر دفع عن المستور الفضيحة بين الناس التي هي بمنزلة الموت ، فكأنه أحياه ؛ كما دفع الموت عن الموءودة من أخرجها من القبر ( [2] ) ؛ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْغِيبَةِ لِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مَسَاوِئَ أَخِيهِ لَمْ يَسْتُرْهُ . وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَرْك الْإِنْكَار عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، قاله ابن حجر ؛ وقال : وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّتْرَ مَحَلُّهُ فِي مَعْصِيَةٍ قَدْ اِنْقَضَتْ , وَالْإِنْكَارَ فِي مَعْصِيَةٍ قَدْ حَصَلَ التَّلَبُّس بِهَا ؛ فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ , وَلَيْسَ هذا مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ ( [3] ) . قال النووي – رحمه الله : وَأَمَّا السَّتْر الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَاد بِهِ السَّتْر عَلَى ذَوِي الْهَيْئَات وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَاد ؛ فَأَمَّا الْمَعْرُوف بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبّ أَلَّا يُسْتَر عَلَيْهِ , بَلْ تُرْفَع قَضِيَّته إِلَى وَلِيِّ الْأَمْر إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَة ; لِأَنَّ السَّتْر عَلَى هَذَا يُطْمِعهُ فِي الْإِيذَاء وَالْفَسَاد , وَانْتَهَاك الْحُرُمَات , وَجَسَارَة غَيْره عَلَى مِثْل فِعْله .ا.هـ ( [4] ) . قال e : " سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ؛ وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : " سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " أَيْ : لَمْ يَفْضَحْهُ بِإِظْهَارِ عُيُوبِهِ وَذُنُوبِهِ ؛ وهذا أيضًا من باب الجزاء من جنس العمل .
[1]- أحمد : 4 / 153 واللفظ له ، ورواه أيضًا : 4 / 147 ، 158 من طريق أخرى ، وأبو داود ( 4891 ) ، ورواه البخاري في الأدب ( 758 ) ، النسائي في الكبرى ( 7281 )،والحاكم: 4 / 426 وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه الطبراني في الكبير : 17 /319، ( 883 ) . [2]- انظر فيض القدير للمناوي : 6 / 129 ، 130 . [3] - انظر فتح الباري : 5 / 97 ؛ وانظر أيضًا شرح النووي على صحيح مسلم : 16 / 135 . [4] - شرح النووي على صحيح مسلم : 16 / 135 .
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ؛ التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ " ( [1] ) . قال ابن حجر - رحمه الله : وَهُوَ حَدِيث عَظِيم اِشْتَمَلَ عَلَى جُمَل مِنْ الْفَوَائِد وَالْآدَاب الْمُحْتَاج إِلَيْهَا ( [2] ) ؛ قلت : وهي مترتبة على الأخوة الإيمانية التي يجتمع تحتها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ، كما ثبت في الصحيح عن أنس t ؛ ونجمل الحديث عنها فيما يلي : 1 ) عدم التحاسد ؛ قال e : " لَا تَحَاسَدُوا " أي : لا يحسد المسلم أخاه على ما يرى عليه من آثار نعم الله ، بل يفرح بذلك ويحمد الله عليه ، كما يحمده بنعمته على نفسه ؛ وليسأل الله من فضله . والحسد تمني زوال نعمة الغير ، وسواء أرادها لنفسه أو لا ؛ وهو من الأمراض القلبية الخطيرة التي تدل على خبث نفس صاحبه ، وسوء أدبه مع الوهاب Y ؛
يا حاسـدًا لي على نِعْمَتي ... أتدري على مَنْ أَسَأْتَ الأدبْ
أسأت على اللهِ في حُكْمِهِ ... لأنَّكَ لم ترضَ لي مَـا وَهَـبْ
ولا يصح أن يكون هذا بين الإخوة ، لأنه يوغر الصدور ويجلب العداوات ، وأما إذا تمنى مثل ما عند أخيه ليقوم فيه بالحق كما يقوم أخوه ، فهذه الغبطة ، أوالحسد المحمود ، الذي قال فيه النبيe: " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا ، فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ؛ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا " متفق عليه من حديث ابن مسعود t ( [3] ) ؛ والذي بيَّنه e في قوله : " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ؛ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ " الحديث ، رواه أحمد والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري t ( [4] ) . وَعلى هَذَا يَكُونُ الحسد عَلَى وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا أَنْ تَتَمَنَّى لِنَفْسِك مِثْلَ مَا عِنْدَ أَخِيك مِنْ أَمْرِ دِينٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ يَزُولَ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ ، وَفَاعِلُهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ ؛ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ تَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةٍ عِنْدَ أَخِيك الْمُسْلِمِ ، سَوَاءً أَرَدْت انْتِقَالَهَا إلَيْك أَوْ لَمْ تُرِدْ ؛ فَهَذَا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ . وقال ابن القيم : والفرق بين المنافسة والحسد : أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده في غيرك ، لتنافسه فيه لتلحقه أو تجاوزه ؛ فهو من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر ؛ والحسد خلق نفس ذميمة وضعيفة ، ليس فيها حرص على الخير ا.هـ ( [5] ) . ولله در القائل :
