الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين
وبعد فقد طرحت هذا السؤال :
هل كان للرسول صلى الله عليه وسلم ما يشهد بصدق رسالته في نفوس الناس وواقع حياتهم؟
السؤال عن مضمون الرسالة وليس عن ما كان يتحلى به الرسول صلى الله عليه وسلم من أخلاق فاضلة تدل على صدقه فيما يخبر به.
هل للقضايا الرئيسة التي تضمنتها الرسالة ما تستند إليه في نفوس المدعوين وواقع حياتهم؟
فأجاب بعض الإخوة وسالت أودية بقدرها ، وأحجم آخرون مع ظني أن فيهم من هو أقدر مني على بيان الأمر ، ولعل العنوان الذي وضع تحته السؤال قد يكون هو السبب في إحجامهم ، وما أردت به إلا الخير ، واستثارة الهمم ، ولفت النظر إلى القضية التي قد يكون غفل عنها البعض في هذا الباب.
على أي حال أقول:
القضايا الرئيسة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالة من سبقه من الأنبياء ثلاث :
الأولى : وهي الأهم، أشار الله إليها بقوله : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) سورة يوسف(108)
الثانية : أشار الله إليها بقوله : (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) سورة هود(4)
الثالثة : اشار الله إليها بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) سورة فاطر (24)
الله ، البعث ، النبوة ، هذه هي القضايا الرئيسة في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل واحدة منها مرتبطة بالأخرى ارتباطا وثيقاً.
والسؤال مرة أخرى حتى يتبين المقصود:
هل كانت نفوس الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من بلغته أو تبلغه هذه الرسالة خالية عن أي فكرة حيال هذه القضايا الثلاث ؟
والجواب بلا شك : لا ، لم تكن نفوسهم ولا تأريخهم خالية من هذه القضايا.
أما نفوسهم فإن هذه القضايا لها مستندها من فطرتهم وعقولهم.
وأما تأريخهم فإن البشرية منذ يومها الأول على هذه الأرض لم تنقطع عن التذكير بهذه القضايا .
ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت لتذكر بالفطرة وتُجليها وتٌزيل عنها الشوائب التي رانت عليها وأظلمت النفوس أو انحرفت بسببها ، وكذلك جاءت لتخاطب العقل وتذكره بشواهد الحق المغروس في الفطر وتصحح الأفكار والمفاهيم المبنية على التقليد لا على العقل والتفكير، وفي نفس الوقت تذكره بالمسار الصحيح في تأريخ البشرية وما طرأ عليه من انحراف.
ولنأخذ القضية الأولى كمثال:
معرفة الله تعالى مغروسة في الفطرة، ولولا أنها كذلك لما كان للرسل أن يحتجوا على أقوامهم بها كما في قوله تعالى:
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)) سورة إبراهيم
وقوله تعالى:
(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)) سورة الإسراء
إذن القضية محسومة من ناحية الدليل الفطري والعقلي ، ولكنها قد تواجه بالجحود والاستكبار ، كما أخبر الله بذلك في قوله عن آل فرعون :
(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) )سورة النمل
وقوله عن كفار قريش :
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) سورة الأنعام(33)
ومن هنا نخلص إلى القول :
إن المعنى الذي تحمله الرسالة كافٍ لحمل الناس على قبولها ، فكيف إذا جاء المعنى في قالب من الكلام إذا سمعه الإنسان تحرك وجدانه واهتزت أركانه ، كلام يخاطب الفطرة فيعيد لها صفاءها ونقاءها ، ويخاطب العقل فلا يجد بدا من التسليم والخضوع.
وتعالوا نرى الدليل على أن المعنى وحده كافٍ لتوصيل الحق وإقامة الحجة:
روى مسلم رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
"أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ.
فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ.
قَالَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بَعْدُ."
قَالَ: فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ . فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
قَالَ: فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ .
قَالَ: فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ : فَبَايَعَهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى قَوْمِكَ قَالَ وَعَلَى قَوْمِي قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً فَقَالَ رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ.
وهذا الأمر يفسر لنا قبول الكثيرين من غير أهل اللسان العربي للإسلام بمجرد أن تُشرح لهم تعاليمه حتى دون أن يسمعوا شيئاً من القرآن ، وهو سر تمسكهم به والعض عليه بالنواجذ مهما كان الثمن ، ولنا في مسلمي الصين وما يسمى بالجمهوريات الروسية وغيرهم من غير الناطقين بالعربية في مجاهل القارة السوداء وغيرها من أصقاع الدنيا أعظم شاهد.
وأما أثر اللفظ أي لفظ القرآن على من سمعه فلا ينكر وسواء من عرف المعنى أو لم يعرفه والشواهد على هذا كثيرة وإليكم هذا الرابط لتروا الحقيقة بأعينكم:
http://www.isyoutube.com/musicvideo.php?vid=dcf89ec61
إن الإعجاز في الرسالة هو في الحقائق التي تحملها وتستند فيها إلى الفطرة والعقل والتأريخ الإنساني .
وختاماً أقول هذه إشارة ومفتاح للجواب عن السؤال المطروح ولعل في الإخوة الفضلاء من هو أقدر مني على بيان هذا الأمر وتجليته.
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً صواباً.
وفق الله الجميع لما فيه الخير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.