طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
الرد على "شفالي"(الألماني) و"نولدكه" في أصل لفظ القرآن،بحث ل د . أحمد محمد علي الجمل
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز، المنزَّل من لَّدنه تعالى على قلب رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلسان عربى مبين، كما أنه معجزة الإسلام الباقية على مر العصور، والنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو مُبلِّغ هذا الكتاب الكريم، المنقول عنه بالتواتر والمحفوظ فى صدور المسلمين .
ولغة السريان هى اللغة السريانية، وهى تعتبر واحدة من اللغات المعروفة باللغات السامية، كما أنها تعد امتداداً للغة الآرامية فى العصر المسيحى، حيث كانت فــى بادئ أمرها تسمى الآرامية، ويُعرف المتكلمون بها بالآراميين . والآرميون هم بنو آرام بن سام بن نوح عليه السلام . وكانوا يعيشون فى البلاد التي تسمي فى التوراة : "آرام" ([1]) ، وهي المعروفة ببلاد الشام والعراق .
وقد لاقت هذه اللغة انتشاراً واسعاً في البلاد الآرامية، وتجاوزتها إلى البلدان المجاورة، مثل أسيا الصغرى وأرمينيا، وصولاً إلى بلاد الصين والهند، وقد تبناها اليهود أنفسهم وفضلوها على اللغة العبرية، وكتبوا بها بعض أسفار الكتاب المقدس، واستمروا يتكلمون بها حتى زمن المسيح (2) . وكان المسيح نفسه يتحدث بها إلى تلاميذه، ومن ثم فإن إنجيله كان كتوباً بها، ذلك الذى لانجد له إلا نصاً مترجماً إلى اليونانية القديمة .
وبعد انتشار المسيحية فى بلاد الآراميين، جعل هؤلاء الذين اعتنقوها ينفرون من تلك التسمية القديمة، ويعدونها مرادفة للوثنية والإلحاد، لذلك سارعوا إلى الأخذ بكلمة سريان، تلك التسمية التى أطلقها عليهم اليونانيون الذين كانوا يحتلون بلادهم ( 312 ق.م ) وقد سموا لغتهم السريانية ، على حين ظل اسم الآراميين لصيقاً بسكان القرى الوثنية، وصـارت كلمة آرامى تطلق على الوثنى ، وكلمة سريانى تطلق على النصرانى ([2]) .
وقد يتساءل البعض ماعلاقة القرآن بلغة السريان؟ ونجيب فنقول : إن المستشرقين قد توهموا أن كلمة القرآن لفظة سريانية الأصل، وقبلوا النظرية التى قالها المستشرق الألمانى Schwally "شڤالى" ، وهى تعنى أن لفظة القرآن مأخوذة من الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā ([3]).
ولاشك أن الكاتب يهدف من ـ وراء ـ نظريته إلى اقناع القارىء أن هناك صلة وثيقة بين القرآن واللغة السريانية، وبمعنى آخر بين القرآن ولغة الإنجيل، وقد بدأ الكاتب بكلمة القرآن، لكى يوصل القارىء إلى التشكيك فى أصالة الألفاظ الرئيسية فى القرآن الكريم، وردها إلى أصول سريانية، وهو تمهيد لإقناع القارىء بأن القرآن الكريم لم ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولم يوح إليه ، بل أخذه لغة ومضموناً من المصادر السريانية المسيحية .
وقد اعتمد المستشرقون على الآراء التى أكدت على وجود ألفاظ أعجمية فى القرآن([4]) ، وأخذوا كتاب " الإتقان " للسيوطى ([5]) مصدراً أساسياً لتأكيد وجود كلمات أعجمية بصفة عامة، وكلمات سريانية بصفة خاصة فى القرآن.
ومن الأبحاث التى تناولت دراسة هذه الألفاظ، بحث بعنوان : " الاستدراك على السيوطى فيما نسبه من المعرب فى القرآن الكريم إلى العبرية والسريانية " للدكتور / محمد جلاء إدريس ([6]) ، حيث رد أكثر الألفاظ التى وردت فى كتاب الإتقان إلى أصول عربية، وقد جاءت نتائج دراسته فى خمس نقاط، هى :
1. عدم إلمام بعض علماء السلف باللغات السامية، ومن ثم كان حكمهم على كثير من الألفاظ التى لم تكن مستخدمة فى عصرهم أو بيئتهم بأعجميتها، وردها إلى العبرية والسريانية .
2. وجود تناقض بين آراء هؤلاء العلماء بدا واضحا فى نسبة بعض الكلمات إلى أسرتين متباينتين تماماً، كردهم بعض الألفاظ إلى أصل عبرى أو سريانى، وإلى أصل رومى فى نفس الوقت .
3. عدم التفرقة بين اليونانية واللاتينية عند استخدام مصطلح " رومى " مع وجود تباين بين اللغتين .
4. خلو منهج السيوطى من أى رؤية نقدية تجاه الألفاظ التى نقلها من السلف، على الرغم من وجود تناقضات فى كثير منها، كما يتضح عدم إلمام السيوطى باللغات .
5. اتضحت خطورة آراء السيوطى ونقله للألفاظ التى قيل بأعجميتها وإقراره لذلك فيما وجدناه عند المستشرقين وغيرهم من الباحثين، إذ اعتمدوا على هذه الآراء التى مهدت الطريق للطعن فى عروبة القرآن من جانب، وتأكيد الزعم القائل بأخذ النبى صلى الله عليه وسلم للقرآن لفظاً ومعنى من اليهود والنصارى ([7]) .
وهناك دراسات أخرى تناولت هذه الألفاظ فى إطار اللغة العربية فقط ، ومن ثم كانت نتائج دراساتهم تخص العربية دون غيرها ([8]) .
وعلى ذلك سنعرض اختلاف الأئمة فى وقوع المعرَّب فى القرآن الكريم كمقدمة للبحث، ثم نتناول بالدراسة الصرفية كلمة : " القرآن " لعدم تناول الأبحاث السابقة دراستها فى ضوء علم اللغة المقارن بين العربية والسريانية .
كما ستتناول دراستنا أيضاً لفظين وردا فى القرآن الكريم على لسان عيسى عليه السلام، اختلفت فيهما المصادر ، وهما ( سريا ـ أحمد ) .
أما لفظة { سريا } فقد وردت فى قوله تعالى :
{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً }([9]) .
وأما لفظة { أحمد } فقد وردت فى قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } ([10]) .
وبذلك تكون دراستنا الحالية مختلفة عن الدراسات السابقة، التى خلت منها هذه الألفاظ الثلاثة :
فى ضوء علم اللغة المقارن بين العربية والسريانية ، وقد التزمتُ بكتابة الكلمات السريانية بالرموز الصوتية، ليفيد منها غير المتخصص فى اللغات السامية .
اختلاف الأئمة فى وقوع المعرَّب فى القرآن الكريم
اختلف الأئمة فى وقوع المعرَّب فى القرآن الكريم إلى ثلاث فرق، نعرضها بإيجاز على الوجه التالى :
1. استند الفريق الأول فى رأيه على ماورد فى القرآن الكريم من آيات صريحة بأنه لايوجد ألفاظ غير عربية فى القرآن الكريم، وبنى هؤلاء العلماء رفضهم وجود ألفاظ أعجمية فيه على قوله تعالى :
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} ([11]).
وقوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }([12]) .
ومن هؤلاء العلماء :
ـ الفقية الأصولى الإمام محمد بن إدريس الشافعى (ت204هـ ـ 820م) الذى شدد النكير على القائلين بوجود ألفاظ أعجمية فى القرآن الكريم .
ـ إمام فقه اللغة أبو عبيدة (ت210هـ ـ 835م) الذى استنكر بشدة أن يكون فى القرآن ألفاظاً غير عربية، لقول أبى عبيدة : إنما أُنزِل القرآن بلسان عربى مبين ، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول .
ـ المفسر والمؤرخ ابن جرير الطبرى (ت310هـ ـ 923م) الذى قال : إن ماورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو السريانية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد ([13]) .
2. الفريق الثانى : ذهب أصحابه إلى وجود بعض الألفاظ الأعجمية فى القرآن، وهذا لا يخرجه عن كونه { قُرْآناً عَرَبِيّاً } لأن القصيدة الفارسية تظل فارسية وإن وردت بها ألفاظاً غير فارسية ، وعن قوله تعالى { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } بأن المعنى من السياق "أكلام أعجمى ومخاطب عربى ! " ([14])
ومن هؤلاء القائلين بالألفاظ الأعجمية :
ـ ابن عباس (ت68هـ ـ 688م ) وتلميذه عكرمة (ت 105 هـ ـ 723 م ) وأبو موسى الأشعرى (ت42 هـ ـ 662 م ) .
ـ وقد أقر جلال الدين السيوطى ( ت 911 هـ ـ 1505م ) بوقوع الألفاظ الأعجمية، إذ نراه يقول : وأقوى مارأيته للوقوع ـ وهو اختيارى ـ ماأخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبى ميسرة التابعى الجليل، قال : فى القرآن من كل لسان " ([15]) .
3. الفريق الثالث : حاول أصحابه التوسط بين الفريقين السابقين، ومن هؤلاء أبو عبيدة القاسم بن سلام (ت 224هـ ـ 838 م ) الذى قال : والصواب عندى ـ والله أعلم ـ مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال إنها أعجمية فهو صادق، وقد مال إلى هذا القول الجواليقى وابن الجوزى وآخرون ([16]).
وقال ابن عطية ( ت546 هـ ـ 1152م ) بل كان للعرب العاربة التى نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسن بتجارات، وبرحلتى قريش، وبسفر مسافرين، كسفر أبى عمرو إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة، فعلَّقت العرب بهذا كله ألفاظاً أعجمية، غيَّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت فى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها فى أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربى الفصيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربى فكجهله الصريح بما فى لغة غيره، وكما لم يعرف ابن عباس معنى " فاطر " إلى غير ذلك، قال : فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها فى الأصل أعجمية، ولكن استعملتها العرب وعربتها فى عربية بهذا الوجه ([17]) .
إذا نظرنا إلى مادة "القرآن" التى كتبها بالإنجليزية A.T.Welch أ.ت.ويلش فى دائرة المعارف الإسلامية، نجد أنه يقول : إن المستشرقين قد قبلوا النظرية التى قال بها المستشرق الألمانى F.Schwally ف.شڤالى فى كتابه : Geschichte des Qorans "تاريخ القرآن" ([18]) : إن لفظة "القرآن" مأخوذة من الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā ، ومعناها : القراءة المقدسة، ثم تناول الكاتب أراء علماء الإسلام فى لفظة "قرآن" ، مقرراً أن النظرة الغالبة لدى الدوائر الإسلامية ترى أن كلمة "قرآن" اسم من "قرأ" ، وكلا الرأيين يجد لنفسه سنداً من القرآن .
ويرى الكاتب أن لفظة "القرآن" قد وردت فى الخط الكوفى القديم بدون همزة، هكذا "القران" ويرى أنها ـ بهذا الشكل ـ مشتقة من الفعل : "قرن" ، وليس من "قرأ". ومن ثم يرى الكاتب أن أفضل النتائج وأقربها قبولاً، أن مصطلح "القرآن" قد ظهر لأول مرة بظهور القرآن لكى يمثل كلمة قِريُنُا qeryānā السريانية ودلالتها. وقد بُنى على وزن عربى وهو فُعلان المشتق من "قرأ" ليكون مناسباً ومنسجماً مع التراكيب القرآنية العربية ([19]) .
ويستشهد الباحث الألمانى (لوكسنبرج) بدائرة المعارف الإسلامية باللغة الإنجليزية فى كتابه " القراءة السريانية للقرآن ـ مساهمة فى تفسير لغة القرآن" فيقول : إن هذه الدراسة تنطلق من حقيقة أساسية وهى أن مصطلح "قرآن" يمثل المفتاح لفهم اللغة القرآنية، وأن الغرب توصل إلى أن المفاهيم الحضارية مثل "قرأ" وكذلك "كتب" لايمكن أن تكون من أصل عربى. ولذلك يمكننا أن نفترض أنها قد انتقلت إلى المناطق العربية من الناحية الشمالية، ومادامت اللغة السريانية تمتلك ـ إلى جانب الفعل قرُا "قرأ" ـ الاسم قِريُنُا qeryānā بمعنيه : القراءة أو التلاوة ، فإن ذلك يقوى الظن بعدم كون مصطلح "القرآن" قد تطور فى العربية، وإنما هو لفظ مستعار من الكلمة السريانية على وزن فعلان .
ثم يقرر أن الأصل السريانى لكلمة "قرآن" الذى افترضه نولدكه فى كتابه Geschichte des Qorans "تاريخ القرآن" ([20]) قد انتشر منذ ذلك الحين فى الكتابات الغربية ، حتى إن الإشارة إلى الأصل المسيحى السريانى للقرآن فى الموسوعات الغربية صار أمراً بديهياً .
ويفترض (لوكسنبرج) أن الكتابة الصوتية العربية للفظة الآرامية السريانية قِريُنُا qeryānā لابد وأنها كانت تُنطق فى الأصل "قريان" ، وإن كانت النسخ الموجودة من القرآن حتى الآن لاتثبت الكتابة المفترضة، إلا أن المصطلح الآرامى السريانى يزيد من احتمالية الكتابة بهذا الشكل، وقد مر هذا المصطلح بمراحل أربع، كما يرى (لوكسنبرج) هى :
1. المرحلة الأولى : كانت الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā تكتب "قرين"، وتنطق "قريان".
2. المرحلة الثانية : حُذِف حرف الياء من قرين بلا عوض، فنشأت عنه الصيغة المختصرة :"قرن" المنطوقة بالمد بعد الراء "قران".
3. المرحلة الثالثة : أُدخلت الألف بعد ذلك إلى الصيغة الكاملة بنفس النطق السابق، فصارت: قران .
4. المرحلة الرابعة : أُلحقت الهمزة بالصيغة السائدة اليوم فى الإصدارات النموذجية للقرآن، فصارت: "قرءان" .
وقد أدى ذلك التطور إلى التخلى عن النطق الآرامى السريانى الأصلى قِريُن qeryān أمام النطق المعرب "قُرءان" على غرار "فُرقان" ([21]) .
أما A.Mingana "أ. مِنجانا" فقد قال علينا أن نلاحظ أن المعرفة الناقصة باللغات السامية إلى جانب العربية، غالباً ماتجعل استنتاجات العلماء المسلمين غير جديرة بالاعتماد، فضلاً عن كونها مضللة. وعلى الناقد أن يشدد من حرصه فى التعامل مع كتبهم، التى تعد ـ على أحسن الأحوال ـ ممهدات تاريخية للموضوع فقط .
ويستطرد " مِنجانا" قائلاً إن معالجة النص القرآنى بعيداً عن الشراح المسلمين، سيعطينا قدراً وفيراً من المعلومات الجديدة، وإن الكفايات الضرورية التى يجـب على الباحث أن يتسلح بها هى معرفة جيدة بالسريانية، والعبرية، والحبشية، إذ يبدو أن للغة الأولى تأثيراً واضحاً على نص القرآن. ويستدل على ذلك بقوله: إذا أخذنا العدد (100) كوحدة للتأثيرات الأجنبية على أسلوب القرآن ومصطلحاته ، فإننا نستطيع أن نورد بثقة ـ لحدٍ ما ـ النسب التالية : الحبشية تمثل 5 بالمئة من الكل، والفارسية حوالى 5 بالمئة، والعبرية 10 بالمئة، واليونانية واللاتينية 10 بالمئة، والسريانية حوالى 70 بالمئة ([22]).
لقد أنكر المستشرقون على القرآن أن يكون من عند الله، كما استعظموا أن يكون من تأليف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدون الرجوع إلى المصادر النصرانية، فخاضوا بغير علم فى إثبات نقل كلمة "القرآن" من السريانية، وهم بذلك يستدلون بعجمة اللفظ على عجمة الفكر، وهذا يتضح من عنوان مقالة "منجانا" الذى استعمل كلمة "أسلوب القرآن" بدلاً من "ألفاظ القرآن" .
وإذا كان "منجانا" قد ذكر أن علماء المسلمين كانت نتائجهم غير صحيحة لعدم إلمامهم باللغات السامية، فإننا نرى أنهم قدموا الكثير من الدراسات اللغوية فى القرآن الكريم، ولا نقلل من جهودهم العظيمة فى هذا المجال، وكما أن العلم البشرى يكمل بعضه البعض، فإننا سنقدم تحليلاً لكلمة القرآن فى ضوء علم اللغة المقارن بين العربية والسريانية للوصول إلى أصلها .
قِريُنُا qeryānā والقرآن
تستعمل السريانية الفعل قرُا rāəq الذى يقابل فى العربية قَرَأَ qara’a وفى العبرية קָרָא qārā .
ونلاحظ ـ هنا ـ أن العربية قد احتفظت بحركة الحرف الأخير (الحركة الإعرابية) بينما حُذفت تلك الحركة فى العبرية والسريانية، فأدى حذفها فى اللغتين الأخيرتين إلى إطالة الحركة السابقة عليها، مع تخفيف الهمزة، وتفصيل ذلك فيما يلى :
فى العربيـة قَرَأَ qara’a
فى السريانية قرُا rāəq → qəra’ → qara’a
فى العبريـة קָרָא qārā → qāra’ → qara’a
وقد أدى تخفيف الهمزة فى الأفعال المهموزة اللام فى السريانية إلى اختلاطها بالأفعال الناقصة، فبعد سقوط حركة الهمزة وتخفيفها بإطالة الحركة السابقة عليها، صارت الأفعال المهموزة اللام فى السريانية كالأفعال الناقصة فيها، وقد صيغت معظم الأفعال المهموزة قياساً على الأفعال الناقصـة ([23]) . فصارت الأفعال المهموزة، مثل :الفعل ملاُməlā "ملأ "، والفعـل قرُا rāəq "قرأ" ، والفعل سنُا sənā "شَنَأَ ـ أبغض" ، كالأفعال الناقصة، مثل: نشُا nəšā " نسى" ، رمُا rəmā " رمى " .
وأدى ذلك إلى ظهور الياء لفظاً وخطاً فى المصدر الاسمى ، فنقول قرُيُا qərāyā "القراءة" من الفعـل قرُا rāəq "قرأ" المهموز الأصل، مثل : رمُيُا rəmāyā "الرمى" من الفعل رمُا rəmā "رمى" الناقص بالياء .
فوجود الفعل ـ قرُا rāəq الذى يقابل فى العربية قَرَأَ qara’a وفى العبرية קָרָא qārā ـ فى اللغات السامية الثلاثة، يدل عل أن هذا الجذر سامى الأصل، والياء بعد الراء فى قِريُنُا qeryānā منقلبة عن همزة، والنون للنسب فى اللغتين وبيانها كالتالى :
من المعروف الآن أن مورفيم ([24])النسب فى اللغة العربية والسريانية له ثلاث ألومورفات، كلها مقيدة فى نهاية الاسم، وتختلف دلالة الاسم المنسوب باختلاف الألومورف([25])، نعرض اختلاف هذه الدلالات، فيما يلى :
1. ألومورف الياء : يدل على النسب الحقيقى إذا كان المنسوب إليه علماً لشخص أو مكان. الغرض منه ـ فى هذه الحالة ـ هو جعل المنسوب من آل المنسوب إليه، مثل: اَبرُؤُمُيُاabrāhāmāyā’ "إبراهيمى" نسبة إلى اَبرُؤُم abrāhām’ "إبراهيم"، وكلمة اٌورشلِمُيُا ’ūršəlemāyā "أورشليمى" نسبة إلى اٌورشلِم ’ūršəlem "أورشليم". كما يدل ألومورف الياء أيضا على النسب التقليدى إذا كان المنسوب إليه اسم جنس، وهنا يكون الغرض منه هو اكتساب المنسوب صفة المنسوب إليه، مثل: كيُنُيُا kəyānāyā "طبيعى" نسبة إلى كيُنُا kəyānā "الطبيعة".
2. ألمورف النون : يدل على النسب الذاتى إذا كان المنسوب إليه اسم جنس، حينئذ يكون الغرض منه، هو إظهار صفة ذاتية للمنسوب، مثل : سَؤرُنُُا sahrānā " هلال ـ قمري " نسبة إلى سَؤرُا sahrā " القمر" إذ هو الهلال على سبيل الحقيقة. غير أنه قد يُطلق على الشخص على سبيل المبالغة. لأننا نلاحظ أن لفظ سَؤرُنُُا sahrānā فى السريانية، يتوافق فى دلالته مع العربية، لأن السهر مرتبط بالقمر.
3. ألمورف النون والياء : يدل على النسب الشبيه بالذاتى إذا كان المنسوب إليه ذاتياً، ويكون الغرض منه هو إظهار صفة شبه ذاتية للمنسوب، مثل : روٌحُنُيُا rūhānāyā " روحانى " نَفشُنُيُا nafšānāyā " نفسانى " وإن كنا نرى أن النسب الشبيه بالذاتى قد مر بمرحلتين، الأولى: النسب بالنون المسبوقة بالفتحة الطويلة، والثانية: النسب بالياء ([26]).
أما علماء اللغة العربية فلم يذكروا النسب بالنون، على الرغم من وجود كلمات كثيرة من هذا النوع فيها، ونرى أن النســب الذاتــي (بالنون) الذى يأتى على سبيل الحقيقة، يتجلى بوضوح في كلمة: " الرحمن " فهي صفة ذاتية لرب العزة تدل على أن المنسوب هو ذات المنسوب إليه حقيقة. لذلك نرى افتتاحية سور القرآن الكريم بقوله تعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم }
فكلمة (الرحمن) تدل على الرحمة ، وكلمة (الرحيم) تدل على الرحمة أيضاً، إلا أن كلمة (الرحمن) تدل على صفة ذاتية لا يجوز اتصاف غيره بها. أما كلمــة (الرحــيم) فهــي تدل على صفة عامة يجوز اتصاف غير الله بها. وقد وصف رب العزة رسوله بأنه رحيم فى قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}([27])، الأمر الذى يعطينا دلالة للنون المسبوقة بالفتحة الطويلة، تكمن فى أن الرحمة فى الرحيم، هى صورة من صور الرحمة، حتى ولو كانت رحمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما الرحمة فى الرحمن فهى حقيقة الرحمة، فالنسب بالنون يعطى حقيقة الرحمة وذات الرحمة، أما ماعداها فهو صورة من صور الرحمة.
ونرى أن النسب الذاتي الذى يأتى على سبيل الحقيقة، يتضح لنا فى كلمة {الحيوان}* التى وردت فى قوله تعالى : { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ([28]) فكلمة { الحيوان } هى صفة ذاتية للدار الآخرة تدل على أن المنسوب " الدار الآخرة " هو ذات وأصل المنسوب إليه " الحياة ".
وهذا أمر له دلالة عظيمة، هى أن الحياة الدنيا صورة من صور الحياة، أما الحياة فى الدار الآخرة فهى الحيوان أي حقيقة الحياة، وقس على ذلك الفرق بين القراءة والقرءان ، فالقراءة فى أى كتاب هى صورة للقراءة ، أما القرءان فهو حقيقة القراءة، وكذلك الفرق بين الرضى والرضوان والفرق والفرقان ([29]).
وهناك شواهد كثيرة على وجود مورفيم النون المسبوقة بالفتحة الطويلة للدلالة على النسب الذاتى فى كلام الشعراء العرب قبل نزول القرءان، نذكر منها على سبيل :
قول عنترة بن شداد
يا طائِراً قَد باتَ يَندُبُ إِلفَــهُ وَيَنـوحُ وَهوَ مُوَلَّهٌ حَـيرانُ
وقول المُتَنَخّل
لَو أَنَّهُ جاءَني جَوعانُ مُهتَلِكٌ مِن بُؤَّسِ الناسِ عَنهُ الخَيرُ مَحجوزُ
وقول شمر الحنفى
غَضْبانَ ممتلئاً عليَّ إهابـهُ إنّي وربِّكَ سُخْطُــهُ يرْضينــي([30]).
ولنا أن نسأل : ماالفرق بين حائر وحيران، وجائع وجوعان، وغاضب وغضبان ؟
فالكلمة بدون النون المسبوقة بالفتحة الطويلة تدل على صفة فى الفاعل. أما الاسم المنسوب بالنون المسبوقة بالفتحة الطويلة، فإنه يدل على أن المنسوب من جنس المنسوب إليه وذاته وحقيقته، وكأنه يقول فى ظمآن أنا الظمأ الذى يشعر به الناس على سبيل المبالغة .
ومما سبق نعلم أن قِريُنُا qeryānā القاف والراء فيها من أصل الفعل قرُا qərā والياء منقلبة عن الهمزة، والنون المسبوقة بالفتحة الطويلة من النسب الذاتى، والألف المسبوقة بالفتحة الطويلة ـ التى تنطق كما لو كانت فتحة طويلة لأن الألف مد للفتحة الطويلة قبلها ـ فى نهاية الاسم للتعريف .
وعلى ذلك يمكننا تحليل كلمة قِريُنُا على النحو التالى :
قِريُنُا qeryānā اسم مفرد مذكر معرفة، النكرة منه قِريُن qeryān وهو اسم منسوب بالنون للدلالة على النسب الذاتى، أما المنسوب إليه قرُيُا qərāyā " القراءة " فالنكرة منه قرُي qərāy ، وبإضافة نون النسب المسبوقة بالفتحة الطويلة ُن ān أعنى قرُي + ُن = قرُيُن qərāyān وبعد حذف حركة الراء (وفقاً لقاعدة : إذا تحرك الآخر سكن ماقبله) فتصير قريُن qəryān ثم نحرك حرف القاف (وفقاً لقاعدة : إذا اجتمع ساكنان فى أول الكلمة نحرك الأول بالكسرة الممالة) فتصير قِريُن qeryān" قراءة " (وإذا أريد تعريفها فى اللغة السريانية بالألف المسبوقة بالفتحة الطويلة فى نهاية الاسم) تصير قِريُنُا qeryānā .
وإذا نظرنا إلى الاسم المنسوب إليه قرُيُا qərāyā نجد أنه قد وافق المعنى الذى ورد مع الاسم قِريُنُا qeryānā وهذا يجعلنا نسأل سؤالاً: ما الفرق بين دلالة اللفظين ؟ ونجيب فنقول : إن قرُيُا qərāyā تعنى صورة القراءة، أما قِريُنُا qeryānā فتعنى حقيقة القراءة، وهو تعبير شائع فى العربية والسريانية، وهو استعمال النون للدلالة على ذات الشىء وحقيقته، وهذا النوع لم يكن مقتصراً على هذه الكلمة، فاللغة السريانية بها كلمات من هذا النوع ([31]) وعلى الوزن نفسه نجد كلمة نِشيُنُا nešyānā " نسيان " وهى من الفعل الناقص نشُا nəšā "نسى" ، بالمقارنة مع كلمة قِريُنُا qeryānā من الفعل قرُا qərā .
وعلى ذلك فإن الافتراض الذى طرحه المستشرقون، ومفاده أن كلمة "القرآن" مأخوذة من الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā ، أمر لايقبله البحث العلمى، ناهيك عن أنه محض وهم وافتراء، وذلك وفقاً لرؤيتنا التالية :
وجود جذر القاف والراء والهمزة فى اللغات الثلاث ـ ففى العربية قَرَأَ qara’a وفى العبرية קָרָא qārā وفى السريانية قرُا rāəq ـ إنما يدل بوضوح على أنه جذر سامى الأصل ، هذه واحدة .
الثانية : افترض (لوكسنبرج) أن كلمة " القرآن " قد مرت بمراحل أربع لكى تصل إلى هذه الصيغة، بداية من اللفظ السريانى قِريُنُا qeryānā إلى كلمة "قرآن"، ونحن نقول : العكس هو الصحيح ، لأن معظم الأفعال المهموزة فى اللغة السريانية قد صيغت قياساً على الأفعال الناقصة بالياء، وصار الفعل قرُا qərā " قرأ " مثل الفعل نشُا nəšā " نسى " كما قُلبت الهمزة ياءً ـ لفظاً وخطاً ـ فى المصدر الاسمى والاسم المنسوب، حيث نقول فى المصدر الاسمى قرُيُا qərāyā " القراءة "، ونقول فى الاسم المنسوب بالنون قِريُنُا qeryānā على وزن الأفعال المعتلة الآخر بالياء، تماماً مثل نِشيُنُا nešyānā "نسيان" .
وعلى ذلك فالسريانية هى التى مرت بمراحل صوتية وصرفية ، كانت بدايتها تسهيل الهمزة، وانتهت بقلب الهمزة ياء لفظاً وخطاً ، على حين احتفظت العربية بالهمزة لفظاً وخطاً فى الفعل " قرأ " والمصدر " قراءة " والاسم المنسوب بالنون " قرءان " .
وإذا كان المستشرقون قد افترضوا أن كلمة " القرآن " مشتقة من الفعل "قرن" وأن النون أصلية فى الكلمة، فهذا افتراض لا أساس له من الصحة، لأن النون ـ كما أوضحنا ـ هى مورفيم مشترك، مستخدم فى اللغتين العربية والسريانية، للدلالة على النسب الذاتى سواء، أكان على سبيل الحقيقة، أم المجاز.
قال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } (24) ([32]).
ذكر الطبرى( 310هـ ) فى تفسيره : { فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها } بـمعنى: فناداها جبرائيـل من بـين يديها علـى اختلاف منهم فـي تأويـله فمن متأوّل منهم إذا قرأه { مِنْ تـحْتِها } كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى، وأنه ناداها من تـحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: «فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها» بفتـح التاءين من تـحت، بـمعنى: فناداها الذي تـحتها، علـى أن الذي تـحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه، أما تسمع الله يقول:{ فأشارَتْ إلَـيْهِ } ولـم تشر إلـيه إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حالته تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: { أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } . وعن مجاهد {سريا} قال نهر بالسريانية ، و حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: هو الـجدول، النهر الصغير، وهو بـالنبطية ([33]) : السريّ. وحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } والسريّ: عيسى نفسه.وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } يعنـي نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها، ولا يكون النهر تحتها ([34]).
وقال القرطبى ( ت671 هـ ) فى تفسيره : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قرىء بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ«ـمن» جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقاله علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيـم {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير النداء، «وأَنْ» مفسرّة بمعنى أي؛ المعنى: فلا تحزني بولادتك. { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يعني عيسى. والسريّ من الرجال العظيم الخصال السيّد. قال الحسن: كان والله سريّا من الرجال. ويقال: سَرِي فلان على فلان أي تكرم. وفلان سريٌّ من قوم سَرَاة. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريباً من جذع النخلة ([35]).
وقال ابن كثير ( ت774هـ ) فى تفسيره : قرأ بعضهم: { مَنْ تحتَها } بمعنى الذي تحتها، وقرأ الآخرون: { مِن تَحْتِهَا } على أنه حرف جر ، واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام، أي: ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قال: عيسى بن مريم، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها، وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها، قال: أولم تسمع الله يقول: { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } وقوله: { أَلاَّ تَحْزَنِي } أي: ناداها قائلاً: لا تحزني { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال: الجدول، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السري: النهر، وبه قال عمرو بن ميمون: نهر تشرب منه. وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير: السري: النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية. وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر([36]) .
كلمـة { تـحـت }
روى السيوطى عن أبى القاسم صاحب كتاب " لغات القرآن " أن كلمـة { تحت } نبطية تعنى البطن([37]) ، واتخذ لوكسنبرج رأى السيوطى ـ نقلاً عن أبى القاسم ـ منطلقاً اعتمد عليه فى إثبات عجمة الكلمة ، وأشار إلى أن كلمة { تحت } لا أصل لها فى العربية، وأنها مشتقة من الفعل السريانى نحِة nəhe½ "نزل – انحدر" المشتق منه الفعل العربى "نحت" المفهوم منه نحت الحجر وغيره لتسويته أو صقله، وأنه علينا أن نفهم حرف "من" ليس بمعنى ظرف المكان {من تحتها} بل يجب أن نفهمها على أنها ظرف زمان أى : حال وضعها، ثم يوضح أن معنى الوضع والولادة فى الفعل نحِة nəhe½ "نزل – انحدر" لم يرد فى المراجع السريانية، وإنما ورد فى فعل مرادف له وهو نفَل nəfal "هبط" ولأن القرآن الكريم لم يرد منه سوى الفعل "ولد" و "وضع" للتعبير عن الولادة الطبيعية، فقد جاء بهذا التعبير الذى لم يرد إلا فى هذه الآية تعبيراً عن ولادة عيسى – عليه السلام – غير الطبيعية، ويكون معنى الآية { فناداها حال وضعها ألا تحزنى قد جعل ربك وضعك سريا } ([38]) .
ادعى لوكسنبرج أن كلمة { تحت } لا أصل لها فى العربية، وبالبحث فى الشعر الجاهلى وجدنا مائة وعشرين بيتاً لستة وأربعين شاعراً يستعملون كلمة "تحت" بمعنى الظرف، نذكر منها على سبيل المثال :
قول عنترة :
فَعَيشُكَ تَحتَ ظِلِّ العِزِّ يَوماً وَلا تَحتَ المَذَلَّةِ أَلفَ عامِ
لَها مِن تَحتِ بُرقُعِها عُيونٌ صِحاحٌ حَشوُ جَفنَيها سَقامُ
وقول سعية بن غريض :
أحياؤهُم خزيٌ على أمواتهم والميتونَ شرارُ مَن تحتَ الثرَى
وجاءت كلمة تحت مضافة إلى الضمائر، بمعنى الظرف أيضاً، نذكر منها على سبيل المثال :
قول المهلهل بن ربيعة :
لَيتَ السَماءَ عَلى مَن تَحتَها وَقَعَت وَحالَتِ الأَرضُ فَاِنجابَت بِمَن فيها([39]).
وذلك كله يؤكد استعمال العربية لكلمة " تحت " بمعنى الظرف قبل نزول القرآن الكريم .
وإذا نظرنا إلى هذه الكلمة فى اللغات السامية الثلاثة، وجدناها كمايلى :
فى العربيـة تحت ta…t
فى السريانية ةَحة ta…t
فى العبريـة תַחַת ta…at
وبمقارنة اللفظ ومعناه فى اللغات الثلاث السابقة، نجد أنها تشير إلى اتفاق فى اللفظ والمعنى، الأمر الذى يؤكد لنا أن هذه الكلمة من المشترك السامى، دون أن تختص بها السريانية أو النبطية .
شَريُا šaryā وسَرِيَّا
نقل السيوطى عن ابن حاتم عن مجاهد أن كلمة " سريا " هى النهر بالسريانية ([40])، ويرى الدكتور جلاء إدريس أن مقارنة كلمة " سريا " فى القرآن الكريم بنظائرها فى السريانية وغيرها من اللغات السامية، تشير إلى عدم وجود مقابل اسمى لفظاً ومعنى، وأنه ربما كانت لفظة "السرى" بمعنى النهر الصغير فى العربية مأخوذة من الفعل "سرى" بمعنى : مضى، ومنه كذلك السارية وهى السحابة، ويرى بذلك أنها ليست مستعارة من السريانية أو غيرها، وأنها عربية ذات أصل سامى([41]) .
وأشار لوكسنبرج إلى ماجاء عند الطبرى الذى نقل عن مجاهد والضحاك وسعيد بن جُبير أن كلمة {سريا} تعنى نهر بالسريانية أو النبطية، وهو مايتناسب عندهم مع قوله تعالى { فكلى واشربى } ([42]) . ويرى لوكسنبرج أن هذا المعنى لا يتناسب مع قول السيدة مريم { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } ([43]) الذى لم يأت عن خوف من الموت عطشاً، ولكن جاء من خوفها لاتهام قومها لها بالحمل الحرام، كما ورد فى قوله { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } ([44]) .
ثم يتناول لوكسنبرج الفعل "انتبذت" فى قوله تعالى { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً } ([45]) الذى يرى أنه جاء على صيغة المجهول، مستشهداً بجواز ذلك فى النحو السريانى الذى يجيز استخدام المجهول مع ذكر الفاعل، فمعنى الفعل " انتبذت " عنده : طُردت من أهلها . وإن كان يرى أنه لايعقل أن يكون أول كلام ينطق به عيسى – عليه السلام – لأمه لكى يخفف عنها حزنها، لفظة تشير إلى ماء جعله ربُها تحتها، إنما المنطقى أن يكون فى كلامه مايخفف عنها ويزيل هذا العار الذى لُصق بها.
ولما كان عكـس "ابن الحرام" عند العامــة "ابن الحلال" يرى أن كلمة شَريُا šaryā صفة فعلية مشتقة من الفعل السريانى شرُا šərā "حل" وبذلك تكون كلمة "سريا" بمعنى "الحلال"، وهو يرى بذلك أنه يجب قراءة الآية كمايلى: فناداها من نُحاتها ألا تحزنى قد جعل ربك نُحاتك شريا ، ويكون المعنى الاجمالى للآية : فناداها حال وضعها ألا تحزنى قد جعل ربك وضعك حلالاً ([46]).
وأتفق هنا مع لوكسنبرج فى أن كلمة { سريا } سريانية الأصل، وليست بمعنى النهر. لأنه بالبحث فى نصوص اللغة السريانية ومعاجمها المتعددة، وجدنا أنها تستخدم لفظة واحدة للنهر، وهى نَؤرُا ānahr وهى التى تقابل كلمة "نَهر" فى العربية لفظاً ومعنى، وهو مايدل على أن هذه الكلمة من المشترك السامى، كما أننا لم نجد فى العربية كلمة السرى بمعنى النهر .
على أننى اختلف مع لوكسنبرج فى معنى كلمة { سريا } الذى ذكر أنها بمعنى "الحلال" وذلك لأن كلامه لا يستند إلى قاعدة لغوية ينطلق منها لإثبات هذا المعنى البعيد الذى يرى فيه أن كلمة شَريُا šaryā صفة فعلية بمعنى "الحلال" عكس "الحرام" من الفعل شرُا šərā بمعنى " حَلَّ " وذلك لأن الفعل شرُا لا يأتى بمعنى حَلَّ الشىء حلالاً أى صار مباحاً ، ولكن يأتى بمعنى "حرَّر" و "أطلق" ، ويكون معنى حَلَّ هنا التحرر من القيد ، ويظهر ذلك بوضوح من استخدام الفعل فى الأناجيل السريانية ، مثل :
ܘܶܐܡܰܪ ܠܗܽܘܢ ܙܶܠܘ ܠܰܩܪܺܝܬ݂ܳܐ ܗܳܕ݂ܶܐ ܕ݁ܰܠܩܽܘܒ݂ܰܠܟ݂ܽܘܢ ܘܡܶܚܕ݂ܳܐ ܡܶܫܟ݁ܚܺܝܢ ܐܢ݈ܬ݁ܽܘܢ ܚܡܳܪܳܐ ܕ݁ܰܐܣܺܝܪܳܐ ܘܥܺܝܠܳܐ ܥܰܡܳܗ ܫܪܰܘ ܐܰܝܬ݁ܰܘ ܠܺܝ
( وقال لهما اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتانا مربوطة وجحشا معها فحلاهما و اتياني بهما ) ([47])܂
ܘܰܐܡܺܝܢ ܐܳܡܰܪ ܐ݈ܢܳܐ ܠܟ݂ܽܘܢ ܕ݁ܟ݂ܽܠ ܡܳܐ ܕ݁ܬ݂ܶܐܣܪܽܘܢ ܒ݁ܰܐܪܥܳܐ ܢܶܗܘܶܐ ܐܰܣܺܝܪ ܒ݁ܰܫܡܰܝܳܐ ܘܡܶܕ݁ܶܡ ܕ݁ܬ݂ܶܫܪܽܘܢ ܒ݁ܰܐܪܥܳܐ ܢܶܗܘܶܐ ܫܪܶܐ ܒ݁ܰܫܡܰܝܳܐ
( الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الارض يكون مربوطاً في السماء و كل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء ) ([48]) .
ويُلاحظ أن الكاتب قد استعمل اسم المفعول النكرة شرِا šəre بمعنى "محلول" ، واسم المفعول المعرفة منه شَريُا šaryā "المحلول" ، أى المحرر من القيد ، ولم يأت بمعنى الحلال .
وبتحليل كلمة شَريُا šaryā يتضح مايلى :
شَريُا šaryā : اسم مفعول مفرد مذكر معرفة، أو مفرد مؤنث نكرة، وذلك لأن السريانية تستخدم الألف المسبوقة بالفتحة الطويلة فى نهاية الاسم للدلالة على التعريف، أو التأنيث فى حالة الإطلاق، ويدل السياق على أنه مفرد مذكر معرف. أما الاسم المنكر فهو شرِا šəre من الفعل المعتل الآخر شرُا šərā "حرر – أطلق – حلَّ " .
ونرى أن الكسرة الممالة فى اسم المفعول النكرة شرِا ãəre ههى عبارة عن اجتماع ياء لام الفعل مع فتحة لمناسبة الألف ، وهى تشبه علامة جمع المذكر المعرفة ، كما نقول مَلكُا malkæ " الملك " للمفرد، والجمع منها مَلكًِا malke "الملوك"، فالكسرة الممالة هنا عبارة عن اجتماع ياء الجمع مع فتحة التعريف ، وتظهر الياء بعد حذف فتحة التعريف للإضافة ، فنقول مَلكًَي malkay .
ولذلك نجد أن التعريف من شرِا ãəre ترد فيه الياء ، فتصير شريُا šryā نحرك حرف الشين بالفتحة القصيرة لاجتماع حرفين ساكنين فى أول الكلمة ، فتصير شَريُا šaryā ، وتعد حركة الشين هى الفارق المميز بين اسم الفاعل واسم المفعول فى حالة التعريف ، فهى فتحة طويلة مع اسم الفاعل ، نقول شُريُا šæryā ، وفتحة قصيرة مع اسم المفعول ، نقول شَريُا šaryā .
وعلى ذلك يكون معنى شَريُا šaryā التى تُلفظ " سَريا " ـ على اعتبار أن الشين فى السريانية تقابل السين فى العربية ـ بمعنى اسم المفعول من الفعل " حرَّر " أى " المُحرَّر " . وقد فسر القرآن الكريم هذه الكلمة فى سورة آل عمران، فى قوله تعالى { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } ([49]) فامرأة عمران هذه، هى أم مريم عليهما السلام، التى نذرت أن يكون مافى بطنها المُحَرَّر، أى : الخالص لله عز وجل، الذى لايشوبه شىء من أمر الدنيا ، ولأن النذر لايكون إلا فى الغلمان ، فقد وفَّى الله النذر فى بنتها مريم، وجاء المُحَرَّر عيسى عليه السلام ليتحقق النذر .
القرآن ولغة السريان
[FONT=AF_Ahsa]د . أحمد محمد علي الجمل [/FONT]
قسم اللغة العبرية
كلية اللغات والترجمة
جامعة الأزهر
بحث منشور فى مجلة كلية اللغات والترجمة ـ جامعة الأزهر
عدد 42 لسنة 2007م
القـرآن ولغـة السـريان
ولغة السريان هى اللغة السريانية، وهى تعتبر واحدة من اللغات المعروفة باللغات السامية، كما أنها تعد امتداداً للغة الآرامية فى العصر المسيحى، حيث كانت فــى بادئ أمرها تسمى الآرامية، ويُعرف المتكلمون بها بالآراميين . والآرميون هم بنو آرام بن سام بن نوح عليه السلام . وكانوا يعيشون فى البلاد التي تسمي فى التوراة : "آرام" ([1]) ، وهي المعروفة ببلاد الشام والعراق .
وقد لاقت هذه اللغة انتشاراً واسعاً في البلاد الآرامية، وتجاوزتها إلى البلدان المجاورة، مثل أسيا الصغرى وأرمينيا، وصولاً إلى بلاد الصين والهند، وقد تبناها اليهود أنفسهم وفضلوها على اللغة العبرية، وكتبوا بها بعض أسفار الكتاب المقدس، واستمروا يتكلمون بها حتى زمن المسيح (2) . وكان المسيح نفسه يتحدث بها إلى تلاميذه، ومن ثم فإن إنجيله كان كتوباً بها، ذلك الذى لانجد له إلا نصاً مترجماً إلى اليونانية القديمة .
وبعد انتشار المسيحية فى بلاد الآراميين، جعل هؤلاء الذين اعتنقوها ينفرون من تلك التسمية القديمة، ويعدونها مرادفة للوثنية والإلحاد، لذلك سارعوا إلى الأخذ بكلمة سريان، تلك التسمية التى أطلقها عليهم اليونانيون الذين كانوا يحتلون بلادهم ( 312 ق.م ) وقد سموا لغتهم السريانية ، على حين ظل اسم الآراميين لصيقاً بسكان القرى الوثنية، وصـارت كلمة آرامى تطلق على الوثنى ، وكلمة سريانى تطلق على النصرانى ([2]) .
وقد يتساءل البعض ماعلاقة القرآن بلغة السريان؟ ونجيب فنقول : إن المستشرقين قد توهموا أن كلمة القرآن لفظة سريانية الأصل، وقبلوا النظرية التى قالها المستشرق الألمانى Schwally "شڤالى" ، وهى تعنى أن لفظة القرآن مأخوذة من الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā ([3]).
ولاشك أن الكاتب يهدف من ـ وراء ـ نظريته إلى اقناع القارىء أن هناك صلة وثيقة بين القرآن واللغة السريانية، وبمعنى آخر بين القرآن ولغة الإنجيل، وقد بدأ الكاتب بكلمة القرآن، لكى يوصل القارىء إلى التشكيك فى أصالة الألفاظ الرئيسية فى القرآن الكريم، وردها إلى أصول سريانية، وهو تمهيد لإقناع القارىء بأن القرآن الكريم لم ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولم يوح إليه ، بل أخذه لغة ومضموناً من المصادر السريانية المسيحية .
وقد اعتمد المستشرقون على الآراء التى أكدت على وجود ألفاظ أعجمية فى القرآن([4]) ، وأخذوا كتاب " الإتقان " للسيوطى ([5]) مصدراً أساسياً لتأكيد وجود كلمات أعجمية بصفة عامة، وكلمات سريانية بصفة خاصة فى القرآن.
ومن الأبحاث التى تناولت دراسة هذه الألفاظ، بحث بعنوان : " الاستدراك على السيوطى فيما نسبه من المعرب فى القرآن الكريم إلى العبرية والسريانية " للدكتور / محمد جلاء إدريس ([6]) ، حيث رد أكثر الألفاظ التى وردت فى كتاب الإتقان إلى أصول عربية، وقد جاءت نتائج دراسته فى خمس نقاط، هى :
1. عدم إلمام بعض علماء السلف باللغات السامية، ومن ثم كان حكمهم على كثير من الألفاظ التى لم تكن مستخدمة فى عصرهم أو بيئتهم بأعجميتها، وردها إلى العبرية والسريانية .
2. وجود تناقض بين آراء هؤلاء العلماء بدا واضحا فى نسبة بعض الكلمات إلى أسرتين متباينتين تماماً، كردهم بعض الألفاظ إلى أصل عبرى أو سريانى، وإلى أصل رومى فى نفس الوقت .
3. عدم التفرقة بين اليونانية واللاتينية عند استخدام مصطلح " رومى " مع وجود تباين بين اللغتين .
4. خلو منهج السيوطى من أى رؤية نقدية تجاه الألفاظ التى نقلها من السلف، على الرغم من وجود تناقضات فى كثير منها، كما يتضح عدم إلمام السيوطى باللغات .
5. اتضحت خطورة آراء السيوطى ونقله للألفاظ التى قيل بأعجميتها وإقراره لذلك فيما وجدناه عند المستشرقين وغيرهم من الباحثين، إذ اعتمدوا على هذه الآراء التى مهدت الطريق للطعن فى عروبة القرآن من جانب، وتأكيد الزعم القائل بأخذ النبى صلى الله عليه وسلم للقرآن لفظاً ومعنى من اليهود والنصارى ([7]) .
وهناك دراسات أخرى تناولت هذه الألفاظ فى إطار اللغة العربية فقط ، ومن ثم كانت نتائج دراساتهم تخص العربية دون غيرها ([8]) .
وعلى ذلك سنعرض اختلاف الأئمة فى وقوع المعرَّب فى القرآن الكريم كمقدمة للبحث، ثم نتناول بالدراسة الصرفية كلمة : " القرآن " لعدم تناول الأبحاث السابقة دراستها فى ضوء علم اللغة المقارن بين العربية والسريانية .
كما ستتناول دراستنا أيضاً لفظين وردا فى القرآن الكريم على لسان عيسى عليه السلام، اختلفت فيهما المصادر ، وهما ( سريا ـ أحمد ) .
أما لفظة { سريا } فقد وردت فى قوله تعالى :
{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً }([9]) .
وأما لفظة { أحمد } فقد وردت فى قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } ([10]) .
وبذلك تكون دراستنا الحالية مختلفة عن الدراسات السابقة، التى خلت منها هذه الألفاظ الثلاثة :
( القرآن ـ سريا ـ أحمد )
اختلاف الأئمة فى وقوع المعرَّب فى القرآن الكريم
اختلف الأئمة فى وقوع المعرَّب فى القرآن الكريم إلى ثلاث فرق، نعرضها بإيجاز على الوجه التالى :
1. استند الفريق الأول فى رأيه على ماورد فى القرآن الكريم من آيات صريحة بأنه لايوجد ألفاظ غير عربية فى القرآن الكريم، وبنى هؤلاء العلماء رفضهم وجود ألفاظ أعجمية فيه على قوله تعالى :
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} ([11]).
وقوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }([12]) .
ومن هؤلاء العلماء :
ـ الفقية الأصولى الإمام محمد بن إدريس الشافعى (ت204هـ ـ 820م) الذى شدد النكير على القائلين بوجود ألفاظ أعجمية فى القرآن الكريم .
ـ إمام فقه اللغة أبو عبيدة (ت210هـ ـ 835م) الذى استنكر بشدة أن يكون فى القرآن ألفاظاً غير عربية، لقول أبى عبيدة : إنما أُنزِل القرآن بلسان عربى مبين ، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول .
ـ المفسر والمؤرخ ابن جرير الطبرى (ت310هـ ـ 923م) الذى قال : إن ماورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو السريانية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد ([13]) .
2. الفريق الثانى : ذهب أصحابه إلى وجود بعض الألفاظ الأعجمية فى القرآن، وهذا لا يخرجه عن كونه { قُرْآناً عَرَبِيّاً } لأن القصيدة الفارسية تظل فارسية وإن وردت بها ألفاظاً غير فارسية ، وعن قوله تعالى { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } بأن المعنى من السياق "أكلام أعجمى ومخاطب عربى ! " ([14])
ومن هؤلاء القائلين بالألفاظ الأعجمية :
ـ ابن عباس (ت68هـ ـ 688م ) وتلميذه عكرمة (ت 105 هـ ـ 723 م ) وأبو موسى الأشعرى (ت42 هـ ـ 662 م ) .
ـ وقد أقر جلال الدين السيوطى ( ت 911 هـ ـ 1505م ) بوقوع الألفاظ الأعجمية، إذ نراه يقول : وأقوى مارأيته للوقوع ـ وهو اختيارى ـ ماأخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبى ميسرة التابعى الجليل، قال : فى القرآن من كل لسان " ([15]) .
3. الفريق الثالث : حاول أصحابه التوسط بين الفريقين السابقين، ومن هؤلاء أبو عبيدة القاسم بن سلام (ت 224هـ ـ 838 م ) الذى قال : والصواب عندى ـ والله أعلم ـ مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال إنها أعجمية فهو صادق، وقد مال إلى هذا القول الجواليقى وابن الجوزى وآخرون ([16]).
وقال ابن عطية ( ت546 هـ ـ 1152م ) بل كان للعرب العاربة التى نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسن بتجارات، وبرحلتى قريش، وبسفر مسافرين، كسفر أبى عمرو إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة، فعلَّقت العرب بهذا كله ألفاظاً أعجمية، غيَّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت فى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها فى أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربى الفصيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربى فكجهله الصريح بما فى لغة غيره، وكما لم يعرف ابن عباس معنى " فاطر " إلى غير ذلك، قال : فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها فى الأصل أعجمية، ولكن استعملتها العرب وعربتها فى عربية بهذا الوجه ([17]) .
أولاً : لفظ القرآن
ويرى الكاتب أن لفظة "القرآن" قد وردت فى الخط الكوفى القديم بدون همزة، هكذا "القران" ويرى أنها ـ بهذا الشكل ـ مشتقة من الفعل : "قرن" ، وليس من "قرأ". ومن ثم يرى الكاتب أن أفضل النتائج وأقربها قبولاً، أن مصطلح "القرآن" قد ظهر لأول مرة بظهور القرآن لكى يمثل كلمة قِريُنُا qeryānā السريانية ودلالتها. وقد بُنى على وزن عربى وهو فُعلان المشتق من "قرأ" ليكون مناسباً ومنسجماً مع التراكيب القرآنية العربية ([19]) .
ويستشهد الباحث الألمانى (لوكسنبرج) بدائرة المعارف الإسلامية باللغة الإنجليزية فى كتابه " القراءة السريانية للقرآن ـ مساهمة فى تفسير لغة القرآن" فيقول : إن هذه الدراسة تنطلق من حقيقة أساسية وهى أن مصطلح "قرآن" يمثل المفتاح لفهم اللغة القرآنية، وأن الغرب توصل إلى أن المفاهيم الحضارية مثل "قرأ" وكذلك "كتب" لايمكن أن تكون من أصل عربى. ولذلك يمكننا أن نفترض أنها قد انتقلت إلى المناطق العربية من الناحية الشمالية، ومادامت اللغة السريانية تمتلك ـ إلى جانب الفعل قرُا "قرأ" ـ الاسم قِريُنُا qeryānā بمعنيه : القراءة أو التلاوة ، فإن ذلك يقوى الظن بعدم كون مصطلح "القرآن" قد تطور فى العربية، وإنما هو لفظ مستعار من الكلمة السريانية على وزن فعلان .
ثم يقرر أن الأصل السريانى لكلمة "قرآن" الذى افترضه نولدكه فى كتابه Geschichte des Qorans "تاريخ القرآن" ([20]) قد انتشر منذ ذلك الحين فى الكتابات الغربية ، حتى إن الإشارة إلى الأصل المسيحى السريانى للقرآن فى الموسوعات الغربية صار أمراً بديهياً .
ويفترض (لوكسنبرج) أن الكتابة الصوتية العربية للفظة الآرامية السريانية قِريُنُا qeryānā لابد وأنها كانت تُنطق فى الأصل "قريان" ، وإن كانت النسخ الموجودة من القرآن حتى الآن لاتثبت الكتابة المفترضة، إلا أن المصطلح الآرامى السريانى يزيد من احتمالية الكتابة بهذا الشكل، وقد مر هذا المصطلح بمراحل أربع، كما يرى (لوكسنبرج) هى :
1. المرحلة الأولى : كانت الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā تكتب "قرين"، وتنطق "قريان".
2. المرحلة الثانية : حُذِف حرف الياء من قرين بلا عوض، فنشأت عنه الصيغة المختصرة :"قرن" المنطوقة بالمد بعد الراء "قران".
3. المرحلة الثالثة : أُدخلت الألف بعد ذلك إلى الصيغة الكاملة بنفس النطق السابق، فصارت: قران .
4. المرحلة الرابعة : أُلحقت الهمزة بالصيغة السائدة اليوم فى الإصدارات النموذجية للقرآن، فصارت: "قرءان" .
وقد أدى ذلك التطور إلى التخلى عن النطق الآرامى السريانى الأصلى قِريُن qeryān أمام النطق المعرب "قُرءان" على غرار "فُرقان" ([21]) .
أما A.Mingana "أ. مِنجانا" فقد قال علينا أن نلاحظ أن المعرفة الناقصة باللغات السامية إلى جانب العربية، غالباً ماتجعل استنتاجات العلماء المسلمين غير جديرة بالاعتماد، فضلاً عن كونها مضللة. وعلى الناقد أن يشدد من حرصه فى التعامل مع كتبهم، التى تعد ـ على أحسن الأحوال ـ ممهدات تاريخية للموضوع فقط .
ويستطرد " مِنجانا" قائلاً إن معالجة النص القرآنى بعيداً عن الشراح المسلمين، سيعطينا قدراً وفيراً من المعلومات الجديدة، وإن الكفايات الضرورية التى يجـب على الباحث أن يتسلح بها هى معرفة جيدة بالسريانية، والعبرية، والحبشية، إذ يبدو أن للغة الأولى تأثيراً واضحاً على نص القرآن. ويستدل على ذلك بقوله: إذا أخذنا العدد (100) كوحدة للتأثيرات الأجنبية على أسلوب القرآن ومصطلحاته ، فإننا نستطيع أن نورد بثقة ـ لحدٍ ما ـ النسب التالية : الحبشية تمثل 5 بالمئة من الكل، والفارسية حوالى 5 بالمئة، والعبرية 10 بالمئة، واليونانية واللاتينية 10 بالمئة، والسريانية حوالى 70 بالمئة ([22]).
لقد أنكر المستشرقون على القرآن أن يكون من عند الله، كما استعظموا أن يكون من تأليف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدون الرجوع إلى المصادر النصرانية، فخاضوا بغير علم فى إثبات نقل كلمة "القرآن" من السريانية، وهم بذلك يستدلون بعجمة اللفظ على عجمة الفكر، وهذا يتضح من عنوان مقالة "منجانا" الذى استعمل كلمة "أسلوب القرآن" بدلاً من "ألفاظ القرآن" .
وإذا كان "منجانا" قد ذكر أن علماء المسلمين كانت نتائجهم غير صحيحة لعدم إلمامهم باللغات السامية، فإننا نرى أنهم قدموا الكثير من الدراسات اللغوية فى القرآن الكريم، ولا نقلل من جهودهم العظيمة فى هذا المجال، وكما أن العلم البشرى يكمل بعضه البعض، فإننا سنقدم تحليلاً لكلمة القرآن فى ضوء علم اللغة المقارن بين العربية والسريانية للوصول إلى أصلها .
قِريُنُا qeryānā والقرآن
تستعمل السريانية الفعل قرُا rāəq الذى يقابل فى العربية قَرَأَ qara’a وفى العبرية קָרָא qārā .
ونلاحظ ـ هنا ـ أن العربية قد احتفظت بحركة الحرف الأخير (الحركة الإعرابية) بينما حُذفت تلك الحركة فى العبرية والسريانية، فأدى حذفها فى اللغتين الأخيرتين إلى إطالة الحركة السابقة عليها، مع تخفيف الهمزة، وتفصيل ذلك فيما يلى :
فى العربيـة قَرَأَ qara’a
فى السريانية قرُا rāəq → qəra’ → qara’a
فى العبريـة קָרָא qārā → qāra’ → qara’a
وقد أدى تخفيف الهمزة فى الأفعال المهموزة اللام فى السريانية إلى اختلاطها بالأفعال الناقصة، فبعد سقوط حركة الهمزة وتخفيفها بإطالة الحركة السابقة عليها، صارت الأفعال المهموزة اللام فى السريانية كالأفعال الناقصة فيها، وقد صيغت معظم الأفعال المهموزة قياساً على الأفعال الناقصـة ([23]) . فصارت الأفعال المهموزة، مثل :الفعل ملاُməlā "ملأ "، والفعـل قرُا rāəq "قرأ" ، والفعل سنُا sənā "شَنَأَ ـ أبغض" ، كالأفعال الناقصة، مثل: نشُا nəšā " نسى" ، رمُا rəmā " رمى " .
وأدى ذلك إلى ظهور الياء لفظاً وخطاً فى المصدر الاسمى ، فنقول قرُيُا qərāyā "القراءة" من الفعـل قرُا rāəq "قرأ" المهموز الأصل، مثل : رمُيُا rəmāyā "الرمى" من الفعل رمُا rəmā "رمى" الناقص بالياء .
فوجود الفعل ـ قرُا rāəq الذى يقابل فى العربية قَرَأَ qara’a وفى العبرية קָרָא qārā ـ فى اللغات السامية الثلاثة، يدل عل أن هذا الجذر سامى الأصل، والياء بعد الراء فى قِريُنُا qeryānā منقلبة عن همزة، والنون للنسب فى اللغتين وبيانها كالتالى :
من المعروف الآن أن مورفيم ([24])النسب فى اللغة العربية والسريانية له ثلاث ألومورفات، كلها مقيدة فى نهاية الاسم، وتختلف دلالة الاسم المنسوب باختلاف الألومورف([25])، نعرض اختلاف هذه الدلالات، فيما يلى :
1. ألومورف الياء : يدل على النسب الحقيقى إذا كان المنسوب إليه علماً لشخص أو مكان. الغرض منه ـ فى هذه الحالة ـ هو جعل المنسوب من آل المنسوب إليه، مثل: اَبرُؤُمُيُاabrāhāmāyā’ "إبراهيمى" نسبة إلى اَبرُؤُم abrāhām’ "إبراهيم"، وكلمة اٌورشلِمُيُا ’ūršəlemāyā "أورشليمى" نسبة إلى اٌورشلِم ’ūršəlem "أورشليم". كما يدل ألومورف الياء أيضا على النسب التقليدى إذا كان المنسوب إليه اسم جنس، وهنا يكون الغرض منه هو اكتساب المنسوب صفة المنسوب إليه، مثل: كيُنُيُا kəyānāyā "طبيعى" نسبة إلى كيُنُا kəyānā "الطبيعة".
2. ألمورف النون : يدل على النسب الذاتى إذا كان المنسوب إليه اسم جنس، حينئذ يكون الغرض منه، هو إظهار صفة ذاتية للمنسوب، مثل : سَؤرُنُُا sahrānā " هلال ـ قمري " نسبة إلى سَؤرُا sahrā " القمر" إذ هو الهلال على سبيل الحقيقة. غير أنه قد يُطلق على الشخص على سبيل المبالغة. لأننا نلاحظ أن لفظ سَؤرُنُُا sahrānā فى السريانية، يتوافق فى دلالته مع العربية، لأن السهر مرتبط بالقمر.
3. ألمورف النون والياء : يدل على النسب الشبيه بالذاتى إذا كان المنسوب إليه ذاتياً، ويكون الغرض منه هو إظهار صفة شبه ذاتية للمنسوب، مثل : روٌحُنُيُا rūhānāyā " روحانى " نَفشُنُيُا nafšānāyā " نفسانى " وإن كنا نرى أن النسب الشبيه بالذاتى قد مر بمرحلتين، الأولى: النسب بالنون المسبوقة بالفتحة الطويلة، والثانية: النسب بالياء ([26]).
أما علماء اللغة العربية فلم يذكروا النسب بالنون، على الرغم من وجود كلمات كثيرة من هذا النوع فيها، ونرى أن النســب الذاتــي (بالنون) الذى يأتى على سبيل الحقيقة، يتجلى بوضوح في كلمة: " الرحمن " فهي صفة ذاتية لرب العزة تدل على أن المنسوب هو ذات المنسوب إليه حقيقة. لذلك نرى افتتاحية سور القرآن الكريم بقوله تعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم }
فكلمة (الرحمن) تدل على الرحمة ، وكلمة (الرحيم) تدل على الرحمة أيضاً، إلا أن كلمة (الرحمن) تدل على صفة ذاتية لا يجوز اتصاف غيره بها. أما كلمــة (الرحــيم) فهــي تدل على صفة عامة يجوز اتصاف غير الله بها. وقد وصف رب العزة رسوله بأنه رحيم فى قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}([27])، الأمر الذى يعطينا دلالة للنون المسبوقة بالفتحة الطويلة، تكمن فى أن الرحمة فى الرحيم، هى صورة من صور الرحمة، حتى ولو كانت رحمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما الرحمة فى الرحمن فهى حقيقة الرحمة، فالنسب بالنون يعطى حقيقة الرحمة وذات الرحمة، أما ماعداها فهو صورة من صور الرحمة.
ونرى أن النسب الذاتي الذى يأتى على سبيل الحقيقة، يتضح لنا فى كلمة {الحيوان}* التى وردت فى قوله تعالى : { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ([28]) فكلمة { الحيوان } هى صفة ذاتية للدار الآخرة تدل على أن المنسوب " الدار الآخرة " هو ذات وأصل المنسوب إليه " الحياة ".
وهذا أمر له دلالة عظيمة، هى أن الحياة الدنيا صورة من صور الحياة، أما الحياة فى الدار الآخرة فهى الحيوان أي حقيقة الحياة، وقس على ذلك الفرق بين القراءة والقرءان ، فالقراءة فى أى كتاب هى صورة للقراءة ، أما القرءان فهو حقيقة القراءة، وكذلك الفرق بين الرضى والرضوان والفرق والفرقان ([29]).
وهناك شواهد كثيرة على وجود مورفيم النون المسبوقة بالفتحة الطويلة للدلالة على النسب الذاتى فى كلام الشعراء العرب قبل نزول القرءان، نذكر منها على سبيل :
قول عنترة بن شداد
يا طائِراً قَد باتَ يَندُبُ إِلفَــهُ وَيَنـوحُ وَهوَ مُوَلَّهٌ حَـيرانُ
وقول المُتَنَخّل
لَو أَنَّهُ جاءَني جَوعانُ مُهتَلِكٌ مِن بُؤَّسِ الناسِ عَنهُ الخَيرُ مَحجوزُ
وقول شمر الحنفى
غَضْبانَ ممتلئاً عليَّ إهابـهُ إنّي وربِّكَ سُخْطُــهُ يرْضينــي([30]).
ولنا أن نسأل : ماالفرق بين حائر وحيران، وجائع وجوعان، وغاضب وغضبان ؟
فالكلمة بدون النون المسبوقة بالفتحة الطويلة تدل على صفة فى الفاعل. أما الاسم المنسوب بالنون المسبوقة بالفتحة الطويلة، فإنه يدل على أن المنسوب من جنس المنسوب إليه وذاته وحقيقته، وكأنه يقول فى ظمآن أنا الظمأ الذى يشعر به الناس على سبيل المبالغة .
ومما سبق نعلم أن قِريُنُا qeryānā القاف والراء فيها من أصل الفعل قرُا qərā والياء منقلبة عن الهمزة، والنون المسبوقة بالفتحة الطويلة من النسب الذاتى، والألف المسبوقة بالفتحة الطويلة ـ التى تنطق كما لو كانت فتحة طويلة لأن الألف مد للفتحة الطويلة قبلها ـ فى نهاية الاسم للتعريف .
وعلى ذلك يمكننا تحليل كلمة قِريُنُا على النحو التالى :
قِريُنُا qeryānā اسم مفرد مذكر معرفة، النكرة منه قِريُن qeryān وهو اسم منسوب بالنون للدلالة على النسب الذاتى، أما المنسوب إليه قرُيُا qərāyā " القراءة " فالنكرة منه قرُي qərāy ، وبإضافة نون النسب المسبوقة بالفتحة الطويلة ُن ān أعنى قرُي + ُن = قرُيُن qərāyān وبعد حذف حركة الراء (وفقاً لقاعدة : إذا تحرك الآخر سكن ماقبله) فتصير قريُن qəryān ثم نحرك حرف القاف (وفقاً لقاعدة : إذا اجتمع ساكنان فى أول الكلمة نحرك الأول بالكسرة الممالة) فتصير قِريُن qeryān" قراءة " (وإذا أريد تعريفها فى اللغة السريانية بالألف المسبوقة بالفتحة الطويلة فى نهاية الاسم) تصير قِريُنُا qeryānā .
وإذا نظرنا إلى الاسم المنسوب إليه قرُيُا qərāyā نجد أنه قد وافق المعنى الذى ورد مع الاسم قِريُنُا qeryānā وهذا يجعلنا نسأل سؤالاً: ما الفرق بين دلالة اللفظين ؟ ونجيب فنقول : إن قرُيُا qərāyā تعنى صورة القراءة، أما قِريُنُا qeryānā فتعنى حقيقة القراءة، وهو تعبير شائع فى العربية والسريانية، وهو استعمال النون للدلالة على ذات الشىء وحقيقته، وهذا النوع لم يكن مقتصراً على هذه الكلمة، فاللغة السريانية بها كلمات من هذا النوع ([31]) وعلى الوزن نفسه نجد كلمة نِشيُنُا nešyānā " نسيان " وهى من الفعل الناقص نشُا nəšā "نسى" ، بالمقارنة مع كلمة قِريُنُا qeryānā من الفعل قرُا qərā .
وعلى ذلك فإن الافتراض الذى طرحه المستشرقون، ومفاده أن كلمة "القرآن" مأخوذة من الكلمة السريانية قِريُنُا qeryānā ، أمر لايقبله البحث العلمى، ناهيك عن أنه محض وهم وافتراء، وذلك وفقاً لرؤيتنا التالية :
وجود جذر القاف والراء والهمزة فى اللغات الثلاث ـ ففى العربية قَرَأَ qara’a وفى العبرية קָרָא qārā وفى السريانية قرُا rāəq ـ إنما يدل بوضوح على أنه جذر سامى الأصل ، هذه واحدة .
الثانية : افترض (لوكسنبرج) أن كلمة " القرآن " قد مرت بمراحل أربع لكى تصل إلى هذه الصيغة، بداية من اللفظ السريانى قِريُنُا qeryānā إلى كلمة "قرآن"، ونحن نقول : العكس هو الصحيح ، لأن معظم الأفعال المهموزة فى اللغة السريانية قد صيغت قياساً على الأفعال الناقصة بالياء، وصار الفعل قرُا qərā " قرأ " مثل الفعل نشُا nəšā " نسى " كما قُلبت الهمزة ياءً ـ لفظاً وخطاً ـ فى المصدر الاسمى والاسم المنسوب، حيث نقول فى المصدر الاسمى قرُيُا qərāyā " القراءة "، ونقول فى الاسم المنسوب بالنون قِريُنُا qeryānā على وزن الأفعال المعتلة الآخر بالياء، تماماً مثل نِشيُنُا nešyānā "نسيان" .
وعلى ذلك فالسريانية هى التى مرت بمراحل صوتية وصرفية ، كانت بدايتها تسهيل الهمزة، وانتهت بقلب الهمزة ياء لفظاً وخطاً ، على حين احتفظت العربية بالهمزة لفظاً وخطاً فى الفعل " قرأ " والمصدر " قراءة " والاسم المنسوب بالنون " قرءان " .
وإذا كان المستشرقون قد افترضوا أن كلمة " القرآن " مشتقة من الفعل "قرن" وأن النون أصلية فى الكلمة، فهذا افتراض لا أساس له من الصحة، لأن النون ـ كما أوضحنا ـ هى مورفيم مشترك، مستخدم فى اللغتين العربية والسريانية، للدلالة على النسب الذاتى سواء، أكان على سبيل الحقيقة، أم المجاز.
ثانيــا : لفظ ( سَــرٍِِيّـا )
ذكر الطبرى( 310هـ ) فى تفسيره : { فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها } بـمعنى: فناداها جبرائيـل من بـين يديها علـى اختلاف منهم فـي تأويـله فمن متأوّل منهم إذا قرأه { مِنْ تـحْتِها } كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى، وأنه ناداها من تـحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: «فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها» بفتـح التاءين من تـحت، بـمعنى: فناداها الذي تـحتها، علـى أن الذي تـحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه، أما تسمع الله يقول:{ فأشارَتْ إلَـيْهِ } ولـم تشر إلـيه إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حالته تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: { أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } . وعن مجاهد {سريا} قال نهر بالسريانية ، و حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: هو الـجدول، النهر الصغير، وهو بـالنبطية ([33]) : السريّ. وحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } والسريّ: عيسى نفسه.وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } يعنـي نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها، ولا يكون النهر تحتها ([34]).
وقال القرطبى ( ت671 هـ ) فى تفسيره : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قرىء بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ«ـمن» جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقاله علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيـم {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير النداء، «وأَنْ» مفسرّة بمعنى أي؛ المعنى: فلا تحزني بولادتك. { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يعني عيسى. والسريّ من الرجال العظيم الخصال السيّد. قال الحسن: كان والله سريّا من الرجال. ويقال: سَرِي فلان على فلان أي تكرم. وفلان سريٌّ من قوم سَرَاة. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريباً من جذع النخلة ([35]).
وقال ابن كثير ( ت774هـ ) فى تفسيره : قرأ بعضهم: { مَنْ تحتَها } بمعنى الذي تحتها، وقرأ الآخرون: { مِن تَحْتِهَا } على أنه حرف جر ، واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام، أي: ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قال: عيسى بن مريم، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها، وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها، قال: أولم تسمع الله يقول: { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } وقوله: { أَلاَّ تَحْزَنِي } أي: ناداها قائلاً: لا تحزني { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال: الجدول، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السري: النهر، وبه قال عمرو بن ميمون: نهر تشرب منه. وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير: السري: النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية. وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر([36]) .
كلمـة { تـحـت }
روى السيوطى عن أبى القاسم صاحب كتاب " لغات القرآن " أن كلمـة { تحت } نبطية تعنى البطن([37]) ، واتخذ لوكسنبرج رأى السيوطى ـ نقلاً عن أبى القاسم ـ منطلقاً اعتمد عليه فى إثبات عجمة الكلمة ، وأشار إلى أن كلمة { تحت } لا أصل لها فى العربية، وأنها مشتقة من الفعل السريانى نحِة nəhe½ "نزل – انحدر" المشتق منه الفعل العربى "نحت" المفهوم منه نحت الحجر وغيره لتسويته أو صقله، وأنه علينا أن نفهم حرف "من" ليس بمعنى ظرف المكان {من تحتها} بل يجب أن نفهمها على أنها ظرف زمان أى : حال وضعها، ثم يوضح أن معنى الوضع والولادة فى الفعل نحِة nəhe½ "نزل – انحدر" لم يرد فى المراجع السريانية، وإنما ورد فى فعل مرادف له وهو نفَل nəfal "هبط" ولأن القرآن الكريم لم يرد منه سوى الفعل "ولد" و "وضع" للتعبير عن الولادة الطبيعية، فقد جاء بهذا التعبير الذى لم يرد إلا فى هذه الآية تعبيراً عن ولادة عيسى – عليه السلام – غير الطبيعية، ويكون معنى الآية { فناداها حال وضعها ألا تحزنى قد جعل ربك وضعك سريا } ([38]) .
ادعى لوكسنبرج أن كلمة { تحت } لا أصل لها فى العربية، وبالبحث فى الشعر الجاهلى وجدنا مائة وعشرين بيتاً لستة وأربعين شاعراً يستعملون كلمة "تحت" بمعنى الظرف، نذكر منها على سبيل المثال :
قول عنترة :
فَعَيشُكَ تَحتَ ظِلِّ العِزِّ يَوماً وَلا تَحتَ المَذَلَّةِ أَلفَ عامِ
لَها مِن تَحتِ بُرقُعِها عُيونٌ صِحاحٌ حَشوُ جَفنَيها سَقامُ
وقول سعية بن غريض :
أحياؤهُم خزيٌ على أمواتهم والميتونَ شرارُ مَن تحتَ الثرَى
وجاءت كلمة تحت مضافة إلى الضمائر، بمعنى الظرف أيضاً، نذكر منها على سبيل المثال :
قول المهلهل بن ربيعة :
لَيتَ السَماءَ عَلى مَن تَحتَها وَقَعَت وَحالَتِ الأَرضُ فَاِنجابَت بِمَن فيها([39]).
وذلك كله يؤكد استعمال العربية لكلمة " تحت " بمعنى الظرف قبل نزول القرآن الكريم .
وإذا نظرنا إلى هذه الكلمة فى اللغات السامية الثلاثة، وجدناها كمايلى :
فى العربيـة تحت ta…t
فى السريانية ةَحة ta…t
فى العبريـة תַחַת ta…at
وبمقارنة اللفظ ومعناه فى اللغات الثلاث السابقة، نجد أنها تشير إلى اتفاق فى اللفظ والمعنى، الأمر الذى يؤكد لنا أن هذه الكلمة من المشترك السامى، دون أن تختص بها السريانية أو النبطية .
شَريُا šaryā وسَرِيَّا
نقل السيوطى عن ابن حاتم عن مجاهد أن كلمة " سريا " هى النهر بالسريانية ([40])، ويرى الدكتور جلاء إدريس أن مقارنة كلمة " سريا " فى القرآن الكريم بنظائرها فى السريانية وغيرها من اللغات السامية، تشير إلى عدم وجود مقابل اسمى لفظاً ومعنى، وأنه ربما كانت لفظة "السرى" بمعنى النهر الصغير فى العربية مأخوذة من الفعل "سرى" بمعنى : مضى، ومنه كذلك السارية وهى السحابة، ويرى بذلك أنها ليست مستعارة من السريانية أو غيرها، وأنها عربية ذات أصل سامى([41]) .
وأشار لوكسنبرج إلى ماجاء عند الطبرى الذى نقل عن مجاهد والضحاك وسعيد بن جُبير أن كلمة {سريا} تعنى نهر بالسريانية أو النبطية، وهو مايتناسب عندهم مع قوله تعالى { فكلى واشربى } ([42]) . ويرى لوكسنبرج أن هذا المعنى لا يتناسب مع قول السيدة مريم { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } ([43]) الذى لم يأت عن خوف من الموت عطشاً، ولكن جاء من خوفها لاتهام قومها لها بالحمل الحرام، كما ورد فى قوله { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } ([44]) .
ثم يتناول لوكسنبرج الفعل "انتبذت" فى قوله تعالى { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً } ([45]) الذى يرى أنه جاء على صيغة المجهول، مستشهداً بجواز ذلك فى النحو السريانى الذى يجيز استخدام المجهول مع ذكر الفاعل، فمعنى الفعل " انتبذت " عنده : طُردت من أهلها . وإن كان يرى أنه لايعقل أن يكون أول كلام ينطق به عيسى – عليه السلام – لأمه لكى يخفف عنها حزنها، لفظة تشير إلى ماء جعله ربُها تحتها، إنما المنطقى أن يكون فى كلامه مايخفف عنها ويزيل هذا العار الذى لُصق بها.
ولما كان عكـس "ابن الحرام" عند العامــة "ابن الحلال" يرى أن كلمة شَريُا šaryā صفة فعلية مشتقة من الفعل السريانى شرُا šərā "حل" وبذلك تكون كلمة "سريا" بمعنى "الحلال"، وهو يرى بذلك أنه يجب قراءة الآية كمايلى: فناداها من نُحاتها ألا تحزنى قد جعل ربك نُحاتك شريا ، ويكون المعنى الاجمالى للآية : فناداها حال وضعها ألا تحزنى قد جعل ربك وضعك حلالاً ([46]).
وأتفق هنا مع لوكسنبرج فى أن كلمة { سريا } سريانية الأصل، وليست بمعنى النهر. لأنه بالبحث فى نصوص اللغة السريانية ومعاجمها المتعددة، وجدنا أنها تستخدم لفظة واحدة للنهر، وهى نَؤرُا ānahr وهى التى تقابل كلمة "نَهر" فى العربية لفظاً ومعنى، وهو مايدل على أن هذه الكلمة من المشترك السامى، كما أننا لم نجد فى العربية كلمة السرى بمعنى النهر .
على أننى اختلف مع لوكسنبرج فى معنى كلمة { سريا } الذى ذكر أنها بمعنى "الحلال" وذلك لأن كلامه لا يستند إلى قاعدة لغوية ينطلق منها لإثبات هذا المعنى البعيد الذى يرى فيه أن كلمة شَريُا šaryā صفة فعلية بمعنى "الحلال" عكس "الحرام" من الفعل شرُا šərā بمعنى " حَلَّ " وذلك لأن الفعل شرُا لا يأتى بمعنى حَلَّ الشىء حلالاً أى صار مباحاً ، ولكن يأتى بمعنى "حرَّر" و "أطلق" ، ويكون معنى حَلَّ هنا التحرر من القيد ، ويظهر ذلك بوضوح من استخدام الفعل فى الأناجيل السريانية ، مثل :
ܘܶܐܡܰܪ ܠܗܽܘܢ ܙܶܠܘ ܠܰܩܪܺܝܬ݂ܳܐ ܗܳܕ݂ܶܐ ܕ݁ܰܠܩܽܘܒ݂ܰܠܟ݂ܽܘܢ ܘܡܶܚܕ݂ܳܐ ܡܶܫܟ݁ܚܺܝܢ ܐܢ݈ܬ݁ܽܘܢ ܚܡܳܪܳܐ ܕ݁ܰܐܣܺܝܪܳܐ ܘܥܺܝܠܳܐ ܥܰܡܳܗ ܫܪܰܘ ܐܰܝܬ݁ܰܘ ܠܺܝ
( وقال لهما اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتانا مربوطة وجحشا معها فحلاهما و اتياني بهما ) ([47])܂
ܘܰܐܡܺܝܢ ܐܳܡܰܪ ܐ݈ܢܳܐ ܠܟ݂ܽܘܢ ܕ݁ܟ݂ܽܠ ܡܳܐ ܕ݁ܬ݂ܶܐܣܪܽܘܢ ܒ݁ܰܐܪܥܳܐ ܢܶܗܘܶܐ ܐܰܣܺܝܪ ܒ݁ܰܫܡܰܝܳܐ ܘܡܶܕ݁ܶܡ ܕ݁ܬ݂ܶܫܪܽܘܢ ܒ݁ܰܐܪܥܳܐ ܢܶܗܘܶܐ ܫܪܶܐ ܒ݁ܰܫܡܰܝܳܐ
( الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الارض يكون مربوطاً في السماء و كل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء ) ([48]) .
ويُلاحظ أن الكاتب قد استعمل اسم المفعول النكرة شرِا šəre بمعنى "محلول" ، واسم المفعول المعرفة منه شَريُا šaryā "المحلول" ، أى المحرر من القيد ، ولم يأت بمعنى الحلال .
وبتحليل كلمة شَريُا šaryā يتضح مايلى :
شَريُا šaryā : اسم مفعول مفرد مذكر معرفة، أو مفرد مؤنث نكرة، وذلك لأن السريانية تستخدم الألف المسبوقة بالفتحة الطويلة فى نهاية الاسم للدلالة على التعريف، أو التأنيث فى حالة الإطلاق، ويدل السياق على أنه مفرد مذكر معرف. أما الاسم المنكر فهو شرِا šəre من الفعل المعتل الآخر شرُا šərā "حرر – أطلق – حلَّ " .
ونرى أن الكسرة الممالة فى اسم المفعول النكرة شرِا ãəre ههى عبارة عن اجتماع ياء لام الفعل مع فتحة لمناسبة الألف ، وهى تشبه علامة جمع المذكر المعرفة ، كما نقول مَلكُا malkæ " الملك " للمفرد، والجمع منها مَلكًِا malke "الملوك"، فالكسرة الممالة هنا عبارة عن اجتماع ياء الجمع مع فتحة التعريف ، وتظهر الياء بعد حذف فتحة التعريف للإضافة ، فنقول مَلكًَي malkay .
ولذلك نجد أن التعريف من شرِا ãəre ترد فيه الياء ، فتصير شريُا šryā نحرك حرف الشين بالفتحة القصيرة لاجتماع حرفين ساكنين فى أول الكلمة ، فتصير شَريُا šaryā ، وتعد حركة الشين هى الفارق المميز بين اسم الفاعل واسم المفعول فى حالة التعريف ، فهى فتحة طويلة مع اسم الفاعل ، نقول شُريُا šæryā ، وفتحة قصيرة مع اسم المفعول ، نقول شَريُا šaryā .
وعلى ذلك يكون معنى شَريُا šaryā التى تُلفظ " سَريا " ـ على اعتبار أن الشين فى السريانية تقابل السين فى العربية ـ بمعنى اسم المفعول من الفعل " حرَّر " أى " المُحرَّر " . وقد فسر القرآن الكريم هذه الكلمة فى سورة آل عمران، فى قوله تعالى { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } ([49]) فامرأة عمران هذه، هى أم مريم عليهما السلام، التى نذرت أن يكون مافى بطنها المُحَرَّر، أى : الخالص لله عز وجل، الذى لايشوبه شىء من أمر الدنيا ، ولأن النذر لايكون إلا فى الغلمان ، فقد وفَّى الله النذر فى بنتها مريم، وجاء المُحَرَّر عيسى عليه السلام ليتحقق النذر .