إذا أعجبتك خلالُ امرئ فكــنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك
[1]- مسلم ( 2564 ) . [2] - انظر فتح الباري : 10 ، 484 . [3]- البخاري ( 73 ، 1409 ) ، ومسلم ( 816 ) ، ورواه البخاري ( 5025 ، 7529 ) ، ومسلم ( 815 ) بنحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما . [4]- أحمد : 4 / 231 ، والترمذي ( 2325 ) وصححه . [5]- نقلا عن ( فيض القدير ) : 3 / 123 .
2 ) عدم التناجش : أصل النجش : الختل ، وهو الخداع ؛ ومنه قيل للصائد ناجش ؛ لأنه يختل الصيد ويحتال له ؛ فنهى e المسلم أن يخدع أخاه المسلم بأي صورة من صور الخداع ؛ ومنها التناجش في البيع ، وهو أن يزيد هذا على هذا وذاك على ذاك في البيع لا لرغبة في الشراء،ولكنليخدعغيرهبرفعثمنالسلعة؛ وفيه غرر للراغب فيها ، وترك النصح له الذي هو مأمور به شرعًا ؛ قَالَ النَّوَوِيُّ - رحمه الله : وَهَذَا حَرَام بِالْإِجْمَاعِ ( [1] ) . فائدة : قال السندي في حاشيته على سنن النسائي : جِيءَ بِالتَّفَاعُلِ لِأَنَّ التُّجَّار يَتَعَارَضُونَ ، فَيَفْعَل هَذَا بِصَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يُكَافِئهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ؛ فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَفْعَلُوا مُعَارَضَةً ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَفْعَل بَدْءًا ، وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .ا.هـ .
3 ) عدم التباغض : قال e: " وَلَا تَبَاغَضُوا " أي : لَا يَبْغُضْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يُبَغِّضْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِلَى بَعْضٍ ؛ وقِيلَ : لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَاب الْبُغْض ، لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يُكْتَسَب اِبْتِدَاءً ؛ بمعنى أن البغض له أسباب تؤدي إليه من سوء خلق ، أو سوء معاملة ، أو نحو ذلك من أسباب البغض ؛ فلا يجوز أن يكون ذلك بين الأخوة ، لأنه مما يورث التباغض بينهم . وقيل : المعنى : لا يَبْغُضَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضًا لِغَيْرِ مَعْنًى مُوجِبٍ لِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ؛ ذلك لأن الأخوة الإيمانية تقوم على قاعدة :الحب في الله والبغض في الله؛ ولهذا أسبابه الشرعية ، فقد يبغض المسلم آخر لمعصية يراها عليه ، فإن أقلع عنها وتاب منها ، انتفت أسباب البغضة ؛وأما أن يبغض المسلم أخاه لغير سبب موجب من جهة الشرع ، فهذا مما لا يجوز ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : وَحَقِيقَة التَّبَاغُض أَنْ يَقَع بَيْنَ اِثْنَيْنِ ، وَقَدْ يُطْلَق إِذَا كَانَ مِنْ أَحَدهمَا ؛ وَالْمَذْمُوم مِنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْر اللَّه تَعَالَى ، فَإِنَّهُ وَاجِب فِيهِ ، وَيُثَاب فَاعِله لِتَعْظِيمِ حَقّ اللَّهِ.ا.هـ ( [1] ) . روى أحمد والترمذي عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ ؛ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ ، لَا أَقُولُ : تَحْلِقُ الشَّعْرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ؛ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " ؛ ورواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة ([2]). أَيْ : الْبَغْضَاءُ تَذْهَبُ بِالدِّينِ كَالْمُوسَى يَذْهَبُ بِالشَّعْرِ ؛ وإنما كانت البغضة حالقة للدين ، لأنها تبعث على الغيبة ، وستر المحاسن وإظهارالمساوئ ، وربما آلت إلى أكثر من ذلك ؛ ولا معصوم إلا من عصمه الله تعالى ( [3] ) . فائدة : قال أبو عمر ابن عبد البر : قوله : " وَلَا تَبَاغَضُوا " نهيٌ معناه الندب إلى رياضة النفس على التحاب ، لأن المحبة والبغضة لا يكاد المرء يغلب فيهما نفسه ، لقول الله تعالى : ] لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ [ لأنفال : 63 ] ؛ وقال رسول الله e : " الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ " ( [4] ) .
[1] - انظر فتح الباري : 10 / 483 . [2] - أحمد : 1 / 167 ، والترمذي ( 2510 ) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ، ورواه البخاري في الأدب المفرد ( 260 ) عن أبي هريرة ، وحسنه الألباني لغيره في ( صحيح الأدب ) ، وهو كما قال . [3] - انظر ( الاستذكار ) : 8 / 288 . [4] - انظر ( الاستذكار ) : 8 / 288 ، بتصرف يسير .
4 ) عدم التدابر : قال e : " وَلَا تَدَابَرُوا " أي : لا تقاطعوا ؛ والمقاطعة : ترك الحقوق الواجبة بين الناس ؛ وتكون عامة ، وتكون خاصة ؛وقيل : لايعطى كل منكم أخاه دبره ، ويلقاه فيعرض عنه ويهجره ؛ فنهى عن التدابر ليقبل كل بوجهه إلى وجه أخيه ؛ لأن المدابرة رد كل واحد دبره إلى أخيه وهو التولي المنهي عنه ، المؤدي إلى القطيعة ؛ وقَالَ مَالِك - رحمه الله : لَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ ، فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ ( [1] ) ؛ ونقل ابن حجر عن ابْن عَبْدِ الْبَرِّ قال : قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ : مُدَابَرَة ، لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ أَعْرَضَ ، وَمَنْ أَعْرَضَ وَلَّى دُبُره ، وَالْمُحِبّ بِالْعَكْسِ( [2] ) ؛ وقال ابن العربي في ( عارضة الأحوذي ) : التدابر أن يولي كل منها صاحبه دبره ؛ محسوسًا بالأبدان ، أو معقولًا بالعقائد والآراء والأقوال .ا.هـ . والعلم عند الله تعالى .
7 ) تحريم دم المسلم وعرضه وماله ؛ قال e : " كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ " أي : إراقة دمه بغير وجه حق ، " وَمَالُهُ " أي : أخذ ماله بغير رضا منه ، كنحو غصب أو سرقة ، ونحو ذلك ؛ " وَعِرْضُهُ " أي : هتك عرضه بلا استحقاق ؛ والْعِرْضُ : مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنْ الْإِنْسَانِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي سَلَفِهِ أَوْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرُهُ ؛ وَقِيلَ : هُوَ جَانِبُهُ الَّذِي يَصُونُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَحَسَبِهِ ، وَيُحَامِي عَنْهُ أَنْ يُنْتَقَصَ وَيُثْلَبَ . وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة معروفة من الدين بالضرورة ؛ وجعلها كل المسلم وحقيقته لشدة اضطراره إليها ، فالدم فيه حياته ؛ ومادته المال ، فهو ماء الحياة الدنيا ؛ والعرض به قيام صورته المعنوية ؛ واقتصر عليها لأن ما سواها فرع عنها وراجع إليها ؛ لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية فلا حاجة لغيرهما ، وقيامهما إنما هو بتلك الثلاثة ( [1] ) .
ومن الآداب التي تدل على التآلف والرحمة والصلة بين المسلمين الأحياء منهم والميتين : الدعاء ؛ قال تعالى : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ [ الحشر:10 ]. فتبين هذه الآية الكريمة أن آصرة الأخوة الإيمانية تمتد عبر القرون ، ولا تختص بالأحياء فقط ، إنما يبقى بينهم التواصل بين السابق واللاحق بهذا الدعاء الجميل : ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [ ؛ روى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص t قال : الناس على ثلاث منازل ، فمضت منهم اثنتان ، وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : ] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الآية [ الحشر : 8 ] ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون ، وهذه منزلة ، وقد مضت ، ثم قرأ : ] وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ الآية [ الحشر : 9 ] ، ثم قال : هؤلاء الأنصار ، وهذه منزلة ، وقد مضت ؛ ثم قرأ : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [ الآية ، قال : فقد مضت هاتان المنزلتان ، وبقيت هذه المنزلة ؛ فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت( [1] ) . وروى ابن أبي شيبة عن مجمع قال : دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج ، فقال [ أي الحجاج ] لجلسائه : إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ، فهذا عندكم - يعني عبد الرحمن بن أبي ليلى ؛ فقال عبد الرحمن : معاذ الله - أيها الأمير - أن أكون أسب عثمان ، إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله ؛ قال الله : ] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ قال : فكان عثمان منهم ؛ ثم قال : ] وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ فكان أبي منهم ؛ ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [ فكنتُ منهم ؛ قال : صدقت ( [2] ) . وروى أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن علي بن الحسين قال : أتاني نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان y ، فلما فرغوا قال لهم علي بن الحسين : ألا تخبرونني ؟ أنتم المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ؟! قالوا : لا ، قال : فأنتم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ؟! قالوا : لا ؛ قال : أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين ؛ ثم قال : أشهد أنكم لستم من الذين قال الله U : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ ؛ اخرجوا فعل الله بكم ( [3] ) . هكذا عاش المسلمون يدعون لمن سبق إلى الإيمان ، كما يدعون أيضًا للأحياء من المسلمين ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء t قال : قال رسول الله e : " دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ : الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ " ( [4] ) . قال النووي - رحمه الله : " بِظَهْرِ الْغَيْبِ " أي : في غيبة المدعو له ،أوفيسره، لأنه أبلغ في الإخلاص ؛ وفي هذا فضل الدعاء لأخيه بظهر الغيب ، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ، ولو دعا لجماعة المسلمين ، فالظاهر حصولها أيضا . وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة ؛ لأنها تستجاب ويحصل له مثلها .ا.هـ ( [5] ) .
فمن حق المسلم على المسلم إذا مرض أنيعودهمواسيًالهوداعيًالهبالشفاء؛ فقد قال e : " وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ " ، وفي الصحيحين عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t قَالَ : أَمَرَنَا النَّبِيُّ e بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ : أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ ، وَرَدِّ السَّلَامِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.. الحديث ( [1] ) . وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " أَطْعِمُوا الْجَائِعَ ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ " ( [2] ) وَالْعَانِي : الْأَسِيرُ ؛ وورد في فضل عيادة المريض أحاديث كثيرة ، منها : ما رواه الترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ : أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا " ( [3] ) ؛ وروى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ e عَنْ رَسُولِ اللهِ e قَالَ : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : " جَنَاهَا " ( [4] ) ، أي : ما يجتنى منها ، بيان لما في ذلك من الأجر والفضل . إن المريض بحاجة إلى هذه العيادة لما فيها من مواساته ، وإدخال السرور على نفسه ، وإحساسه بأن إخوانه بجواره في هذه الشدة يدعون الله تعالى أن يرفعها عنه ، ويتمنون له عاجل الشفاء مع الأجر العظيم المترتب على صبره على البلاء ؛ إنهم إخوة بعضهم من بعض .
وهذا أدب فيه مشاركة جميلة لصاحب الوليمة ، ومراعاة لحقه ، وقد أمر بها النبي e ؛ ففي الصحيحين عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا " ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : " إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ " ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : " إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ " وَفِي أُخْرَى : " مَنْ دُعِيَ إلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ"وَزَادَفِيأُخْرَى: " فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ لَهُمْ " ؛ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : " فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ " أي : فليدع لأهل الوليمة بالمغفرة والبركة ونحو ذلك ؛ وَفي الصحيحينِ قَالَ نافع : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ ؛ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ : " إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ " وَلِابْنِ مَاجَهْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " مَنْ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ " الْحَدِيثَ ( [1] ) . فمن هذه النصوص ذهب جمهور العلماء إلى أن إجابة دعوة وليمة النكاح واجبة ، وقالوا : الوليمة طعام العرس ؛ ويوجبون الأكل فيها على من لم يكن صائمًا إن كان الطعام طيبًا ، ولم يكن في الدعوة منكر ؛ وأما إن كان صائمًا فليدع لصاحب الوليمة بالبركة والمغفرة ونحو ذلك ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا ، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا ؛ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ "([2]). وفي قوله e : " وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بيان في تأكيد إيجاب إتيان الوليمة ، والعلم عند الله تعالى . وأما غير وليمة العرس من الدعوات فيراه جمهور العلماء حسنًا من باب الألفة وحسن الصحبة ؛ لما في إجابة دعوة الداعي من الألفة ومشاركة الإخوة فيما يحبون ؛ وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوب إجابة الداعي في العرس وغيره ، لعموم قوله e : ´ مَنْ دُعِيَ إلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ" ؛ قال ابن عبد البر - رحمه الله : وعلى كل حال فإجابة دعوة الداعي إلى الطعام حسنة مندوب إليها مرغوب فيها ؛ هذا أقل أحوالها إلا أن يكون فيها من المناكر المحرمة ما يمنع من شهودها .ا.هـ ( [3] ) .
[1]- حديث ابن عمر : رواه البخاري ( 5173 ، 5179 ) ، ومسلم ( 1429 ) ؛ وحديث أبي هريرة : رواه مسلم ( 1431 ) ، وحديث جابر : رواه مسلم ( 1430 ) ، وابن ماجة ( 1751 ) . [2]- مسلم ( 1432 ) . [3]- انظر ( الاستذكار ) لابن عبد البر : 5 / 531 ؛ وانظر - أيضًا - فتح الباري : 9 / 247 ، وشرح النووي على مسلم : 9 / 234 ، 235 .
التشميت بالسين والشين ، ومعناه بالمهملة ( سمَّت ) من السمت ، وهو القصد والطريق القويم ، وقيل : هو دعاء له بحسن السمت ، فإن الأعضاء عند ذلك يحصل فيها تغيير ؛ ومعناه بالمعجمة ( شمَّت ) من التشميت وهو التبرك ، تقول : شمتَهُ إذا دعا له بالبركة ، وقيل : دعاء له أن يصرف الله عنه ما يُشْمت به أعداءه ([1]) . والتشميت مقيد بحمد العاطس لله تعالى ، فإن لم يحمد فلا يُشمت ؛ روى الجماعة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ e فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا ، وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ ؛ فَقِيلَ لَهُ ، فَقَالَ : " هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَهَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ " ( [2] ) ؛ وروى أحمد والبخاري والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ ؛ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ ، فَإِذَا قَالَ : هَا ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ " ( [3] ) ؛ وروى أحمد والبخاري وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، فَإِذَا قَالَ لَهُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، فَلْيَقُلْ : يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ " ( [4] ) . إنه أدب راق فيه دعاء متبادل بين الإخوة كل فيما يناسبه ؛ فالعاطس يناسبه الرحمة ، والمشمِّت يناسبه الهداية وصلاح الحال ؛ وهذا دعاء دائم بين المسلمين ، فيكون لكل أحد : دعاء بالرحمة مرة بعد حمده إذا عطس ، ويكون له - أيضًا - دعاء بالهداية وصلاح الحال إذا شمَّت عاطسًا .
[1] - انظر لسان العرب باب التاء فصل الشين ؛ وتهذيب الأسماء واللغات : 3 / 154 ، 155 ( سمت ) ، وفتح الباري : 10 / 617 . [2] - أحمد : 3 / 176، والبخاري ( 6221 ، 6225 ) ، ومسلم ( 2991 ) ، وأبو داود ( 5039 ) ، والترمذي ( 2742 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 222 ) ، وابن ماجة ( 3713 ) . [3] - أحمد : 2 / 428 ، والبخاري ( 3289 ، 6223 ، 6226 ) ، والترمذي ( 2747 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 214 : 216 ) . [4] - أحمد : 2 / 353 ، والبخاري ( 6224 ) ، وأبو داود ( 5033 ) .
النصيحة كلمة يُعبَّرُ بها عن جملة هي : إرادة الخير للمَنْصوح له ، وليس يمكن أن يُعِّبر هذا المَعنى بِكلمةٍ واحدةٍ تَجْمَع معناه غيرها ؛ وأصل النُّصح في اللغة الخُلوص ؛ وقِيلَ : النَّصِيحَة مُشْتَقَّة مِنْ نَصَحْت الْعَسَل إِذَا صَفَّيْته ، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْل مِنْ الْغِشّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَلمِنْالْخَلْط؛وقيل:مُشْتَقَّةمِنْالنُّصْح، وَهِيَ الْخِيَاطَة بِالْمِنْصَحَةِ ، وَهِيَ الْإِبْرَة ؛ فَشَبَّهُوا فِعْل النَّاصِح فِيمَا يَتَحَرَّاهُ مِنْ صَلَاح الْمَنْصُوح لَهُ بِمَا يَسُدّهُ مِنْ خَلَل الثَّوْب ؛ وَمِنْهُ التَّوْبَة النَّصُوح ، كَأَنَّ الذَّنْب يُمَزِّق الدِّين وَالتَّوْبَة تَخِيطهُ ( [1] ) . ومعنى قول النبي e :" وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ " أي : إذا طلب منك النصيحة ، فاجتهد في إرادة الخير له، غير وانٍ في الفكرة ، ولامقصر في الإرشاد ، بل ابذل الجهد ؛ قال النووي رحمه الله : إذا طَلَبَ مِنْك النَّصِيحَة ، فَعَلَيْك أَنْ تَنْصَحهُ ، وَلَا تُدَاهِنهُ ، وَلَا تَغُشّهُ ، وَلَا تُمْسِك عَنْ بَيَان النَّصِيحَة ؛وَاللَّه أَعْلَم ([2]). وفي رواية الترمذي : " وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ " أي : يريد الخير له في حضرته ومغيبه ، فلا يتملق في حضوره ، ويغتاب في غيبته ، فإنها صفة المنافقين ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : " لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَامَّتِهِمْ " ( [3] ) .
[1]- انظر لسان العرب باب الحاء فصل النون ، والنهاية في غريب الحديث ( مادة ن ص ح ) ، وشرح مسلم للنووي : 2 / 37 ، وفتح الباري : 1 / 138 . [2]- انظر شرح مسلم : 14 / 143 . [3]- مسلم ( 55 ) .
غسل الميت ، وتكفينه ، والصلاة عليه ، واتباع جنازته ودفنه ؛ من فروض الكفاية عند جمهور العلماء ؛ ومعنى فرض الكفاية : إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الجميع ، وإذا لم يقم به الكفاية أثم الجميع . وقوله e : " وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ " أي : اتبع جنازته ، وانظر الواجب عليك فيها ، فتؤديه ؛ وفي رواية الترمذي والنسائي : " وَيَشْهَدُهُ إِذَا مَاتَ " أَيْ : يَحْضُرُ ما يمكنه من القيام بشأنه إذا مات حتى يصلى عليه ، ثم يتبعه إلى قبره ليدفنه . هذه مجمل الآداب التي يتعايش بها المسلمون ، وهناك غيرها لا يتسع المقام لذكرها ، كما لم يتسع لبسط ما تعرضنا له ، وإنما هي إشارات لذوي الفهم والعقل ؛ ونسأل الله تعالى أن ينفع بها .
خاتمة : هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه السطور ، ولابد من التنبيه على أن كل هذا الآداب إنما هي قربات إلى الله تعالى واجبة أو مستحبة ، ليعلم المسلم أن ما يربطه من أخوة الإيمان مع أخيه المسلم إنما هو مما يتقرب به إلى الله تعالى ، ومما يترتب عليه الأجور والنعيم ، وأن مخالفة ذلك إثم جزاؤه العقوبة . لقد حرص الإسلام على هذه الأخوة أشد الحرص ، لما فيها من إقامة أمة قوية تقوم بأمر ربها وتتعاون على ذلك ، وتجتمع مؤتلفةً قوةً واحدةً في رد أعدائها ودحرهم بإذن الله تعالى ؛ قال الله تعالى :] هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ [ الأنفال : 62 ، 63 ]. اللهم رد المسلمين إلى دينهم ردًّا جميلا ، وألف بين قلوبهم كما ألفت بين قلوب أوائلهم ... آمين ، وصل اللهم وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .