«الله جل جلاله»

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع tafza
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

tafza

New member
إنضم
29/05/2004
المشاركات
11
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
«الله جل جلاله»


بسم الله الرحمن الرحيم;

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته;

الله: هو اسم الذَّات العليَّة، خالق الأكوان والوجود، وهو ليس إله العرب أو المسلمين وحدهم، بل هو إله النَّاس والمخلوقات أجمعين

هو الله الَّذي لا إله غيره، الباقي، الحيُّ، الَّذي لا يموت، من له ملكوت كلِّ شيء في السموات والأرض؛ من بيده تصريف شؤون الخلق، يكلؤهم برعايته، دون أن يغفل أو ينام.

هو الله الَّذي له الأسماء الحسنى والَّتي ما كُنَّا لندركها لولا أن أَطْـلَعَنا عليها في كتبه السماوية، لنعرفه بها معرفة تزيدنا منه قرباً وله حبّاً. وبعض هذه الأسماء يتعلَّق بصفات ذاته القدسية، بينما يعبِّر بعضها الآخر عن أفعاله، فإذا عرفنا مدلولات هذه الأسماء جميعاً اكتملت لنا الدائرة الَّتي يمكن أن نعيش فيها حياة إيمانية سعيدة برعاية الله الواحد الَّذي خلق كلَّ شيء فأحسن خلقه.

فالأسماء المتعلِّقة بصفاته عزَّ وجل هي الَّتي تهدي المؤمن إلى معرفة الذَّات الإلهية، من حيث الوحدانية، والحياة، والقِدم، والبقاء، والعلم، وغير ذلك من الصفات الَّتي توحي بعظمته وقوَّة سلطانه منذ الأزل.

أمَّا الأسماء الَّتي تتعلق بأفعاله عزَّ وجل فهي الَّتي يندرج تحتها كلُّ ما له علاقة بالخلق والإبداع، وما ينتج عنهما من إيجاد الأكوان والإنسان وسائر المخلوقات، والتعرُّف بالنُّظُم والأصول الَّتي أحكم الله تعالى بها هذا الخلق البديع بكلِّ جزئيَّاته، منذ بدء الخليقة وإلى ما شاء تعالى.

والله ليس كمثله شيء في كماله، وصفاته، وحقيقته وأفعاله، ومهما حاول الإنسان أن يسعى لإدراك هذه الحقيقة، فإنه سوف يبقى عاجزاً عن ذلك، قال تعالى: {...ليسَ كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيُر} (42 الشورى آيه11). وقد سئل الإمام علي (كرَّم الله وجهه): بم عرفت ربَّك؟ فقال: (عرفته بما عرَّفني به نفسه، لا يُدرَكُ بالحواس ولايُقاس بالقياس، ولا يشبه النَّاس، قريب في بعده، بعيد في قربه، فوق كلِّ شيء ولايقال تحته شيء، وأمام كلِّ شيء ولايقال خلفه شيء).

وقد ورد في الأثر: [ تفكَّروا في الخلق، ولاتفكَّروا في الخالق، فإنَّكم لاتقدرون قدره].

وفيما يلي نلقي الضوء على بعض هذه الأسماء، مسترشدين بما جاء في القرآن الكريم من توضيح لمفهومها، وبيانٍ وتفصيل لمدلولاتها.

ـ الواحد، الأحد، الفرد، الصَّمد

قال تعالى: {قُلْ هو الله أحَدٌ* الله الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ ولمْ يُولَدْ * ولمْ يَكن لهُ كُفُواً أحَدٌ} (112 الإخلاص آية1ـ4).

أخرج الإمام أحمد عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أن الوثنيين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : يامحمَّد! انسب لنا ربَّك؛ فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص.

فكانت هذه السورة توجيهاً من الله لرسوله ليعلن للناس من خلالها أنَّ الإله الَّذي يعبده ويدعوهم لعبادته هو الله الواحد الأحد الَّذي لا شريك له، ولا شبيه ولا نظير، إنْ في ذاته أو صفاته أو أفعاله.

ولفظ (أحد) في الآية أدقُّ من لفظ (واحد) لأنَّه يضيف إلى معنى (الواحد) أنَّه لا شريك له، وأنَّه متفرِّد بالألوهية؛ ممَّا يُقرُّ في القلب يقيناً بأن التوجُّه بالعبوديَّة لا يكون إلا إليه وحده، وهذا يعني استغناءه عن كلِّ ما سواه. وبذلك تتكامل عقيدة الإنسان فيستعين بالله وحده، ويهتدي بنوره، فيمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه.

وقد سُميِّت هذه السورة بسورة الإخلاص؛ لأنها مدرسة المؤمن، ينتسب إليها ليتعلَّم كيفية إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله عزَّ وجل، وحقيقة كلمة التوحيد الَّتي أمر الله تعالى رسوله الكريم بتبليغها للناس، فتلقَّفها الصحابة الكرام بإيمان وطمأنينة وثبات؛ فها هو بلالٌ الحبشي رضي الله عنه يُعذَّب ـ بسبب إسلامه ـ من قِبَلِ وثنيِّي قريش مع بدايات الدعوة في مكة، فلا يفتر لسانه عن ترديد كلمة الإخلاص، وينادي بقلب عاشـق لله: (أحَد أحد، فرد صمد). أحد أحد... فلا شيء في القلب غير الله، وعظمته وخشيته، فهو المستجيب لكلِّ من يقصده، وهو المجير لكلِّ من يلوذ بحِمَاه. أحد أحد... المنفرد الخالق للأكوان، المنزَّه عن التقيُّد بالزمان أو الحاجة إلى المكان، لا شيء قبله ولا شيء بعده، ولا مثيل له ولا شريك

فكانت هذه الكلمات تعبيراً عن العشق الَّذي ملأ قلب بلال رضي الله عنه ، فأطفأ لهيب الجمرات الَّتي وضعوها على ظهره، فما كان ألم العذاب ليصرفه عن لذَّة الوصال، وحلاوة الإيمان بالله الواحد الأحد.

فالواحد الأحد هو الخالق المتفرِّد بالخلق والإيجاد، وهو الموجود الَّذي لا ينجم عن وجوده موجود مثله، وكلُّ موجود آخر إنما يستمِدُّ وجوده منه، ويستلهم حقيقته من تلك الحقيقة القدسية الأزلية الأبدية.

فهذه هي وحدانية الله الَّتي اهتدى إليها أصحاب العقول والبصائر فآمنوا بها، وضلَّ عنها بعض السذَّج الَّذين قادتهم عظمة الكون إلى الشَّك في إمكانية إيجاده من قبل مُبْدِع واحد، فاعتقدوا وآمنوا بتعدُّد الآلهة، فأخطؤوا وما أصابوا؛ لأن العظمة الإلهيَّة أجَلُّ من أن تدانيها قوَّة أو طاقة، فكلُّ ما عداها مخلوق، ولا يمكن للمخلوق أن يتساوى مع الخالق

ولو كان معه ـ سبحانه ـ آلهة تدير هذا الكون، لسعى كلٌّ منهم لاتِّخاذ مراكز في السلطة الإلهية، ولأدَّى ذلك إلى نشوب خلافات بينهم على النفوذ من شأنها أن تفسد الكون. وقد بيَّن الله عزَّ وجل هذه الحقيقة في قوله: {قُل لوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كما يَقُولُونَ إذاً لابْتَغَوا إلى ذي العَرْشِ سَبيلاً * سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً} (17 الإسراء آية 42 ـ 43). وذِكْر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتَّسامي والسيطرة على جميع القوى الفاعلة في هذا الكون والَّتي ظنَّها ضعاف العقول آلهة، وما هي إلا خلق من مخلوقات الله، تتَّجه إليه بفطرتها الكونية، وتخضع لإرادته الَّتي تحكمها، وتصرِّف شؤونها بالشكل الَّذي يتناسب مع ما سُخِّرت لأجله.

ومن الأدلة القرآنية الَّتي تشهد بوحدانية الله تعالى دِقَّة النظام في السموات والأرض، والمبيَّن في قوله عزَّ وجل: {لوْ كانَ فيهما آلِهَةٌ إلاَّ الله لَفَسَدَتَا..} (21 الأنبياء آية 22)، وقوله: {ما اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وما كانَ معه مِنْ إلَهٍ إِذاً لذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} (23 المؤمنون آية 91).

والله هو الصَّمد الَّذي لا يُقضى أمرٌ إلا بإذنه، فله السيادة المطلقة على هذا الكون الرحيب، الَّذي لا يعلم مداه ومحتواه إلا هو، ولا ينازعه في هذه السيادة أحد، فهو المقصود وحده بالدعوات، المجيب لأصحاب الحاجات. وصمديَّته هذه تعني استغناءه الذاتي عمَّا سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه؛ في وجودها وبقائها وسائر أحوالها. ومن تمام وحدانيته وصمديَّته أنه لم يتَّخِذ ولداً، لأن الولد لابدَّ أن يكون من جنس والده والله تعالى ليس كمثله شيء، والولد لا يكون إلا لمن له زوجة والله منزَّه عن اتِّخاذ الزوجة، والولد يكون لمن يخشى الموت والزوال فتكون الذرِّية استمراراً له وبقاءً لنوعه، أمَّا الله تعالى فهو باق لا يحول ولا يزول، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَواتِ والأَرضِ أنَّى يَكونُ لـهُ وَلَدٌ ولمْ تَكُنْ لهُ صَاحِبَـةٌ وخَلَقَ كُلَّ شـيءٍ وهو بِكُلِّ شَـيءٍ عَلِيمٌ} (6 الأنعام آية 101). وهو كذلك لم يولَد، لأن كلَّ مولود حادث والله قديم أزلي، لا والد له ولا سابق عليه، فهو الأوَّل والآخر الَّذي لا ابتداء لوجوده ولا نهاية؛ وفي هذا دحضٌ لما يفتريه المشـركون، بأن لله أولاداً أو أنداداً، قال تعالى: {وقُلِ الحَمْدُ لله الَّذِي لمْ يَتَّخِذْ ولَداً ولمْ يَكُنْ لهُ شَريكٌ في المُلْكِ ولمْ يَكُنْ لهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (17 الإسراء آية 111).

فالحمد لله الَّذي لم يتَّخِذ ولداً فَيُمْسِك نِعَمَهُ له ثمَّ يورِّثه ملكه، لأن الولد غالباً ما يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله. والحمدلله الَّذي لا شريك له في الملك، إذ لو كان له ذلك لم يُعرف أيُّهما المستحقُّ للشكر والحمد. والحمد لله الَّذي ليس له وليٌّ من الذُّل يتولاه لحاجة إليه أو دفعاً لمذلَّة عن نفسه. والحمد لله دائماً وأبداً على كلِّ ما أولانا من نِعَمٍ مهَّدت لنا طريق عبادته الخالية من الشِّرك والشريك أو الحاجة لغيره عزَّ وجل.

من هنا ينبثق المنهج الكامل للحياة المُثلى، القائم على حقيقة وحدانية الله وما تشيعه هذه الحقيقة في النفس من تصوُّرات ومشاعر وأحاسيس وأفكار واتجاهات. إنه منهج عبادة الله وحده، فلا توجُّه ولا ملاذ إلا إليه في حالتي الرغبة والرهبة، في السـرَّاء والضرَّاء. إنه منهج العمل ابتغاء مرضاة الله والقرب منه، والتطلُّع للخلاص من الحواجز المعوِّقة والشوائب المضلِّلة عن طريقه، والسبيل الَّذي يربط بين قلب المؤمن وبين خلق الله برباط الحبِّ والأنس والتَّعاطف.

من أجل هذا كلِّه، ركَّزت الدعوة الإسلامية منذ بدايتها على إقرار حقيقة التوحيد عقيدةً في الجَنان، ومنهجاً للحياة، وتفسيراً للوجود عميق الارتباط بسائر فعاليَّات الإنسان


الحيُّ، القيُّوم:

قال تعالى: {الله لا إِلَهَ إِلاَّ هو الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ..} (2 البقرة آية 255).

أمَّا الحي: فهو اتِّصافه عزَّ وجل بالحياة الأزلية الخالدة، الَّتي لا بداية لها ولا نهاية؛ فهي مطلقة مجرَّدة عن معنى الزمان الملازم لحياة الخلائق، ومنزَّهة عن الخصائص الَّتي ألِفها الناس في حياتهم.

وأمَّا القيُّوم: فيعني أن قيام كلِّ شيء في الوجود مرهون بإرادته عزَّوجل وتدبيره وقدرته، فهو وحده القائم بتصريف أمور عباده، يرعاهم ويحفظهم ويرزقهم، ويُوجد لهم أسباب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو المُحْكِمُ قبضته على هذا الوجود بكليَّاته وجزئيَّاته، قال تعالى: {إنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأَرضَ أنْ تَزُولا وَلَئِن زالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كان حَلِيماً غَفُوراً} (35 فاطر آية 41). وحين يحاول الإنسان تصوُّر هذه الحقيقة، ويَسْبَحُ خياله متفكِّراً فيما لا يُحصى من الجزئيات المحيطة به ينتابه شعور الخشية والخشوع، عندما يكتشف أن أدقَّ ذرَّات هذا الكون مستمرة في حركة دؤوب متناهيةالدقَّة؛ ويستحيل استمرارها من غير دوام المراقبة والسيطرة الإلهيَّة عليها، وهذا ينطق بأنَّ الله عزَّ وجل لا تعتريه غفلة ولا يمكن أن تغلبه سِنة.

الأوَّل،الآخر، الباقي:

قال تعالى: {هو الأوَّلُ والآخِرُ...} (57الحديد آية3).

وقال أيضاً: {...كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلا وَجْهَهُ...} (28القصص آية 88).

وقال أيضاً: {كُلُّ مَن عليها فانٍ * وَيَبْقَى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ والإِكْرام} (55الرحمن آيه26-27).

إن وجود الله تعالى لا بداية له، فهو موجود منذ الأزل، لا أوَّل لوجوده كما أن وجوده غير مسبوق بعدم. ووجود الله ذاتي غير تبعي، وما من موجود إلا ويستمد وجوده من الله عزَّ وجل ؛ ويتوقف وجوده على إرادته تعالى.

فالله موجود بدليل الشعور الفطري المستقر في نفس الإنسان، الَّذي يلجأ إلى الله إذا أصابه ضرٌّ ويسأله المعونة مهما كان إيمانه وقوَّة يقينه، قال تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ الضُّرُّ دعانا لجنبهِ أوقاعداً أو قائماً...} (10يونس آيه12).

ومن أبسط الأدلَّة العقلية على وجود الله تعالى: قانون السببية، فلا بدَّ لكلِّ موجود من موجد، ولا يمكن أن ينتقل شيء من العدم إلى الوجود إلا بإيجادٍ وخالقٍ ومسببٍ للأسباب، قال تعالى: {وربُّكَ يخلُقُ مايشاء ويختار...} (28 القصص آيه 68).

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :« اللهمَّ أنت الأوَّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء». (رواه مسلم).

العليم، المحيط:

قـال تعـالى: {..واتَّقُـوا الله واعْلَمُـوا أنَّ الله بِكُـلِّ شَـيءٍ عَلِيـمٌ} (2 البقـرة آيـة 231).

وقال أيضاً: {ولله ما في السَّمَواتِ وما في الأَرضِ وكان الله بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيطاً} (4 النساء آية 126).

من أسمائه تعالى العليم المحيط: أي الَّذي يحيط علمه بجميع الكائنات والعوالم، فهو صانعهـا ومُنْشِـؤُهـا ولم تكن شـيئـاً مذكوراً. وهو الله الَّذي يعجز أي مخلوق ـ كائنـاً من كان ـ عن أن يستوعب بعضاً من علومه إلا في حدود الأسباب والإمكانات الَّتي يهيِّؤُها عزَّ وجل له. فمهما تطوَّرت علوم الإنسان وتقدمت فهي تدور في فلك الاكتشافات دون الخلق، وكلُّ ما يفعله لا يعدو كونه استقراءً واستنتاجاً لقوانين الله في الخلق. فإذا كان علماء الأرض قاطبة ـ منذ اكتشافاتهم الأولى وإلى يومنا هذا ـ لم يدركوا من علوم هذا الكون إلا النَّزْرَ اليسير، فأنَّى لهم أن يحيطوا بعلوم الله الَّتي يفوق الإلمام بها كلَّ تصوُّر وتقدير، وحتَّى لو أنهم اتَّخذوا من كلِّ أشجار الأرض أقلاماً، ومن بحارها مِدَاداً لوصفها وبيان عظمتها لنَفِد ذلك كلُّه قبل أن يفرغوا من رصدها وتدوينها؛ قال تعالى: {قُلْ لو كان البَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولوْ جِئْنَا بِمثْلهِ مَدَداً} (18 الكهف آية 109) وقال أيضاً: {ولوْ أنَّ ما في الأَرضِ مِنْ شَجرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} (31 سورة لقمان آية27). فعلوم الله عزَّ وجل المتعلِّقة بما خلق من أكوان ومَجَرَّات وعوالم مختلفة، والتَّرابط القائم بين جميع المخلوقات، أوسع وأعقد من أن تحيط بهما عقول البشر فرادى ومجتمعين، وهم مدعوُّون بالتالي لدراستهما وتتبُّعهما والاستفادة منهما.

والله عزَّ وجل عالم بالظَّاهر والباطن، وعلمه شامل للماضي والحاضر والمستقبل يحيط بجميع الكائنات في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويشمل ما نعلمه وما نجهله؛ وأقرب مثال على شموليَّة علمه يبدو واضحاً في الإنسان نفسه، الَّذي هو من خلق الله، والَّذي استطاع بواسطة عقله أن يصل إلى مستوى رفيع من العلم والخبرة أَهَّله لأن يطلق قمراً صناعياً يرصد ما يجري تحت مساره، ويصوِّره بدقَّة شديدة، ثمَّ يعيد إرسال الصور إلى المحطات الأرضية وهي في غاية الوضوح، دون أن يغيب عنه شيء من تفاصيل هذه العملية المعقَّدة. فإذا كان الأمر بالنسـبة للإنسـان المخلوق ـ على ضعفـه ـ كـذلك، فما بالك بالنسبة للخالق العظيم الَّذي خلق المجرَّات بأعدادها اللامتناهية؟! فهل يعقل أن يغيب عنه شيء ممَّا خلق؟.



وقد شاءت الحكمة الإلهية، حين أسندت الخلافة في الأرض إلى الإنسان، أن تجعله يكتشف بالتدريج، وحسب تطوُّر علمه وإمكاناته، بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية الَّتي تُعينُه على القيام بأعباء خلافته، وتركت الباب أمامه مفتوحاً ليتعلَّم ويدرك المزيد، ويستفيد من ذلك كلِّه في إعمار الأرض وبناء حضارتها الإنسانية العامة. إننا في كلِّ يوم نكتشف شيئاً جديداً؛ نشعر حياله بالفرح والسرور، ولو كُشف لنا علم كلِّ شيء منذ بدء الخليقة لما كان للحياة أيُّ معنى من معاني التطوُّر والتقدُّم. ومع ذلك فإن قدراتنا بوصفنا بشراً تنحصر في عالم المادة؛ فلا نستطيع أن نخترق حجب عالم الغيب أو نفقه كنهه، لأنه علم لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب.

فالغيب عالَمٌ رحب يحيط بنا من كلِّ جانب؛ فالذَّات الإلهية غيب... وعالم الملائكة غيب... وعالم الآخرة غيب... ونحن نؤمن بهذا العالم، ونسلِّم بوجوده، وعلمنا به ينحصر فيما أُخبرنا عنه من طريق الوحي السماوي. ويبقى بالنسبة لنا غيباً ما دمنا في عالم المادة، فإذا ما انتقلنا إلى العالم الآخر فعندها يتحول الغيب إلى مشاهدة، والإخبار إلى يقين، ونستطيع أن ندركه إدراكاً تاماً وحقيقياً.

فالله عزَّ وجل هو العليم الَّذي يعلم الغيب والشهادة {وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاَّ هُوَ..} (6 الأنعام آية 59) إلا أنه أَطلع رسله ـ الَّذين اختارهم وأيَّدهم بالمعجزات ــ على بعض أسرار الغيب في الدنيا ليكونوا منارات علمٍ، وأعلام هداية للناس، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أحَداً * إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..} (72 الجن آية 26-27).

ومهما ارتقى البشر في علومهم ودرجاتهم؛ من رسل وأنبياء وعلماء وغيرهم؛ فلن تكون تلك العلوم إلا كمثقال ذرَّة من علوم الله، ولن يستطيع أحد منهم أن يعلم شيئاً ممَّا انفرد الله تعالى بعلمه كعلم الساعة، ووقت نزول المطر ومكانه ومقداره، وعلم كلِّ ما يكنُّ في الأرحام من أوصاف وطبائع وغير ذلك من خصوصيات كلِّ نفس، وعلم المستقبل، وعلم آجال الناس، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتِح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلا الله، ثمَّ تلا: {إنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرحامِ وما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وما تَدري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (31 لقمان آية 34)».

أمَّا قوله تعالى: {..ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأرضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ في كِتَابٍ مُبِينٍ} (6 الأنعام آية 59)، ففيه دعوة لنا لنستكشف ما في البرِّ والبحر وندرك بعضاً من مظاهر عظمة الله تعالى من جهة، ونسبر أغوار الطبيعة من جهة أخرى. فورقة الشجر الَّتي لا قيمة لها في نظر الإنسان والَّتي جفَّت مياه الحياة من عروقها، وكذلك الحبَّة الَّتي دُفنت في عمق التراب واكتنَفَها الظلام، كلُّها إشارات إلى دورة الحياة الَّتي تبدأ من باطن الأرض وتعود إليها، وهذا كلُّه غيب مجهول بالنسبة للعقل الخامل النائم، وعلم للعقل المتفتِّح بنور المعرفة والإدراك. وهكذا فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم والكتب السماوية من قبله؛ ليتَّخذ الإنسان مساره الصحيح، ويتعرَّف على ما يدور حوله، ويعرف مكانه في هذا الكون البديع، فيصل بذلك إلى معرفة خالقه ومدى إحاطته بمخلوقاته، ويدرك مدى قصور عقله عن الإحاطة الشاملة بعلم الله وشهوده، ويتولَّد في سريرته الإيمان والإقرار بعظمة الخالق، فيشعر بجلاله، ويبقى حيَّ الضمير، فلا يجرؤُ على ارتكاب معصية في السرِّ أو العلن، حياءً من الله العليم الخبير، وإرضاءً لضميره الحي الَّذي وافق الفطرة وصَقَلَتْه تعاليم السماء

الخالق، البارئ، المصوِّر:

قال تعالى: {هوَ الله الخَالِقُ البَارِئ المُصَوِّرُ..} (59 الحشر آية 24).

الخالق: هو الموجد الَّذي يَدين له كلُّ ما في الكون بالوجود، وهو خالق الناس جميعاً من ذريَّة آدم عليه السلام الَّذي نفخ فيه من روحه، فكان من نسله كلُّ الناس الَّذين تفرَّقوا في الأرض أجناساً، وتشعَّبوا عروقاً وألواناً.

أمَّا البارئ: فهو اسم مرتبط باسم الخالق، لأن الخلق والبرء صفتان متصلتان والفارق بينهما يسير ودقيق. فإذا كان الخَلق هو التصميم والتقدير، فإن البرء هو التنفيذ والإخراج.

أمَّا المصوِّر: فهو الَّذي يعطي الملامح المميَّزة، والسِّـمات الخاصَّة بكلِّ شيء، وهذه صفة مرتبطة بالصفتين السابقتين.

وقد قدَّم تعالى ذكر الخالق على البارئ؛ لأنَّ تقرير الإرادة مقدَّم على تأثير القدرة. وقدَّم البارئ على المصوِّر؛ لأنَّ إيجاد الذَّوات مقدَّم على إيجاد الصفات.

السميع البصير:

قال تعالى: { قَد سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتي تُجادِلكَ في زَوجِها وتَشْتكي إلى الله، والله يَسْمعُ تحاورَكما إن الله سميع بصير } ( 58 المجادلة آية 1).

وقال أيضاً: { قال لا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وأَرى} (20 طه آية 46).

السمع والبصر صفتان قائمتان في ذاته تعالى، يتأتى منهما كونه سميعاً، بصيراً. فهو الله عزَّ وجل مهيمن على سائر مخلوقاته، يرصد أقوالهم وأفعالهم، أحاسيسهم ومشاعرهم، نيّاتهم وأعمالهم، لا يشرد عنها ولا يغفل، قال تعالى: {ولكلٍّ درجاتٌ ممَّا عَمِلوا وما رَبُّكَ بِغافلٍ عمَّا يَعْمَلون} ( 6 الانعام آية 132). هذه الهيمنة لا حدود لها في قدرة الله تعالى وعظمته وهو القائل: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَميعاً قَبضَتُهُ يَومَ الِقيامةِ والسَّمواتُ مَطويَّاتٌ بِيمَينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (39 الزمر آية 67).

هذا الخالق الكريم أعطى الإنسان البصر والسمع حيث قال تعالى: { أَلمْ نَجعلْ لَّه عَينين * ولساناً وشفتيِن} (90 البلد آية 8 - 9 )، وقال أيضا: {قُلْ هُو الَّذي أَنشأَكمُ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصارَ والأفئِدةَ قليلاً ما تَشكُرون} (67 الملك آية 23).

ولو عدنا إلى المراجع العلمية لدهشنا من مكونات العين وملايين المرايا العاكسة الَّتي تتكوَّن منها ليتهيَّأ لنا الإبصار، وملايين الأعصاب الَّتي تحرِّك سمع الأذن لتتمكَّن من السمع. وربط تعالى هذا الخلق المادي بوشائج نورانية تنبع من الفؤاد الروحي، الَّذي يتيح لنا سمعاً مادياً وروحياً، وإِبصاراً ممزوجاً ببصيرة، وفهماً عن الله في مراده، قال تعالى: {أفلَمْ يَسيروا في الأَرضِ فَتكونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُون بها أَو آذانٌ يَسْـمعونَ بِها فإنَّها لا تَعْمَى الأبصارُ وَلَكن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصدورِ} ( 22 الحج آية 46). فإذا كانت صفة السمع والبصر عند الإنسان وعند غيره من المخلوقات بهذه الدِّقة، فما بالك بالسمع والبصر عند الخالق العظيم!! ولذلك فقد وصف الله تعالى نفسه بالسميع، البصير، بصيغة مُبالغة تأكيداً على أنَّ هذه الصفة عند الخالق هي أعظم منها بكثيرٍ عند غيره من المخلوقات.

القدير، المحيي، المميت، الباعث:

قال تعالى: {..بِيَدكَ الخَيرُ إنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ..} (3 آل عمران آية 26ـ27).

وقال أيضاً: {أوَ لَيْسَ الَّذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ بقادِرٍ على أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (36 يس آية 81).

وقال أيضاً: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجمَعُكُم إلى يومِ القيامةِ لا ريبَ فيهِ ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعْلَمُون} (45 الجاثية آية 26).

وقال أيضاً: {ذلك بأنَّ الله هو الحقُّ وأنَّه يُحيي الموتى وأنَّه على كلِّ شيءٍ قدير * وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها وأنَّ الله يبعثُ مَنْ في القبور} (22 الحج آية 6ـ7).

إن القلب المنوَّر يكاد يبصر قدرة الله تُحرِّك الأفلاك، وتُسيِّر الكرة المعتمة حول الكرة المضيئة، وتَقْلِبُ مواضع الظلمة ضياءً شيئاً فشيئاً، حتى يتحوَّل ظلام الليل إلى وضاءة النهار، ويتنفَّس الصبح متحرِّراً من السكون والخمود. إنها حركة لا يمكن لإنسان عاقل أن يدَّعي أنها تمضي مصادفة من غير أن تضبطها قدرة مهيمنة لامتناهية.

وإنَّ من خصائص الألوهيَّة المتَّصفة بهذه القدرة إيجاد الحياة من العدم؛ فالزرع يخرج من الحَبِّ، والحَبُّ يكمن في لبِّ الزرع، والطائر ينقف البيضة متلمِّساً الطريق يرى نور الحياة، والبيضة تنحدر من الطائر لتعيد دورة الحياة! وكذلك الموت والحياة؛ فعلى الرُّغم من أنهما قطبان متنافران فإن أحدهما يكمن في طيَّات الآخر، ففي كلِّ لحظة تمرُّ على الكائن الحي، يقترب منه الموت بمقدارٍ مساوٍ لتلك اللحظة الَّتي يعيشها، فالموت يأكل من عمره، والحياة ترسي في نسيجه خلايا جديدة، وهكذا.. خلايا تموت، وخلايا تتوالد في كيان كلِّ الأحياء، إلى أن يموت الكائن الحي، وتتحول خلاياه إلى ذرات ذوات تركيب آخر، فدورة الحياة والموت مستمرة بقدرة معجزة في كلِّ لحظة من لحظات الليل والنهار.

ولقد تضمَّنت الآيات الأخيرة عنصراً هاماً من عناصر العقيدة؛ هو الإيمان بقدرة الله تعالى وحده على الإحياء والإماتة، وإعادة خلق الناس للحساب والجزاء. فهو وحده المحيي والمميت؛ يُخرج الإنسان من بطن أمه عُرياناً، لا حول له ولا قوَّة، ثمَّ يزوِّده بأسباب الحياة، ثمَّ يميته، ثمَّ يبعثه يوم القيامة حيّاً، وليس لأحد غيره عزَّ وجل سلطة أو قدرة على الإحياء والإماتة.

والآيات كذلك توجِّه الرسول صلى الله عليه وسلم وكلَّ مؤمن من بعده لدعوة الناس للإيمان بحقيقة جَليَّةٍ؛ هي أن الله عزَّ وجل هو واهب الحياة في الدنيا والمميت عند انقضاء الآجال، وأنه سيجمع الناس يوم القيامة جمعاً لا ريب فيه، لا كما يزعم بعضهم بأنهم يَحْيَوْن ويموتون بحكم الدَّهر. فإذا كان الله عزَّ وجل قد قَدِر على الخلق في المرة الأولى، فَمِنْ بابٍ أولى أنه يقدر على إعادته كرَّة أخرى، قال تعالى: {وهو الَّذي يَبْدَؤُ الخلْقَ ثمَّ يُعِيدُهُ وهو أَهْوَنُ عليه..} (30 الروم آية 27).

وهذه الحقائق تتوافق مع المنطق والعقل، فهل يُعقل أن تُوهَب الحياة لكلٍّ من الإنسان والحيوان والنبات ـ بمحض المصادفة ـ من غير واهب عظيم قادر على بثِّها وإيداعها في المخلوقات؟ تلك الحياة الَّتي هي قوَّةٌ خارقة، لا يزال العقل عاجزاً عن إدراك كنهها وأبعادها، وسيظلُّ كذلك إلى ما شاء الله. وهل يُعقل أن تُنفخ الرُّوح من قبل الفراغ، وتَؤول إلى الفراغ؟ ثمَّ هل من العدالة في شيء أن يعيش الناس على هذه الأرض، يكسِب بَرُّهم الخيرات، ويجترح آثِمُهم السيئات، ثمَّ ينتهون جميعاً إلى مصير واحد هو الفناء، دون حساب ودون ثواب أو عقاب؟؛ ويجيبنا الله تعالى بقوله: {الَّذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُم أحسنُ عملاً وهو العزيزُ الغفورُ} (67 سورة الملك آية2).

لاشكَّ أن من يعتقد بذلك يرتضي لمصيره أن يكون مساوياً لمصير الجمادات والحيوانات، خلافاً للمؤمن بالبعث والنُّشور، الَّذي يتناسب إيمانه مع الكرامة الإنسانية الَّتي ميَّزه تعالى بها في الحياة الدنيا ليكون أعظم كرامة في الآخرة.

فكلُّ شيء في هذا الكون يدلُّ على وجود الله الَّذي أقام التَّوازن والعدالة، وأحكم النُّظُم، وجعل لكلِّ أمرٍ وسيلة وغاية؛ فالحياة وسـيلة لها بداية ونهاية، والغاية منها هي العمل الجادُّ من أجل الوصول إلى الحياة الطيِّبة والعيشة الراضية في الدنيا والآخرة، في كنف ربٍّ كريم قدير.

الرَّحمن، الرَّحيم:

قـال الله تعـالى: {الـحَمْـدُ للهِ رَبِّ الـعَـالمين * الـرَّحْـمَنِ الرَّحِيم} (1 الفاتحة آيـة 2-3).

الرَّحمن الرَّحيم صفتان لله مشتقَّتان من الرَّحمة. ولكلٍّ منهما معنى معيَّن؛ فالرحمن صيغة مبالغة بمعنى عظيم الرحمة، وهو اسم عامٌّ يشمل جميع أنواع الرحمة الَّتي تعمُّ المؤمن والكافر وسائر المخلوقات، فقد روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله عزَّ وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأَخَّر تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة».

أمَّا الرحيم: فيعني دائم الرحمة، وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى: {هو الَّذي يُصلِّي عليكم وملائِكَتُهُ ليُخرِجَكُم منَ الظُّلمَات إلى النُّور وكان بالمؤمنين رحيماً} (33 الأحزاب آية 43).

وهاتان الصفتان تقرَّان في النفس شعور السرور والأمل؛ فيتعادل الخوف والرَّجاء، والفزع والطمأنينة في سريرة المؤمن، فهو يدرك أن الله تعالى عظيم الرحمة دائم الإحسان، رؤوف بعباده؛ لا يترصَّد أخطاءهم وعثراتهم ليبطش بهم بل يراقبهم ويرعاهم، ولا يريد الشرَّ بهم بل يحبُّ لهم الخير، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الأهواء والجهالة بل يهديهم ويؤيِّدهم بفضله.

وأمَّا الجمع بين وصفَيْ الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع، وهو أن (الرحمن) دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، و(الرحيم) دالٌّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنَّ الأوَّل الوصف والثاني الفعل، فالأوَّل دالٌّ على أن الرحمة صفةُ ذاتٍ له سبحانه، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته؛ أي أنه صفة فعل له سبحانه؛ فقد كثر في القرآن الكريم وصف الله تعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ولم يَرِد فيه بأن الله رحمن بالمؤمنين.

المَلِكُ، القُدُّوس، السَّلام، المؤمن، المهيمن:

قال الله تعالى: {هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هوَ المَلِكُ القدُّوس السَّلام المؤمن المهيمن..} (59 الحشر آية 23).

الله تعالى هو الملك بل ملك الملوك، والمالك الواحد، وملكِـيَّته شاملة مطلقة لا حدود لها، وليس لبشر ملكـيَّة أصيلة مطلقة يتصرف فيها بمحض إرادته، وإنما ملكـيَّـة معارة على سبيل الأمانة، خاضعة لشروط المالك الأصلي وتعليماته، فإذا تصرَّف المُعار تصرُّفاً مخالفاً لشرط المالك عرَّض نفسه للعقوبة، وأُخذت منه العاريَّة، وأُسندت لمن يستحقُّها.

وهذا يعني أن الإنسان مُستخلَف في الأرض على ملك ربِّه، وإيمانُه بأنه لا يملك من الأمر شيئاً كفيلٌ بأن يزرع في نفسه القناعة والرضا بما يحصِّلُ من الرزق، ويضفي على قلبه سكينة وطمأنينة تحفظانه من التعلُّق المُفْرط بعاريَّة مسترَدَّة عمَّا قريب.

وهو تعالى المالك لكلِّ مصادر الطاقة والقوَّة في هذا الكون، يُودعها حسب إرادته وتقديره، ويحجبها وفقاً لهذا التقدير، قال تعالى: {قُلِ اللَّهمَّ مَالِك المُلْك تؤْتِي المُلْكَ مَن تشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ ممَّنْ تشاء..} (3 آل عمران آية 26).

أمَّا القدُّوس: فهو الطاهر من كلِّ عيب، المنزَّه عن كلِّ نقص. فهو اسمٌ يُشِعُّ بالقداسة المطلقة، ويلقي في ضمير المؤمن إشعاعاً يطهِّر قلبه ليصبح صالحاً لتلقِّي فيوض الملك القدُّوس، والتسبيح له والتقديس لجلاله. وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: (سُبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والروح).

والسَّلام: صاحب السلامة من كلِّ نقص فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو واهب السلام لخلقه. فهذا الاسم يسكب السَّكينة والطُّمأنينة في قلب المؤمن ويغمر جنبات الوجود، وإذا ما تفكَّر القلب به فإنه يؤوب بالراحة النفسية بعد أن سكن إليه، وجنح إلى الموادعة والمسالمة مع الوجود كلِّه بما فيه من إنسان ونبات وحيوان؛ فالكلُّ آمن في جوار الله، سالم في كنفه.

والمؤمن: هو واهب الأمن والإيمان، وعندما يتَّصف القلب بهذه الصفة حقَّ الاتصاف يتَّصل بالله، ويرتفع ويسمو فوق الأهواء والرغبات.

أمَّا المهيمن: فهو الرقيب على أعمال عباده، والحافظ لكلِّ شيء في الكون. وهو الَّذي خلق السَّموات والأرض ثمَّ استوى على عرشه استواء الهيمنة والاستعلاء. وهذه الصفة تتعلق بذات الله فهي فاعلة في الكون موحية بالرقابة والسُّلطان.

النور:

قال الله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمواتِ والأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيها مِصباحٌ المِصْباحُ في زُجَاجةٍ الزُّجاجةُ كأنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌ يُوقَدُ مِن شَجرةٍ مُباركةٍ زَيتُونةٍ لا شرقيَّةٍ ولا غربيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لم تمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ علَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ للنَّاسِ واللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيْم} (24 النور آية 35).

الله نور السموات والأرض؛ ولنوره حلاوة تتحسَّسها الأرواح، وتنشرح لها الصدور، ولا يمكن للعين أن تدركه، لأنه ذو طبيعة خاصَّة، لا تستشفُّها إلا عين القلب، لأن القلب مسكن حبِّ الرحمن ومعرفته!! ولا يمكن الاهتداء إلى هذا النور إلا بتزكية النفس وتطهير الروح، وصقل مرآة القلب لينعكس عليها جمال الأنوار الإلهية، كما ينعكس ضوء القمر على صفحة الغدير الساكن.

والآية الكريمة تثير الإحساس الروحي لكي يتطلَّع المؤمن إلى الأفق الواسع، ويستشرف الحقيقة في آفاق السَّموات والأرض، ويتهيَّأ لتلقِّي الفيض الإلهي في عالَمٍ ملؤه الإشراق والنور. وما يكاد اسم الله يتجلَّى من خلال كلمات هذه الآية حتى يفيض النور ويغمر الكون كلَّه، فيغرِقه في جلاله الباهر، ثمَّ ينسكب في الحنايا والجوانح، ويظهر على المشاعر والجوارح، فتعانقه العيون وتدركه البصائر، وتنزاح الحجب، وتشفُّ القلـوب، وترفرف الأرواح، فـإذا الكون كلُّه ـ بما فيه ومن فيه ـ نور طليق من القيود والحدود؛ تتَّصل فيه السموات بالأرض، والأحياء بالجمادات، والبعيد بالقريب، وتلتقي الطوايا والظواهر، والحنايا والقلوب المغمورة بالنور الَّذي يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها.

وقد استطاع البشر مؤخَّراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الجليلة، عندما تحوَّل ما كان في أيديهم من المادَّة ـ بعد تحطيم الذرة ـ إلى إشعاعات منطلقة قوامها النور؛ فذرَّة المادَّة مؤلَّفة من كهارب وإلكترونات، تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع من النور. وقد أدركت قلوب الأنبياء والرسل هذه الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون، كما أدركها قلب الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم كاملة شاملة ففاض بها فؤاده وهو عائد من الطائف، نافضاً كفَّيه من الناس، لائذاً بربِّه، قائلاً: «أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقت به الظُّلمات وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة» (أخرجه الطبراني عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما).ونتيجة لإيمانه وحبِّه لله تعالى ـ مصدر النور وناشـره في الوجـود ـ كان دائم التوجُّه إليه، ليستمدَّ من ذلك النور ولينعكس عليه أكبر قسط منه، فيردِّد في مناجاته هذا الدُّعاء: «اللهمَّ اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأَعْظِمْ لي نورا» (رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما).

إلا أن الكيان البشـري ـ بطبيعة تركيبه ـ لا يقوى طويلاً على تلقِّي ذلك الفيض الغامر من النور، ولا يستشرف ذلك الأفق البعيد دون أن يَكِلَّ نظره ويرتدَّ طَرْفه حسيراً، لذلك نرى الآية القرآنية قد أوضحت هذا الأفق المترامي، ثمَّ عادت تقاربُ بين أبعاده، وتقرِّبه إلى الإدراك البشري المحدود في مَـثَلٍ قريب محسوس؛ فتنتقل من آفاق السموات والأرض إلى المشـكاة، وهي كوَّة صغيرة في الجدار غير نافذة من الخلف، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه وتوجِّهه باتِّجاه واحد، فيبدو قوياً باهراً. وهذا المصباح في زجاجة وهَّاجة تقيه العوامل الخارجية، وتصفِّي نوره، فيزداد تألُّقاً، وهي في ذاتها شفَّافة، رائعة، سنيَّة، منيرة. ثمَّ تربط الآية بين المثَل والحقيقة، بين النموذج والأصل، فترتقي من الزُّجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، كي لا ينحصر التأمُّل في النموذج الصغير، الَّذي ذُكر لتقريب صورة الأصل الكبير فحسب، ومن المصباح إلى زيته الَّذي منه يقتات؛ إنه زيت الزيتون الَّذي أثمرته الشجرة المباركة المعمِّرة النافعة، وهو أصفى الزيوت، ونوره أبهى الأنوار، لأنه يتمتع بشفافية ذاتيَّة وإشراق ذاتي، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق. وتلك الشجرة المباركة تنتصب في مكانٍ، لا شرقيٍ ولا غربيٍ، فالشمس ترسل إليها النور، والحرارة تأتيها من كلِّ اتجاه، ولا تنحجب عنها طوال ساعات النهار.

وبذلك يتجلَّى لنا ذلك النور العميق الطليق؛ إنه نور مترادف متضاعف، اجتمعت على إطلاقه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبقَ شيء ممَّا يُقَوِّي النور ويزيده إشراقاً ويمدُّه إضاءة إلا وقد أسهم في إذكائه وتأجُّجه.. وكذلك هي براهين الله واضحة، مترابطة، يؤيِّد بعضها بعضاً؛ كالدلائل المعجزة وتتابع الرسل وإنزال الكتب، حتى لا يبقى في القلب مكان للشَّك أو الريبة في حقيقتها.

والله يهدي لنوره من يفتحون قلوبهم لتلقِّي هذا النور الفائض في السموات والأرض، والَّذي لا ينقطع ولا يحتبس ولا يخبو، فحيثما توجَّه إليه القلب رآه، وحيثما تطلَّع إليه الحائر هداه، وأنَّى اتَّصل به وجد ظلالاً من جلال الله تعالى وجماله. والمثل الَّذي ضربه الله لنوره ما هو إلا وسيلة لتقريبه إلى المدارك، فنور الله تعالى ينعكس ويتجلَّى في السموات والأرض والإنسان، وتظهر آثاره متميِّزة في الإنسان المؤمن أكثر ممَّا تظهر في السموات والأرض؛ وذلك لأن قلبه المنوَّر يصلُح لأن يكون موضع النظر الربَّاني، ويتشرَّف بأن يعمره ويسكنه الحبُّ الإلهي، وبهذه الميزة نال الكرامة عند الله دون سائر المخلوقات، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «لم يَسعْني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن اللّين الوادع». (رواه الإمام أحمد في الزهد، عن وهب بن منبِّه).

الهادي:

قال تعالى: {..وكفى بربِّك هادياً ونصيراً} (25 الفرقان آية31).

وقال أيضاً: {ويزيد الله الَّذين اهتَدَوْا هدى..} (19 مريم آية 76).

الهادي: هو الَّذي أعطى كلَّ شيء خلْقه ثمَّ هدى، فمنح كلَّ شيء صورته وشكله الَّذي يليق به ويطابق المنفعة المنوطة به، فأعطى العين الهيئة الَّتي تطابق الإبصار، وأعطى الأذن الشكل الَّذي يوافق الاستماع، ثمَّ هدى المخلوقات إلى طرق الانتفاع بالأشياء الَّتي خلقها لهم؛ إمَّا اختياراً كالإنسان، وإمَّا غريزة وطبعاً كالحيوان وغيره.

فالله هو الَّذي هدى النحلة إلى الزهور، وهدى الرياح إلى السحاب، وهدى الطير إلى الهواء، وهدى السمك إلى الماء، وهدى الأنعام إلى مراعيها... أمَّا الإنسان فقد هداه إلى نوعين من الهداية؛ لكونه مخلوقاً عاقلاً ومفكِّراً، وخليفة لله في أرضه.

فالهداية الأولى: هداية مباشرة، وهي هداية الإنسان إلى طرق الانتفاع بما أودع في مخلوقاته، وبموجب هذه الهداية استطاع الإنسان ـ عن طريق العلم والعقل ـ أن يستخرج الأدوية والعقاقير النافعة من النبات، وتمكَّن من استخراج المعادن واستخدامها في شتَّى ميادين التصنيع. ولولا هذه الهداية الَّتي منحها الله للإنسان لما تمكَّن من الوصول إلى ما وصل إليه من التقدُّم والمدنية في خدمة مصالح البشرية.

أمَّا الهداية الثانية: فهي هداية غير مباشرة، يمنحها الله للناس ـ عن طريق رسـله والكتب المنزلة عليهم ــ للوصول إلى الحقائق الَّتي لا تصل إليها مداركهم مهما أُوتُوا من علوم ومعارف وإمكانات، كالحقائق الَّتي تتعلَّق بالذَّات الإلهيَّة، وبالعالم الآخر أو ما وراء الطبيعة، ويُضاف إلى هذه الحقائق النظم والتشريعات السماوية الَّتي يأتي بها كلُّ نبيٍّ لتكون صالحة للزمان والمكان الَّذي يعيش فيه الإنسان، حيث أتت متمِّمة لبعضها بعضاً، وأخذت استمراريتها في إطار خاتم الرسالات؛ رسالة الإسلام.

فإرسال الرسل، وإنزال الكتب من وسائل الهداية، لئلاَّ يكون للناس حجَّة على الله بتركهم دون هادٍ ودليل. فمن اهتدى بهذه الهداية وسلك طريقها زاده الله توفيقاً وهُدىً للخير، لأن الخير يهدي إلى الخير، ومن نأى وابتعد عن طريق الهداية سيطر عليه الهوى، وتحكَّمت به قوى الشَّر والفساد من شياطين الإنس والجن لتلْقي به في ظلمة الجهل والضَّلال، وتتركه نهباً للشَّقاء والعذاب في الدنيا قبل الآخرة.

العليُّ، العظيم:

قال تعالى: {له ما في السَّمَوات وما في الأَرضِ وهوَ العليُّ العظيم} (42 الشورى آية 4).

أمَّا العليُّ: فهو البالغ في عُلُوِّ الرُّتبة والمكانة، والعليُّ فوق خلقه وإلى ما لا نهاية.

وأمَّا العظيم: فهو البالغ أقصى مراتب العظمة قَدْراً وجلالاً، فلا يتصوَّره عقل، ولا تحيط بكنهه بصيرة. وهو الكامل في ذاته وصفاته، والمتفرِّد بالكبرياء والهيمنة.

فالمؤمن بحقيقة هذين الاسمين يستشعر عظمة الله، وعلوَّ مكانته في قلبه على الدَّوام؛ فلا يرى عظيماً في الكون إلا الله، فيدين له وحده بالولاء والإخلاص، وفي حال استحضاره حقيقة اسم الله العظيم، لا يجرؤ على اقتراف ذنب نهاه عنه، مهما كان صغيراً وحقيراً، لأنَّه لا ينظر إلى صغر المعصية بل ينظر إلى عظمة من عصاه.

وقد قُرن هذان الاسمان بالتَّسبيح لله تعالى في الصلاة، فيذكرهما المؤمن في اليوم عشرات المرات، وذلك في ركوعه وسجوده؛ للحديث الوارد فيما روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «لمَّا نزلت {فَسَبِّح باسمِ ربِّكَ العظيم} (56 الواقعة آية 74) قال النبي صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم، ولمَّا نزلت {سَبِّح اسمَ ربِّكَ الأعلى} (87 الأعلى آية 1) قال النبي صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في سجودكم».

القريب، المجيب:

قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريبٌ أُجيب دعوة الدَّاعِ إذا دعانِ فَليَسْتَجِيبوا لي..} (2 البقرة آية 186).

وقال أيضاً: {..إنَّ ربِّي قريب مجيب} (11 هود آية 61).

إن الله عزَّ وجل قريب من خلقه، أي عالمٌ بأحوالهم، وسـامعٌ لأقوالهم، ومطَّلِعٌ على أعمالهم ونواياهم، ومجيبٌ لدعائهم إذا استجابوا لتعاليمه التزاماً وتنفيذاً.

فالمقصود بقرب الله، العلم والرَّقابة، وليس قرب المكان والجهة، فهو تعالى موجود في كلِّ مكان ولا يحدُّه مكان. وقربه تعالى من مخلوقاته لا يحجبه حجاب، ولا يحول دونه حائـل، بل هو أقرب إليهم مـن حبل الوريد. وبموجب هذا القرب يجيب دعاء المضطرِّين، ويلبِّي شكوى المحزونين، ويقضي حوائج المحتاجين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى حَيِيٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين» (رواه أحمد وأبو داود عن سلمان رضي الله عنه ).

وبناء على هذا فكلَّما كان الدَّاعي ملتزماً بآداب الدُّعاء، كلَّما كانت الإجابة أقرب وأسرع لقوله صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلبٍ غافل لاهٍ» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

ومن آداب الدُّعاء أن يكون بصوت معتدل كالمناجاة، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن معاوية رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريبٌ ربُّنا، فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟ فنزلت الآية الكريمة: {وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب..}.

وقد رُوي أن سبب نزول الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله بصوت مرتفع في غزوة خيبر، فقال لهم: «أيُّها الناس، أَرْبِعُوا على أنفسكم (أي ارفقوا وهوِّنوا)، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً قريباً، وهو معكم»(رواه مسلم).

الوليُّ:

قال تعالى: {أمِ اتَّخذُوا مِن دونِهِ أولياءَ فالله هو الوليُّ وهو يُحْيي الموتى وهو على كلِّ شيءٍ قدير} (42 الشورى آية 9).

وقال أيضاً: {وهو الَّذي يُنزِّلُ الغيث مِن بعد ما قَنَطُوا وينْشرُ رحمَتَه وهو الوليُّ الحميد} (42 الشورى آية 28).

الوليُّ: هو المحبُّ النَّاصر، المتولِّي أمر مخلوقاته بالإحسان إليهم في كلِّ شؤونهم، فيتولاهم برعايتـه عندما يكونون أجنَّة في أرحام أمهاتهم، ويتعهَّدهم بالغذاء والنُّمُو؛ سواء من حيث نُمُوُّ الخلايا والأجهزة والأعصاب، أو من حيث نموُّ المواهب والقدرات المعرفيَّة والعقلية. ثمَّ يتولاهم بعد مجيئهم إلى الدُّنيا، فيُهَيءُ لهم أسباب رزقهم بدءاً من نزول الغيث، ومروراً بإنبات الزرع، وانتهاءً بجني الثِّمار.

فالله عزَّ وجل هو المتولِّي أمور عباده وشؤون حياتهم، وهذا من النَّاحية المعيشية، أمَّا من النَّاحية المعنويَّة والنفسية فالناس في ذلك فريقان: فريق مؤمن، وفريق ظالم لنفسه ولغيره. وقد قال تعالى في حق الفريقين: {الله وليُّ الَّذين آمنوا يُخرجُهُم من الظُّلماتِ إلى النُّور والَّذين كفروا أولياؤُهُمُ الطَّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النُّور إلى الظُّلمات..} (2 البقرة آية 257).

فالمؤمنون ينعمون بنعمة ولاية الله لهم في الدنيا والآخرة، ويشعرون بالسَّعادة والاستقرار النفسي والاجتماعي، لأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لا خوف عليهم في المستقبل لأنَّهم استقاموا في حاضرهم وماضيهم، ومن صحَّت بدايته صحَّت نهايته، ولا هم يحزنون على ما فاتهم وما أصابهم لأنَّهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويحتسبون الأجر عند الله عزَّ وجل.

أمَّا الظَّالمون فيُحْرَمون من ولايته تعالى في الدنيا، لأنهم اتَّخذوا الشَّيطان وليَّهم والهوى سلطانهم، فأسرفوا في الفساد والإساءة لأنفسهم، ممَّا جعلهم يشعرون بالتِّيه والضَّياع، وصار شبح القلق والخوف من المستقبل المرير يطاردهم، وهذا حالهم في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فشأنهم كما قال تعالى: {..والظَّالمون ما لهم منْ وليٍّ ولا نصير} (42 الشورى آية 8) فما من أحد يستطيع أن يخلِّصهم أو أن يرفع عنهم جزءاً من العذاب الَّذي يذوقونه جزاءً على ظلمهم.

الوكيل:

قال تعالى: {الله خالقُ كُلِّ شيءٍ وهو على كُلِّ شيءٍ وكيل} (39 الزمر آية 62).

وقال أيضاً: {ربُّ المشرقِ والمغربِ لا إله إلاَّ هوَ فاتَّخِذْه وكيلاً} (73 المزمل آية 9).

وقال أيضاً: {..وتوكَّل على الله وكفى بالله وكيلاً} (4 النساء آية 81).

الوكيل: القائم بأمور خلقه وتسخير ما يحتاجون إليه، والموكول إليه تدبير الخلائق.

فهو (خالق كلِّ شيء) مبدع الأشياء كلِّها، وخالقها جميعها، ما وُجِدَ منها في الدنيا أو في الآخرة، وما كان منها تحت إدراكنا وحواسِّنا وما كان فوق ذلك، فهو ربُّها ومالكها، والمتصرِّف فيها والقائم بحفظها وتدبيرها.

وهو الوكيل الَّذي يكفي كلَّ من يقصده ويعتمد عليه، ويفوِّض أموره إليه، ويفرده بالتوكُّل كما أفرده بالعبادة، فعليه يتوكَّل المتوكِّلون وبه يثق الواثقون، لعلمهم بأن الكلَّ من عنده فتكون نتيجة توكُّلهم عليه هي الأمان من كلِّ أذى، والضَّمان من كلِّ سـوء، ومنحهم ما يرغبون، ودفع ما يكرهون، لأنَّ من يتوكَّل على الله فهو حسبه ونعم الوكيل.

وحقيقة معنى التوكُّل بذل الأسباب، والسعي الجادُّ وراء الوسائل الَّتي تحقِّق الغايات، مع التفويض المطلق لخالق الأسباب والمسبَّبات، من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن ناقته: أَعْقِلُها وأَتَوكَّل؟ أو أطلقها وأتوكَّل؟ فقال له: «أعقلها ثمَّ توكَّل» (أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه ).

وكذلك ما جاء فيما أخرجه البخاري من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو توكَّلتم على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً» (تغدو خماصاً: أي تغادر أعشاشها صباحاً وهي جائعة، تروح بطاناً: أي ترجع مساءً وهي مليئة البطون شبعى)، فدَلَّ على أن التوكُّل الحقيقي هو الثِّقة التامَّة بالله والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه في كلِّ شأن، والتسليم بأن قضاءه نافذ لا محالة، مع الاجتهاد في تلمُّس أسباب المعيشة والرزق.

الرزَّاق، الوهَّاب، الكريم:

قال تعالى: {إنَّ الله هو الرزَّاقُ ذو القوَّةِ المتين} (51 الذاريات آية 58).

وقال أيضاً: {أمْ عندهم خزائنُ رحمةِ ربِّك العزيز الوهَّاب} (38 ص آية 9).

وقال أيضاً: {ياأيُّها الإنْسانُ ما غرَّك بربِّك الكريم} (82 الانفطار آية 6).

الله عزَّ وجل هو الرزَّاق، خلق الأرزاق وأسبابها ثمَّ أفاضها على خلقه. وهو الوهَّاب دائم العطاء والهبات الَّتي لا حدَّ لها ولا عدَّ، يهبها للناس دون مقابل، غير أنَّها لا تتنزَّل عليهم جزافاً، فلكلِّ كائن نصيب مقدَّر منها في علمه تعالى، لا يمكن أن يزيد أو ينقص إلا بمشيئته.

وهو عزَّ وجل أعلم بعباده وبما يُصلح حالهم، لذلك يرزق من يشاء رزقاً واسعاً بغير حساب، ويقتِّر الرزق على من يشاء لحكمة يعلمها. وما على العبد المؤمن، المطمئن القلب بعدالة السلطة الإلهيَّة، إلا أن يبذل ما في وسعه من أسباب في تحصيل الرزق، ومن ثَمَّ يسلِّم أموره جميعها إلى الله الرزَّاق الوهَّاب الكريم، الَّذي يَمُنُّ على خلقه بالنِّعم والهبات، في جودٍ لا يعادله جود، وعطاءٍ لا يضاهيه عطاء.

الغنيُّ، المغني، الحميد:

قال تعالى: {لله ما في السَّمواتِ والأَرضِ إنَّ الله هو الغنيُّ الحميد} (31 لقمان آية 26).

وقال أيضاً: {..وإن خِفْتُم عَيْلَةً فسوف يُغْنيكُم الله من فضله إن شاء..} (9 التوبة آية 28).

وقال أيضاً: {..إن يكونوا فقراءَ يُغْنِهِم الله من فضله والله واسعٌ عليم * وليَسْتَعْفِفِ الَّذين لا يجدون نِكاحاً حتى يُغنيَهُمُ الله من فضله..} (24 النور آية 32ـ33).

الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عَمَّا سواه غنىً مطلقاً، وكلُّ شيء مفتقر إليه افتقاراً كلِّيّاً. فله جميع ما في السَّموات والأرض خلْقاً وملكاً، وجميعها منقادة خاضعة لأمره، يتصرَّف فيها كيف يشاء. فالخلْق عموماً في حاجة مطلقة إليه لمنحهم إمكانيَّة الحياة والبقاء، والقدرة على الحركات والسَّكنات، والناس خاصَّة يحتاجون إليه ــ إضافة لما سبق ـ في جميع أمور دينهم ودنياهم.

وهو المحمود على كلِّ حال، الغنيُّ عن حمد الحامدين لأنَّه كاملٌ بذاته، والكامل بذاته غنيٌّ عن كلِّ ما عداه. وحمد الله سبحانه يعني شكره؛ وهو نوع من الاعتراف بالجميل، وأداء الحق لمستحقِّه؛ لأنَّه عزَّ وجل هو المفيض بجلائل النِّعم، وشكره عليها استدامة لها واسـتزادة منهـا، وفي ذلك قـال تعـالى: {..لَئِنْ شَـكرتم لأزيدنَّكم..} (14 إبراهيم آية 7). وشكر الشاكرين لا يزيد في ملك الله شيئاً، كما أن جحود الجاحدين لا ينقص من ملكه شيئاً. ويؤيِّد ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: «ياعبادي لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ياعبادي لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ياعبادي إنَّما هي أعمالكم أُحصيها عليكم ثمَّ أُوَفِّيكم إيَّاها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه».

ففائدة الشكر والعرفان تعود على الإنسان الشَّاكر، قال تعالى: {..ومن يشكرْ فإنَّما يشكرُ لنفسه ومن كفرَ فإنَّ الله غنيٌّ حميد} (31 لقمان آية 12). فالحمد والشُّكر يطهِّران نفس الشاكر، ويوجِّهانه إلى بذل النعم وإنفاقها في الوجوه النافعة، بما يعود بالفائدة على الأفراد والجماعات.

وهو المغني: أي أنه وحده سبحانه وتعالى الَّذي يغني من يشاء من الخلائق، بوسائل شتَّى من عطائه، وييسِّر لهم موارد الأرزاق والمكاسب، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة لهم.

وفي الآيتين اللتين تقدَّم ذكرهما من سورة النُّور، يَعِد الله تعالى المؤمنين بالغنى، ويدعوهم لئلا يَخْشَوْا الفقر، وليتوكَّلوا عليه في سائر أمورهم وأحوالهم؛ فالله غنيٌّ ذو سعة، لا تنفد خزائنه، وفي فضله ما يغنيهم. وفيهما إشارة أيضاً إلى أنَّه ينبغي على المؤمنين أن يجتهدوا في التَّقوى والطَّاعات حتى يوسِّع الله عليهم، فإن المرء إذا اتّقى الله جعل له عزَّ وجل من أمره فرجاً ومخرجاً، قال تعالى: {..ومن يتَّقِ الله يجعل له مخرجـاً * ويرزقه من حيثُ لا يحتسب..} (65 الطلاق آية 2ـ3).

المعطي، المانع:

قال تعالى: {وَلَسوف يُعطيك ربُّك فترضى} (93 الضحى آية 5).

وقال أيضاً: {ما يفتحِ الله للنَّاس من رحمةٍ فلا مُمسكَ لها وما يُمسِكْ فلا مُرسِلَ له من بعده وهو العزيز الحكيم} (35 فاطر آية 2).

إن ما يعطي الله من النِّعم الحسِّية أو المعنويَّة، كالرزق والمطر، والصحَّة والسعادة، والأمن والأمان، والعلم والحكمة.. وغير ذلك فلا مانع لها، وكذلك ما يمنع منها؛ فلا يملك أحد أن يرسله بعد إمساكه، قال تعالى: {وإن يَمْسَسْك الله بِضُرٍّ فلا كاشف له إلاَّ هوَ وإن يَمسَسْك بخيرٍ فهو على كلِّ شيءٍ قدير} (6 الأنعام آية 17). فالخير كلُّه بيده، قادر على نشره على العباد في كلِّ آن؛ لا ينضب معينه، ولا ينقص عطاؤه. وهذا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعبِّر عنه في مناجاته لله عزَّ وجل، فقد روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الصلاة قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت..».

العزيز، الجبَّار، المتكبِّر:

قال تعالى: {..العزيزُ الجبَّارُ المُتكبِّرُ سبحان الله عمَّا يُشركون} (59 الحشر آية 23).

العزيز: هو القوي الغالب الَّذي لا يُقهر.

الجبَّار: هو المتعالي عن أن يناله كيد كائد، والمتسلِّط على الجبارين بالانتقام والقصاص.

المتكبِّر: المترفِّع عن كلِّ نقص، والمستعلي على كلِّ ما عداه بحقّ.

إن العزَّة الحقيقيَّة لله وحده، يمنحها لمن يشاء كالرسل والصالحين من خلقه دون غيرهم، قال تعالى: {..ولله العِزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين..} (63 المنافقون آية 8). فمن كان يريد الوصول إلى شرف العزِّ والسُّمُو فليسلك طريق العزَّة بطاعة الله، وليطلب العزَّة منه لأنه هو مصدرها وواهبها، خلافاً لمن يتوهَّم أنها وليدة كثرة المال والأتباع؛ فكم من معدم لا حول له ولا قوَّة ولا عشيرة، أعزَّه الله بطاعته، وجعله ملكاً عزيزاً، وكم من أشدَّاء أولي قوَّة ومنعة ومال أذلَّهم الله بمعاصيهم، فلم تُغنِ عنهم كثرتهم من الله شيئاً، وفي هذا يقول تعالى: {مَنْ كان يُريدُ العِزَّةَ فلله العِزَّةُ جميعاً..} (35 فاطر آية 10).

والعزَّة تختلف عن الكِبْرِ، فالعزَّة: هي الشُّعور بالسُّمُو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه، والكِبْرُ: هو غرور الإنسان بنفسه وغمط الناس حقوقهم.

وهكذا فكلُّ من أحبَّ الله وتذلَّل له ـ تذلُّل المحبِّ للحبيب ـ أعزَّه الله ورفعـه، وكلُّ من تعزَّز عليه وتذلَّل لغيره أذلَّه الله. ولـمَّا كان حبُّ الله يستلزم محبَّة أحبابه، وبغض أعدائه؛ فإن من يعادي أحبابه ويوالي أعداءه، يكون قد سلك بنفسه مسلك الذُّل والهوان، وقد قال الله في حق أمثال هؤلاء: {إنَّ الَّذين يُحادُّون الله ورسولَهُ أولئك في الأَذَلِّين} (58 المجادلة آية 20)، وقال أيضاً: {لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليومِ الآخِرِ يوادُّون من حادَّ الله ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهُم أو أبناءَهُم أو إخوانَهُم أو عشيرتَهُم..} (58 المجادلة آية 22). وقد أقسم تعالى بعزَّته في الحديث القدسي فقال: «وعزَّتي لا ينال رحمتي من لم يوالِ أوليائي، ويعادِ أعدائي» (أخرجه الترمذي والحاكم والطبراني مرفوعاً).

هذه قبسات من معاني اسم الله العزيز، أمَّا عن جبروته وكبريائه؛ فهو صاحب العظمة والجلال والسُّلطان في أرجاء السموات والأرض بلا شريك ولا منازع، قال تعالى: {وله الكبرياء في السَّموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (45 الجاثية آية 37). وقد ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري» (أخرجه مسلم).

فكلُّ مَنْ يتكبَّر مِنْ خلقه عن اتِّباع الحقِّ، ويتجبَّر على الضعفاء من الناس بالإذلال والتسخير والإهانة بغير حقٍّ، فإن قانون الله فيه أن يطبع ويختم على قلبه بالضَّلال، قال تعالى: {..كذلك يَطْبَعُ الله على كلِّ قلْبِ مُتكبِّرٍ جبَّار} (40 غافر آية 35)، ثمَّ ينالُ جزاءه عدلاً واستحقاقاً، لأنه في تكبُّره يعادي الله، وفي تجبُّره يقسو على خلق الله، قال تعالى: {..وأمَّا الَّذين اسْتَنكفوا واستكبروا فيُعذِّبُهُم عذاباً أليماً..} (4 النساء آية 173).
فلا عزيز في الكون إلا الله، ولا جبَّار إلا الله، ولا مُتكبِّر إلا الله؛ ولذلك فإن الشعور بالكبرياء المطلق يجب أن ينحصر في الله وحده دون سواه، قال تعالى: {وربَّكَ فكبِّر} (74 المدثر آية 3) أي عظِّمِ الله وصِفْهُ بالكبرياء في سائر أحوالك، فهو أكبر من أن يكون له نِدٌّ أو شريكٌ كما يقول عَبَدَةُ الأوثان. وليكن الله في قلبك أكبر وأعظم من كلِّ عظيم وكبير، فلا تخشَ سواه، ولا تشرك معه مخلوقاً فيما تفضَّل به عليك فتنسب الفضل للمخلوق وتنسى الخالق، وإذا كان الله في قلبك أكبر من كلِّ شيء؛ فما من شيء يسـتحق أن يشـغلك عنه وأنت مـاثل بين يديه، وما من شيء مهما تعاظم شـأنه ـ من همٍّ أو حزنٍ أو وهمٍ ـ له القدرة على الاستيلاء والسيطرة عليك فالله أكبر من كلِّ ذلك، وإذا ما هيمنت على المؤمن عظمة الشعور بكبريائه تعالى، تلاشت كلُّ الأشياء أمام تلك العظمة، فلا يبقى لها أدنى تأثير أو سلطان عليه.

المُعِزُّ، المُذِلُّ:

قال تعالى: {..وَتُعِزُّ مَن تشاءُ وَتُذِلُّ مَن تشاءُ..} (3 آل عمران آية 26).

من أراد العزَّة فلله العزَّة جميعاً، يمنحها لمن يشاء من عباده؛ فتراه نافذ الكلمة، مالكاً للقلوب، كثير الأعوان، وينزعها ممَّنْ يشاء؛ فتجده ذليلاً، مهاناً، مهيض الجناح.

