ذهب بعض العلماء إلى أن آخر ما نزل من القرآن آيات معينة ، وهذه الآيات التي حددوها في أوساط السور لا أواخرها ؛ وذلك نحو قوله تعالى : (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) أو قوله : (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) أو قوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) أو قوله : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل ) أو قوله : (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) ولكن الآيات التي حددوها كانت آخر ما نزل في أبواب معينة لا آخر ما نزل من القرآن على إطلاقه ؛ وتفصيل ذلك كالآتي :
توبة القاتل:
روى البخاري ومسلم والبيهقي قال سعيد بن جبير آية اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء وعبارة "ما نسخها شيء" تدل على أنها آخر ما جاء من الأحكام في باب معين ؛ وهو باب قتل النفس ، يقول ابن حجر (أي آخر ما نزل في شأن قتل المؤمن عمدا بالنسبة لآية الفرقان ) ويبدو واضحا جدا في الحديث أن أهل الكوفة قد اختلفوا في توبة القاتل لا في القرآن .
باب الربا:
روى البخاري في كتاب البيوع بباب موكل الربا قال ابن عباس آخر آية نزلت على النبي (r): (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون . واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وواضح أن المقصود أنها آخر آية في باب الربا
والملاحظ أن ابن عباس في حديث البخاري هذا قال "آخر آية" ثم ذكر أربع آيات ؛ لهذا روي أن آخر ما نزل أيضا هو الآية الرابعة "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" وهي الآية الأخيرة في الحديث عن الربا كما روى النسائي ، والطبراني وابن أبي شيبة ، وواضح أيضا أن المقصود أنها آخر آية في باب الربا
أما ما أورده الفريابي في تفسيره من أن النبي (r) عاش بعدها أحد وثمانون يوما ، أو تسع ليال كما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ؛ فالرواية الأولى عن الكلبي عن ابن صالح عن ابن عباس وهذا الطريق أوهى الطرق عن ابن عباس وهو ما يسمى عند العلماء بسلسلة الكذب ، أما الرواية الثانية التي ذكرها ابن أبي حاتم في تفسيره والواحدي في أسباب النزول ؛ فهي عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير ، وعبد الله بن لهيعة ضعيف لا يحتج به ، وقد تجنب العلماء الرواية عنه، وقال ابن معين والنسائي: ضعيف لا يحتج به وكان يحيى بن سعيد لا يراه شيئا وقال ابن مهدى: لا أحمل عن ابن لهيعة شيئا.وقال ابن معين عنه : ليس بقوى وقال يحيى بن سعيد لو رأيت ابن لهيعة فلا تحمل عنه حرفا.وقال أبو حاتم: أخبار ابن لهيعة فيها التخليط وما لا أصل له ، ويقول ابن أبى مريم: روايات ابن لهيعة رواها وجادة (أي من الدفاتر).وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: أمره مضطرب،.وقال الجوزجانى: لا نور على حديثه، ولا ينبغى أن يحتج به.وقال أبو حاتم: كان ابن لهيعة يقرأ ما يدفع إليه ، وكان يكنى أبا خريطة.؛إذ كانت له خريطة معلقة في عنقه فكان يدور بمصر.فكلما قدم قوم كان يدور عليهم، فكان إذا رأى شيخا سأله، من لقيته وعمن كتبت.فإذا وجد عنده شيئا كتب عنه ، ثم إن عطاء بن دينار – في هذا الحديث - لم يسمع من سعيد بن جبير
باب التفضيل في الرجال والنساء :
يقول السيوطي أخرج ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة قالت آخر آية نزلت هذه الآية (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل إلى آخرها) ، وقد تنبه السيوطي إلى أنها كانت آخر ما نزل في بابها، وهذا صحيح ، وتفصيل ذلك كالآتي :
- روى الترمذي والبيهقي وأحمد عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجل نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"
- ثم قالت أم سلمة للنبي (r)يا نبي الله ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون فأنزل الله عز وجل (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) كما روى الترمذي والنسائي وأحمد
- قالت أم سلمة رضي الله عنها أنها : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله عز و جل { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } كما روى الحاكم والترمذي
وهذه الآية الأخيرة كانت آخر ما نزل في هذا الباب .
باب المحرم من المأكولات :
يقول السيوطي (وفي البرهان لإمام الحرمين إن قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية من آخر ما نزل) ، وهذا فيه نظر للآتي :
- هذه الآية في سورة الأنعام المكية فلا يمكن إطلاقا أن تكون آخر ما نزل من القرآن
-لا أدري لماذا أورد السيوطي قول الجويني هنا حيث لم يزد ما كان يناقشه وهو "آخر ما نزل من القرآن " إلا تشويشا على القارئ الذي لم يطلع على قول الجويني ؛ حيث كان الجويني يناقش الخلاف بين مالك والشافعي في المحرم من المأكولات ؛ فمالك كان يرى أن القصر في قوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) قصر حقيقي ولا محرم من المأكولات إلا ما ورد في الآية ، وذهب الشافعي إلى أنه قصر إضافي والمعنى : لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم وغيره ، وقال الجويني (وهذه الآية من آخر ما نزل ولا خلاف أنها ليست منسوخة وقد تعلق مالك رحمه الله بموجبها ونزل مذهبه عليها فحرم ما اقتضت الآية تحريمه وأحل ما عداه) ثم وضح الجويني ما اعتمد عليه الشافعي من سبب النزول والسياق وبعض الأخبار ثم رجح قول الشافعي ، وبذلك يصبح قول الجويني واضحا وهو أن الآية لم ينزل بعدها في بابها ما ينسخها
الترجيح بين آية النساء وآية التوبة :-
لم يبق في الترجيح إلا موضعين هما آخر النساء وآخر التوبة وكلا الموضعين قد وردت فيه أحاديث صحيحة ، وكلا الموضعين يصلح لأن يكون آخر ما نزل من القرآن ؛ لأنهما أواخر في سورتيهما عند التلاوة ، وترتيب الآيات هو الأصل في النزول كما ذكر ابن عاشور ، ولكن اعتبار آخر النساء هو آخر ما نزل فيه نظر للآتي :
- آخر النساء كان آخر ما نزل في الميراث ، وقد روى البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي وأبو داود قال البراء بن عازب : ( آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلاَلَةِ) وهذا الحديث أورده البخاري في كتاب الفرائض"المواريث" ومسلم في كتاب الفرائض ، والبيهقي في السنن الصغرى في باب المواريث وفي السنن الكبرى في كتاب الفرائض ، والنسائي في كتاب الفرائض ، وأبو داود في كتاب الفرائض ، وتنبه السيوطي إلى أن قول البراء آخر ما نزل "يستفتونك" أي في شأن الفرائض ، وذهب الزمخشري أنها آخر ما نزل في الأحكام، وما ذهب إليه الزمخشري فيه نظر ولو قال آخر ما نزل في أحكام الميراث لكان صحيحا ، ثم إن الحديث الذي أورده الزمخشري في هذا الشأن من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهي سلسلة الكذب .
- هذه الآية نزلت في جابر بن عبد الله حين مرض كما روى مسلم وأحمد والنسائي والترمذي والبيهقي فقال له النبي : (مَا أُرَاكَ مَيِّتًا مِنْ هَذَا الْوَجَعِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِى أَخَوَاتِكَ فَبَيَّنَ فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ ) ولم يكن لجابر حينئذ ولد ولا والد وإنما كان يورث كلالة ، وأبوه قد قتل في أحد ، وله تسع أخوات ، ثم ولد له بعد ذلك عبد الرحمن وعبد الله وعقيل ومحمد
إذن الراجح هو أن آخر ما نزل هو آخر التوبة ؛ وذلك للآتي :
- هي آخر آيات في ترتيب السورة وليس في وسطها ، خلافا لبعض الآيات الأخرى التي قيل إنها آخر ما نزل وهي في أوساط السور ، كما أن هذه الآية أيضا تختلف عن آية الكلالة التي في آخر سورة النساء في أن آية الكلالة آخر آية في أحكام الميراث ، وهذه الآية ليست من آيات الأحكام ولا باب لها في الأحكام لتندرج تحته
- روى الحاكم في المستدرك وأحمد والطبراني في المعجم الكبير عن أبي بن كعب قال آخر آية نزلت :(لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة)
- يؤيد أنها آخر ما نزل ما أخرج ابن مردويه من أنها آخر القرآن بالسماء عهدا
- كأنما أراد الله تعالى بالآية الأخيرة في التوبة أن يذكر المؤمنين بصفات نبيهم العظيمة عند اقتراب موته وانقطاع صحبته ؛ فذكر أنه في غاية الشفقة عليهم وشاق وشديد على نفسه عنتهم ومشقتهم ولقاؤهم المكروه في دينهم ودنياهم حريص على سعادتهم وصلاح شأنهم كثير الرأفة والرحمة بهم .
وقد حاول العلامة الزرقاني رد كون هذه الآية آخر ما نزل بقوله (ويمكن نقضه بأنها آخر ما نزل من سورة براءة لا آخر مطلق ويؤيده ما قيل من أن هاتين الآيتين مكيتان بخلاف سائر السورة ، ولعل قوله سبحانه: "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ.....الخ " يشير إلى ذلك من حيث عدم الأمر فيه بالجهاد عند تولي الأعداء وإعراضهم) ، وقد ارتكز الزرقاني في رده على أمرين ليسا صحيحين عند الباحث هما :
الأول : وجود المكي داخل السور المدنية ؛ وهذا غير صحيح.
الثاني :نسخ آية السيف لكل ما يدعو للصفح والإعراض ونحوه تقليدا لهبة الله بن سلامة الذي ذهب إلى أن كل آية جاء فيها العفو والصفح وتخلية السبيل والإعراض عن المشركين فهي منسوخة بآية السيف ، وهذه الآيات المعنية قد بلغت مائة وأربع عشرة آية ، وهو أمر غير متصور ؛ ولهذا قال ابن الجوزي عن بن سلامة: (ومن قرأ كتاب هبة الله المفسر رأى العظائم)
أما ما ذهب إليه الزرقاني من أن هاتين الآيتين مكيتان بخلاف سائر السورة فهو قد ارتكز فيه على زعم ابن الغرس الذي ذهب إلى أن التوبة مدنية إلا آيتين "لقد جاءكم رسول" إلى آخرها ، وابن الغرس استند فيه على قول مقاتل وهو قول شاذ ؛ وفيه نظر للآتي :
- علق القرطبي على ذلك بقوله (وهذا فيه بعد لأن السورة مدنية)
- دليل مقاتل على مكية الآيتين واه جدا ؛ إذ ذهب إلى أن قوله "من أنفسكم" المخاطب به أهل مكة ، والحق أن الخطاب لكل الناس ولا يقتصر على أهل مكة أو العرب ، والمعنى : من جنسكم أي البشر ؛ لتفهموا عنه وتأتموا به ، ويفسر ذلك قوله : (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) أي إنساناً يقول ابن كثير : (أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليفقهوا عنه ويفهموا منه، لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه)
- مقاتل بن سليمان للعلماء فيه رأي كبير ؛ إذ هو كذاب كما قال النسائي وابن حبان، يقول عنه وكيع: سمعنا منه والله المستعان، وقال الجوزجانى: كان دجالا جسورا، وقال العباس بن مصعب: كان مقاتل لا يضبط الإسناد، وقال البخاري: سكتوا عنه ، وقد كان مقاتل يروى عن الضحاك بن مزاحم وهو قد ولد بعد وفاة الضحاك بأربع سنوات
- وردت أحاديث كثيرة تثبت أنها مدنية وأنها آخر آية نزلت خاصة و أن عددا قليلا من الصحابة كانوا يحفظونها عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كانت الآيتان مكيتين لكان كثير من الناس يحفظونها ويكتبونها .
- أكد ابن شهاب الزهري في كتابه "تنزيل القرآن" أن آخر ما نزل هو قوله تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )