ضابط اتجاهات النحاة المتأخرين في الاستشهاد بالحديث في النحو

إنضم
29/10/2023
المشاركات
51
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
الإقامة
ليبيا
ضابط اتجاهات النحاة المتأخرين في الاستشهاد بالحديث في النحو:
عندما ظهر في آخر القرن السادسِ نحاةٌ في الأندلس يجيزون الاستشهادَ بالحديث مطلقًا، ويُكثرون منه بصورةٍ لم تُعهَد عند المتقدمين، ويعتمدون عليه في وضعِ قواعدَ جديدةٍ أو الاستدراك على قواعد على الأولين - ظهرت حينئذ طائفةٌ أخرى تُعارِضُ هذا الاتجاه، وهكذا بدأ البحثُ في هذه المسألة والنقاشُ حولَها، ونتج عن هذا تعددُ الآراءِ في هذه القضية، إلا أنه يمكن إجمالُ اتجاهاتهم النظرية في ثلاثة اتجاهات(1)، هي: المنع مطلقا، والتجويز مطلقا، والتوسط بين المنع والتجويز.
وعند النظر في كلامِ مَن يصنفون النحاة إلى هذه الاتجاهات نجد أن منهم لم يضعوا ضابطًا لكل صنف أصلًا، ومنهم مَن وضعوا ولكن لم تكن ضوابطهم واضحة، أو لم تكن مقنِعة بسبب أنها مبنية إما على عدد الأحاديث المستشهد بها دون النظر في نوعها، وإما على عدم التفريق بين أغراض الاحتجاج.
وبعض الباحثين وضعوا ضوابط تستحق الاعتماد -من وجهة نظري القاصرة-؛ لأنها واضحة، ومنضبطة، ومُقنِعة، وحاولتُ أن أورِدَ عليها اعتراضاتٍ تنقضُها أو تبيِّنُ تناقُضَها فلم أُفْلِح؛ ولذلك اعتمدتُها في بحثي دون غيرها. وهي على النحو الآتي:

1- ضابط المانعين:
المنع من الاستشهاد بالحديث مطلقًا هو مذهب طائفة قليلة من النحاة(2)، والأرجح أنّ هذا المنع كانَ ردَّةَ فعلٍ نظريةً مِن ابن الضائع وأبي حيان بسببِ توسُّعِ ابن خروف وابن مالك في الاستشهاد بالحديث(3)، ثم أخذَه عن الأوَّلَيْن غالبُ أهلِ هذا الاتجاه. ويدل لهذا الاستنتاج أن ابن الضائع وأبا حيان وعددًا من أصحابِ هذا الاتجاه خالفوا عمليًّا ما قرروه نظريًّا؛ فاستشهَدوا بالحديث في عدة مواضع من كتبهم، بل بَنَوْا عليه بعض القواعد.

2- ضابط المجوزين:
تجويز الاستشهاد بالحديث مطلقًا يؤخذ من ظاهرِ صنيعِ جماعةٍ من النحاةِ أَكْثَرُوا من الاستشهاد بالحديث دون تَحَفُّظٍ (في الجملة). وبعبارة أوضح: دون تَوَقُّفٍ عند كونِ اللفظِ محفوظًا أوْ لَا، فربما استدلوا بلفظين مختلفين لحديثٍ واحدٍ دون ترجيح. وهذا هو الضابط الذي ينبغي أن يُبنى عليه تصنيف أصحاب هذا الاتجاه، بِغَضّ النظر عن عدد الأحاديث التي يستشهدون بها(4)، فهو اتجاهٌ نظريٌّ أكثر منه عمليًّا.

3- ضابط المتوسطين بين المذهبَيْن السابقَيْن:
المتوسطون هم الذين لم يَمنعوا الاستشهادَ بالحديثِ مطلقًا ولم يجيزوه مطلقًا، وإنما أجازوه بقيود وشروط توصلهم إلى الاطمئنان إلى أن الأحاديثَ المستشهَدَ بها روِيَتْ بألفاظِها ولم يقع فيها تَصَرُّفٌ مِن قِبَل الرواة(5). فكلُّ مَن فَعَلَ ذلك فهو داخل في أصحابِ هذا الاتجاه، سواء أقلَّ مِن القيود والشروط والضوابط أو أكثرَ، أي: سواء أدَّت قيودُه وشروطُه وضوابطه إلى تضييق دائرة الاستشهاد أو إلى توسيعها. وإنّ أصحاب هذا الاتجاه لم يتفقوا على القيود والشروط وإنما تعددت مذاهبهم ومسالكهم، ولا يتسع المقامُ لتفصيل ذلك.
وكل هذه الاتجاهات الثلاثة نظرية، وأما من الناحية العملية فكلُّ أهل هذه الاتجاهات استشهَدوا بالحديث، حتى رؤساءُ مذهبِ المانعين استشهدوا به بل جعلوه أحيانًا أصلًا يبنون عليه القواعد(6).
ملخص من رسالتي في الماجستير: (الأحاديث التي ساقها النحاة مساق الاحتجاج: أثرها ومنزلتها في مسائلها)

---------------------------
(1) جمهورُ مَن تكلم في المسألة جَعَلَ الاتجاهاتِ فيها ثلاثةً، يتقدَّمهم البغداديُّ في «خزانة الأدب»(1/ 9-15)، وهناك من جعلها اتجاهين: مجيزون، ومانعون، كابن الطيب الفاسي في «فيض نشر الانشراح» (1/ 447) و«تحرير الرواية» (96).
(2) ينظر: «الاقتراح» (94- 96). وهذا المنع لم يكن لِشَكِّهم في فصاحةِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن بسببِ توقُّفِهم في ثبوتِ ألفاظِ الحديثِ بِعَيْنِهَا عنه -صلى الله عليه وسلم- دون أن يَقَع فيها تصرفٌ مِن قِبَل الرواة أو لحْنٌ أو تصحيفٌ.
(3) ينظر: «موقف أبي إسحاق الشاطبي من الاستشهاد بالحديث» (36)، و«الشواهد الحديثية في الأبواب النحوية» (1/ 24).
( 4) وقد أشير إليه في «الشواهد الحديثية» (1/ 23)، و «الإيضاح والتبيين» (22).
(5 ) ينظر: «الاستشهاد بالحديث في المسائل النحوية» (1/ 127).
(6 ) ينظر مثلا: «شرح الجمل لابن الضائع (القسم الثاني)» (1/88، 176، 366، 441، 566)، و«أبو حيان النحوي» (436- 440).
 
عودة
أعلى