والعزُّ وليد الكرامة والجاه، وهذا كلُّه بيد الله تعالى، يتصرَّف فيه حسب مشيئته وعلمه. وهو من محبوبات الإنسان، تتوق النفس إليه، وتنهض الهمم عند ذكره. أمَّا الباب إليه فهو التَّواضع بين يدي الله، والشُّعور الدَّائم بالضَّعف أمامه والافتقار إليه، فمن تواضع لله رفعه الله. والتَّواضع بين يدي الله يستلزم التَّواضع مع مخلوقاته، وكلَّما ازداد الإنسان تواضعاً ازداد عزّاً وكرامة. أمَّا من ينشد العزَّة بالصُّور والأوهام والمخلوقات الضعيفة العاجزة؛ فهو لا يأوي إلى ركن شديد، وسُرْعان ما يتهاوى في وديان الذلِّ والمهانة، حتى ولو مرَّ عليه حين من الزمن تراءت له فيه أشعَّة المجد والعزَّة، فسيكتشف أن ذلك لم يكن إلا سراباً. فالعزُّ الحقيقي هو عزُّ الدارين الَّذي يمنحه الله المُعِزُّ لمن يمشي في طريقه، ويحجبه عمَّن ضلَّ وجحد، فلا يُذَّل من أحبَّه ووالاه، ولا يُعَزُّ من أبغضه وعاداه.

العَفُوُّ، الغفور، الحليم، الرَّؤوف:

قال تعالى: {..إنَّ الله لَعفوٌّ غفور} (22 الحج آية 60).

وقال أيضاً: {..والله غفورٌ حليم} (2 البقرة آية 225).

وقال أيضاً: {وإذا جاءك الَّذين يؤمنون بآياتنا فقُلْ سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسه الرَّحمةَ أنَّه من عمل منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تاب من بعده وأصلحَ فأنَّه غفور رحيم} (6 الأنعام آية54).

وقال أيضاً: {..إنَّ الله بالنَّاس لرؤوف رحيم} (2 البقرة آية 143).

العَفُوُّ: هو الَّذي يمحو السيِّئات لمن تاب إليه. والغفور: كثير الغفران والسَّتر على المذنبين، فالعَفُوُّ أبلغ من الغفور لأن الغَفْر مجرَّد السَّتْر، أمَّا العَفْوُ فهو المحو والإزالة.

أمَّا الحليم: فهو الَّذي لا يستفزُّه غضب، ولا يحمله ذلك الغضب على استعجال العقوبة.

والرَّؤوف: شديد الرأفة والرحمة بخلقه.

فالله تعالى حليم رؤوف بعباده يوسع لهم في المغفرة حتى تشمل كلَّ تائب ومنيب، وهو يغفر الذنوب جميعاً إلا أنْ يُشرَكَ به، ومن شأن هذه السعة في المغفرة أن تشرح الصُّدور، وترغِّب القلوب بالتَّوبة من كلِّ ذنب والتَّجافي عن كلِّ خطيئة، وتحرِّر الإنسان من سلطة الشيطان الَّتي يسعى إلى إحكامها عليه بإلقائه في براثن اليأس والقنوط والشعور المدمِّر بالذنب. فمن طبيعة البشر أنَّهم يخطئون ومن حلم الله ورأفته بخلقه أنه يعفو ويغفر، لمن تاب بصدق، وأصلح كلَّ ضرر نجم عن ذنب ارتكبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله: يا بن آدم! إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا بن آدم! لو بَلَغَتْ ذنوبك عَنان السَّماء ثمَّ استغفرتني، غفرتُ لك ولا أبالي. يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثمَّ لقيتني لا تُشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة» (أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ).

وهكذا فتح الله تعالى باب المغفرة والعفو على سعته أمام الإنسان، فما عليه إلا أن يطرقه كلَّما شعر بالعزم على النَّدم والتَّوبة، داعياً وسائلاً ربَّه القبول بقوله: «اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عني» (رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها)، كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول، مقرنين القول بالتطهر والإصلاح.

مالك الملك، ذو الجلال والإكرام:

قال تعالى: {قُلِ اللَّهم مالكَ المُلْكِ تُؤْتي المُلْكَ من تشاءُ وتَنْزِع المُلْكَ ممَّن تشاء..} (3 آل عمران آية 26).

وقال أيضاً: {كُلُّ مَن عليها فان * ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجَّلال والإكرام} (55 الرحمن آية 26ـ27).

مالك الملك: الَّذي يتصرَّف في ملكه كما يشاء، ويسيِّر الأمور فيـه كما يريد؛ وفق قوانين ثابتة تلتزم بها مخلوقاته وتسير عليها وله أن يخرقها متى شاء، لا مردَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه.

ذو الجلال والإكرام: أي المتَّصف بصفات التنزيه والكمال، وصاحب العظمة والجاه والمتفضِّل على عباده بالإحسان والعطاء.

ويُســتحبُّ للمؤمن أن يكثر ـ أثناء دعائه ـ من تكرار هذه الصفة لله تعالى (يا ذا الجلال والإكرام) لتكون ثناءً على الله، واعترافاً وإقراراً بعظمته. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه : «أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموا ذلك في الدعاء وأَلِحُّوا بذكره. ومرَّ النبي صلى الله عليه وسلم برجل، وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال: «قد استُجيب لك» ( رواه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه ).

فتبارك الله ذو الجلال والإكرام؛ إليه يرجع الفضل في الإنعام على عباده؛ فهو الجدير بالإجلال فلا يُعصى، والتكريم فلا يُجحد، والشُّكر فلا يُكفر، والذِّكر فلا يُنسى.

وقد كرر تعالى ذكر هذه الصفة في سورة الرحمن مرتين: أولاهما عندما ختم الحديث عن نعم الدنيا بقوله: {ويبقى وجهُ ربِّك ذو الجَّلال والإكرام} (55 الرحمن آية 27) مثبتاً بذلك البقاء والديمومة لذاته العليَّة بعد فناء العالم. وثانيهما عندما ختم ذكـر نِعَمِ الآخـرة بقوله: {تَبـاركَ اسـمُ ربِّـك ذي الجَّلال والإكرام} (55 الرحمن آية 78) فناسب ذكرُها شُـكْرَه وحمده عقب امتنانه على المؤمنين بما آتاهم من الخير والفضل في دار كرامته، فهو المنعم المتفضِّل، الَّذي يستحق الثَّناء بما هو أهله.


ولا يسعنا في ختام هذا الباب إلا أن نثني على الله عزَّ وجل فنقول:

يا ذا الجلال والإكرام... تَبارَكَتْ أسماؤك الحسنى جميعها، ما ذكرناه منها وما لم نذكره، وما أدركناه من مدلولاتها وما لم ندركه، فلا يعلم بحقيقتها إلا أنت... وسبحانك اللهم نحمدك ونشكرك، لا إله إلا أنت لك الأسماء الحُسنى في ذاتها من قبل استحسان الخلق لها. كانت ولا تزال توحي بالحسن والجمال، وتفيض به على كلِّ الكائنات... تُسقى بمائها القلوب، فتحيا وتُبعث من جديد، ويغمرها الإيمان بالله الخالق المجيد، ويسبِّح بها كلُّ موجود في الوجود، فإذا بالكون يغدو مشهداً ترتيلياً رائعاً، يردد بأعذب الألحان آيات التنزيه للربِّ المعبود، يتشارك في ذلك الجمادات والأحياء، ويتلاقى فيه المَطْلَعُ والختام في تناسق والتئام.

أمَّا عن مسك الختام في هذا المقام فهو ما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعاً وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنَّة: هو الله الَّذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدُّوس، السَّلام، المُؤمِن، المهيمن، العزيز، الجبَّار، المتكبِّر، الخالق، البارِئ، المصوِّر، الغفَّار، القهَّار، الوهَّاب، الرزَّاق، الفتَّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرَّافع، المُعِزُّ، المُذِلُّ، السميع، البصير، الحكَم، العدْل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشَّكور، العليُّ، الكبير، الحفيظ، المُقِيْتُ، الحسيب، الجليل، الكريم، الرَّقيب، المجيب، الواسع، المحيط، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحَقُّ، الوكيل، القويُّ، المتين، الوليُّ، الحميد، المُحصي، المُبْدِيءُ، المُعيد، المحيي، المميت، الحيُّ، القيوُّم، الواجد، الماجد، الواحد، الصَّمد، القادر، المقتدر، المقدِّم، المؤخِّر، الأوَّل، الآخر، الظَّاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرُّ، التوَّاب، المنتقم، العفُّو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارُّ، النَّافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصَّبور».

وفي كثرة الأسماء هذه إشارة ودلالة على عظمة المسمَّى، وللمؤمن مطلق الخيار في التوجُّه إلى الله تعالى بأيٍّ منها، لأنها ـ وإن تعدَّدت ـ فكلُّها أسماءٌ له وحده عزَّ وجل، قال تعالى: {قُلِ ادعوا الله أوِ ادعوا الرَّحمنَ أيّاً ما تدعوا فله الأسماءُ الحسنى..} (17 الإسراء آية 110). وليس القصد هو مجرَّد الوقوف على مدلولات هذه الأسماء، أو تخصيص اسم دون آخر، وإنما يتعيَّن الوصول من خلالها إلى معرفة الصِّفات الحقيقية لله عزَّ وجل والسعي عن طريقها إلى تعميق الصِّلة به.

هذا مظهر من مظاهر عظمة الله تعالى وجلاله، الَّذي يؤمن به المسلمون إلهاً وربّاً للعالمين، ربَّ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد وغيرهم من الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) الَّذين أرسلهم رحمة للناس أجمعين، يهدونهم إلى معرفة إلههم الحقِّ الَّذي خلقهم فأحسن خلقهم وإليه وحده يرجعون، وبيده وحده مصائرهم وأقدارهم، فسـبحان الله عما يشركون.
 
تحفظ شديد على

"وهو الموجود الَّذي لا ينجم عن وجوده موجود مثله، وكلُّ موجود آخر إنما يستمِدُّ وجوده منه، ويستلهم حقيقته من تلك الحقيقة القدسية الأزلية الأبدية. "
 
عودة
أعلى