من عجائب القرآن : التعميم الدلالي...

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
632
مستوى التفاعل
26
النقاط
28
من عجائب القرآن : التعميم الدلالي

لعله من المفيد أن نقارن بين (لغة الفلاسفة) و(لغة القرآن) تمهيدا لتحديد مفهوم التعميم الدلالي:

تتميز اللغة الفلسفية بخاصية التجريد، فلا تكون العبارة فلسفية إلا ومكوناتها كلية ، فلا يقول الفيلسوف : "هذا الرجل يشتهي تفاحة" وإنما يرفعها إلى سقف التجريد- لتصبح فلسفية- فيقول :" نزوع الذات إلى احتواء موضوع رغبتها" ولهذا السبب كانت لغة الفلاسفة مضببة غير مفهومة عند الناس، ولكي تفهم لا بد من إنزالها من حيز التجريد إلى حيز التجسيد ، ولا بد من استبدال المصداق بالمفهوم ، ولا بد من إرجاع الكلي إلى الجزئي...فعندما يقول الفيلسوف :" الماهية سابقة للوجود" تكون عبارته تلك لغوا غير مفهوم ولتصبح مفهومة لا مناص من إنزالها إلى حيز الحس - بتقديم مثل - فيقول :" قبل أن يصنع النجار كرسيا تكون صورة الكرسي في ذهنه أولا" فيتعجب المتلقي كيف عبرت الفلسفة عن البديهي والمألوف بتلك العبارة المهولة...والحقيقة أن التهويل هو متمسك الفلاسفة جميعا ، ولا تكون العبارة فلسفية إلا برصد درجة تموضعها في سلم التهويل ، فلو قدم الفيلسوف عبارته بمعناها العادي لكان كلامه "عاديا" ،ولانتهت الفلسفة ، فلا يكون الفيلسوف فيلسوفا إلا وهو متستر بالغموض، ولو أزيل عنه ستار الغموض لانكشفت عورته!...والناس بفطرتهم يعرفون هذا فإذا قال رجل عبارة غير مفهومة قالوا عنه "إنه يتفلسف".... فالفلسفة عندهم مرادفة للغموض لا للحكمة أو الحقيقة.

لغة القرآن على نقيض لغة الفلسفة فهي مفهومة عند الخواص والعوام لأن مكونات العبارة فيه – غالبا- من عالم الحس والتجربة والفطرة فهو دائم "مبين":

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء : 174]

الخطاب موجه للناس جميعا وفيهم الخاصة والعامة، وفيهم الذكي والاقل ذكاء، وجميعهم يقتبسون من نوره بحسب قدراتهم... وبالنور يكتشف المجهول ويتضح الغامض ولا يمكن أن يكون هو نفسه غامضا مجهولا!

القرآن واضح لكنه عميق!

هذا سر القرآن العظيم: الجمع بين الوضوح والعمق ، ومن ثم تجد في التنزيل الوصف ب"الكتاب المبين" وفي الوقت ذاته الدعوة إلى" تدبرالقرآن"...فلا يستغنى بوضوح سطحه عن اكتشاف أعماقه ! ثم لا يمكن لتدبر القرآن أن يكون ممكنا إلا والمنطلق واضح ومفهوم ، فلا بد من منفذ ملحوظ فلو كان مغلقا كله فكيف يدلف إليه!

إذا كان فهم العبارة الفلسفية نازلا دائما (من الكلي إلى الجزئي ومن الذهني إلى الحسي ) فإن تدبر القرآن صاعد ...من العبارة الجزئية في الآية ينطلق المتدبر نحو التعميم والتجريد وفي نهاية المطاف يدرك المتدبر أن العبارة الجزئية قد أحاطت بكل شيء هذا هو التعميم الدلالي...وسنبين هذا المفهوم - إن شاء الله - بأمثلة ( وقد يقول قائل ما دام مفهومك لا يتضح إلا بأمثلة فأنت تتفلسف ! أقول إن فهمت من كلامي معنى الفلسفة فذاك قصدي!)
 
فهم النص إذن له منهجان: منهج تنازلي حين يكون المنطوق النصي كليا وتجريديا فيبحث له عن الماصدق والمثال لتقريبه من الذهن – وهذا شأن النص الفلسفي- ومنهج تصاعدي عندما يكون المنطوق النصي جزئيا حسيا فينتزع منه العام والكلي - وهذا ما يعنيه مفهوم التعميم الدلالي- وهي خطة مفيدة جدا في تدبر القرآن لأن من شأنها الكشف عن سر اختياركلمة وعن سر نسق العطف بين الكلمات...وهذه نماذج من التنزيل

1-

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان : 9]

الآية وصف للمعرضين عن آيات الله والمرتابين في أمر البعث..وسيكشف التعميم الدلالي سر اختيار كلمتي "شك" و "يلعبون":

فالشك مثال عن الجانب العلمي،

واللعب مثال عن الجانب العملي.

فتكون الآية بالتصعيد والتعميم قد أحاطت بكل أحوال الإنسان : لأن أحواله إما علمية - ذهنية - نفسية ، وإما عملية - سلوكية ... فرمز "الشك" إلى النوع الأول، ورمز "اللعب" إلى الثاني.....

فهؤلا ء الكافرون علميا في شك وعمليا يلعبون!!
 
2-

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل : 42]

التعميم هنا متعلق بالزمن حيز فعل الإنسان...فالصبر على ما مضى والتوكل في ما سيأتي

فتكون الآية بالتجريد والتعميم قد أحاطت بكل أفعال الإنسان : ف"الصبر" له بعد ماضوي يمتد من الحاضر إلى الماضي( فالإنسان يصبر على ما وقع)، و"التوكل" له بعد مستقبلي يمتد من الحاضر إلى المستقبل (فالإنسان يتوكل بالنسبة لما سيفعل أما ما وقع وانتهى فلا يتعلق به التوكل ولكن يتعلق به الصبر).
 
والجدير بالملاحظة في آية الصبر والتوكل : استعمال صيغة الماضي في الصبر "صَبَرُوا" واستعمال صيغة المضارع في التوكل "يَتَوَكَّلُونَ" ليتم التعميم دلاليا ونحويا.
 
3-

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة : 156]

التعميم في قوله " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" متعلق بالحجاج...

ههنا حجتان: "إنا لله " حجة

و"إنا إليه راجعون" حجة ثانية

وكيفما كان حال الإنسان - من جهة الصبر- فإن إحدى الحجتين قائمة عليه لا محالة : فإن لم يصبر فهو مخاطب ب "إِنَّا لِلَّهِ" ،وإن صبر كان مخاطبا ب "إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"

فأما الذي لم يصبرفيقال له :انت ملك لله ، وللمالك حق التصرف في مملوكه كما يشاء ،فلا معنى للتبرم والاحتجاج ...وهذا الأمر بدهي في الشاهد: فمالك الحذاء مثلا له أن يلبسه أو يمزقه أو يرتقه أو يلقيه جانبا أو يحتفظ به أو يصبغه بالأحمر أو الأصفر أو الأخضر...يفعل ما يشاء لأن الحذاء له.

وأما الذي صبر فهو يحتسب ، ويرجو أن ينال أجر صبره، وأن يعوض بالخير على ما لحق به من أذى، فيقول "إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" وعندما يرجع إلى ربه سيجد عنده كل ما وعد به...فهذه حجة تحفيزية على الصبر...

هذا وفي قوله" إِنَّا لِلَّهِ" إشارة إلى المبدأ ، وفي قوله "إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" إشارة إلى المعاد ، فحصل التعميم من هذه الجهة أيضا!
 
4-
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال : 60]


عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا إن القُوَّةَ الرَّميُ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". [رواه مسلم]


الآية مذهلة حقا ، وكذلك التفسير النبوي المبني على التوكيد فقد صدر العبارة ب حرف "ألا " وهوحرف استفتاح وتنبيه تؤكد ما بعدها وتحققه، كما كرر العبارة ثلاث مرات فجاء التوكيد كيفيا وكميا ، والهدف تبئير المعنى القرآني ولفت الانتباه إليه فصلى الله وسلم على من لا ينطق عن الهوى!

القوة (الرمي) ورباط الخيل هما المكونان الرئيسان للقوة العسكرية في كل زمان ومكان، نعم قد تختلف الأشكال والأحجام عبر العصور لكن الفكرة واحدة :

فالرمي هو إصابة العدو بدون الاحتكاك به ،وهذا أسمى هدف لكل محارب ، فقد يقتل المبارز عدوه بالسيف- مثلا- ولكنه قد يخرج من المبارزة بجرح، ولكن الرامي بالسهم يصيب عدوه وهو في مأمن مطلق...

الرمي كان قديما - وفي زمن نزول الوحي – بالسهم والرمح ، ثم ابتكر الناس المنجنيق، وفي عصرنا تنافست الأمم في التجديد والتطوير فكان الرصاص والقنابل بكل أنواعها ابتداء بالقنبلة اليدوية إلى القنبلة النووية والهدرجينية وغيرها ...وأصبح نوع القنبلة ومداها معيارا لتقدير قوة الأمة العسكرية فمن كانت قنبلته يصل مداها إلى الف كيلومتر فهو أقوى ممن لا تصل قنبلته إلى الألف....فالمفروض أن يصل المحارب إلى عدوه أينما كان! (وتذكر دائما قول نبيك ألا إن القُوَّةَ الرَّميُ)

أما رباط الخيل فهو الجناح الثاني للطائر الحربي ويدل على كل وسائل النقل التي تنقل المحارب وأدواته وخاصة ما يرمي به ...فقديما كانت الخيل ثم اخترعت الوسائل المادية من دبابات وطائرات وغواصات وصواريخ ووقع التسابق والتنافس بين الأمم في ابتكار الوسائل وامتلاكها...

الآية أحاطت بكل هذا بكلمتين !

بل هناك أمر آخر :

فقد أشارت الآية إلى نوعي الحروب: فهناك الحرب المادية والحرب النفسية ، فالحرب المادية الساخنة دلت عليهاعبارة "مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ" والحرب النفسية دلت عليه عبارة " تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ"

فانظر إلى الآية وانظر إلى عصرنا تذهلك المطابقة!
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر : 1]


الافتتاحية موسومة ببيان الشمولية والاستغراق....ولتحقيق ذلك وظفت التقابلات ليكون الجمع بين المتقابلين أسلوبا لتصويرمعنى الإحاطة...وقد أحصينا خمس تقابلات:

1-الحمد لله \ فاطرالسماوات والارض.
2-فاطر\ جاعل.
3-السموات \ الارض.
4-السموات و الارض \ الملائكة.
5-فاطر السموات والارض \ جاعل الملائكة رسلا.


1- التقابل الأول:
الحمد لله \ فاطرالسماوات والارض
إحاطة بالتوحيد ف (الحمد لله) إشارة إلى الألوهية و(فاطر السماوات والأرض) إشارة إلى الربوبية...

2- التقابل الثاني:
فاطر\ جاعل
إحاطة بوجهي الخلق ، فالخلق إما ابتداء - أي إخراج من عدم - وإما تغييرا وتحويلا وتصييرا...فالأول (فطر) والثاني (جعل) ، الأول متقدم بالضرورة عن الثاني..فتقول "خلق الله النار ثم جعلها حارة"، ولا تقول "جعل الله النار حارة ثم خلقها" إلا أن تكون جعل هنا بمعنى قدر...
ولك أن ترى في ( فاطر) خلقا للذوات، وفي (جاعل) خلقا للصفات ، وكيف كان فالإحاطة متحققة، فالله خلق الملائكة بعد أن لم تكن ثم جعلها رسلا إلى خلقه.

3- التقابل الثالث:
السموات \ الارض
إحاطة بحيز المخلوقات وفضاء سكونها وحركتها ، السماوات فضاء علوي والأرض فضاء سفلي ..

4- التقابل الرابع:
السموات و الارض \ الملائكة
إحاطة بنوعي المخلوقات :المخلوقات المنظورة وغير المنظورة...أو المخلوقات المادية والمخلوقات الروحية.

5- التقابل الخامس:
فاطر السموات والارض \ جاعل الملائكة رسلا
إحاطة بتجليات الربوبية التي تختزل في عنوانين الخلق والأمر:
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف : 54]
(الخلق) مدلول عليه بعبارة فاطر السموات والارض،
و(الأمر) مدلول عليه بعبارة جاعل الملائكة رسلا...
فالرسالات التي تحملها الملائكة تتضمن أوامر الله سواء أكانت هذه الأوامر(تشريعية) موجهة إلى المكلفين تحليلا وتحريما أو أوامر (تكوينية ) من قبيل تشكيل الأجنة، وإنزال القطر، وهلاك الظالمين وغيرها...
 
عودة
أعلى