الفاتحة الحادية عشر... وتأملات أخرى في الفواتح
اعتنى أهل القرآن بفواتح السوروعملوا على بيان خصائصها وأنواعها ، وقد جعلها صاحب (البرهان) علما مستقلا ضمن علوم القرآن ورتبه سابعا تحت عنوانُ:
النَّوْعُ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَالسُّوَرِ
وذكره قبل علم المكي والمدني وقبل علم نزوله وجمعه....
أما صاحب (الإتقان) فقد جعله في المرتبة الستين تحت عنوانُ:
النوع الستون في فواتح السور
قال الزركشي (المتوفى: 794هـ)
وقد افتح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا....
ثم ترجم لها على النحو التالي:
1- الاستفتاح بالثناء
2- الاستفتاح بحروف التهجي
3- الاستفتاح بالنداء
4- الاستفتاح بالجمل الخبرية
5- الاستفتاح بالقسم
6- الاستفتاح بالشرط
7- الاستفتاح بالأمر
8- الاستفتاح بالاستفهام
9- الاستفتاح بالدعاء
10- الاستفتاح بالتعليل
قال الزركشي:
هَكَذَا جَمَعَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ ....
وَنُظِمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:
أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو ... تِ الْمَدْحِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا
وَالْأَمْرُ شَرْطُ الندا التعليل والقسم الدعا حُرُوفُ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا
قال السيوطي(المتوفى: 911هـ)
أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "الْخَوَاطِرَ السَّوَانِحَ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ" وَأَنَا أُلَخِّصُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ مِنْ غَيْرِهِ.
ثم ذكر ما أورده الزركشي.
غني عن البيان أن أية سورة لا بد أن يندرج مفتتحها في نوع من الأنواع العشرة المعدودة لكن يمكن للسورة الواحدة أن تندرج في أكثر من نوع بحسب الاعتبار فمفتتح سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى-مثلا- يَدْخُلُ في الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي قِسْمِ الْأَمْرِأَيْضًا .
.....ثم ظهر لي أن هناك فاتحة قد تكون متداركة هي:
11- الاستفتاح بالحوار
وهي فاتحة سورة النبأ...
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ :1- 3]
اعلم أن الحوار نوعان:
1-حوار مسرود غير مباشر ينقله طرف ثالث هو واسطة بين المتحاورين والمتلقي، ومن علاماته تصدير الحوار بقال ومشتقاتها ونظائرها( قالا، قيل، قالت ،أجاب، صاح ،تساءل، ردوا قائلين.. الخ... )
2- حوار مباشر حي بلا واسطة ومن علاماته الترقيمية شرطة(-) تستخدم في أول السطر في حال المحاورة بين متحاورين؛ للاستغناء عن تكرار اسميهما...كما تجد في نصوص المسرحية المكتوبة- لا المشخصة- فأسماء المتحاورين لا تنتمي إلى الحوار ،ولا محل لها من الإعراب، إنما هي تنبيهات خارجية ليعلم المتلقي من المتكلم ،فلا عين لها ولا أثر عندما تكون المسرحية مشخصة ...لعدم الحاجة إليها.
وهذا مثال توضيحي من التنزيل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 247]
فهذا حوار مسرود من النوع الأول ولكي نجعله من الحوار المباشر يتعين طي الجمل المنبهة على المتحاورين وهي ثلاث جمل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ،
قَالُوا،
قَالَ.
فيعود الحوار - في غير القرآن - هكذا:
- إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
- أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
فهذا حوار محض....وهو ما وجدناه في مفتتج سورة النبأ...فهناك سائل يسأل ومجيب يجيب دون أي تنبيه عن السائل أو المجيب...ولو شئنا نقل النص وفق اصطلاحات الترقيم المتعارف عليها اليوم لكان هكذا:
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
ولا نرى داعيا لتعيين السائل أو المجيب وهل هما اثنان أم شخص منفرد يقوم بدور السائل والمجيب معا...فهذا بحث هامشي قد يصرف الذهن عن تذوق بلاغة الآيات التى تقدم ( مشهدا) لا ( تقريرا) :
فالقوم قد علا عنهم اللغط،وكثرمنهم التساؤل بصورة غير معتادة ،لدرجة أن أي مار بهم يستوقفه إفراطهم في التساؤل فيثير في نفسه الفضول البشري المشروع:
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
فالبلاغة هنا في عدم التعيين لأن كل تعيين تخصيص ومقصود الآيات التعميم فالسؤال -عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟ سيصدر عن أي كان بالنظر إلى ما يمليه حال القوم....
ثم يأتي الجواب:
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
وهو جواب بديع يتضمن سخرية مبطنة وتبكيتا خفيا .التقدير:
إن كنتم مختلفين فما جدوى التساؤل!
وانظر إلى سمو بلاغة التنزيل عندما خالف فعبر بالفعل والاسم:
يَتَسَاءَلُونَ.... فعل متجدد
مُخْتَلِفُونَ ....اسم دال على الثبات...
الاختلاف أصيل فيهم لا يقبل التغيير، والتساؤلات المتجددة والمتكررة لن تأتي إلا بإجابات معروفة عندهم ،وقد اختلفوا فيها أصلاومنطلقا، فما وجه التساؤل إن لم يكونوا سفهاء...
فتلحظ هذا التدرج البياني الثلاثي البليغ:
1-أمر يخرج عن العادة يثير الفضول.
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
2-تسفيه مبطن
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
3- ثم الزجر الصريح والوعيد الأكيد
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ .ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ : 5]
اعتنى أهل القرآن بفواتح السوروعملوا على بيان خصائصها وأنواعها ، وقد جعلها صاحب (البرهان) علما مستقلا ضمن علوم القرآن ورتبه سابعا تحت عنوانُ:
النَّوْعُ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَالسُّوَرِ
وذكره قبل علم المكي والمدني وقبل علم نزوله وجمعه....
أما صاحب (الإتقان) فقد جعله في المرتبة الستين تحت عنوانُ:
النوع الستون في فواتح السور
قال الزركشي (المتوفى: 794هـ)
وقد افتح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا....
ثم ترجم لها على النحو التالي:
1- الاستفتاح بالثناء
2- الاستفتاح بحروف التهجي
3- الاستفتاح بالنداء
4- الاستفتاح بالجمل الخبرية
5- الاستفتاح بالقسم
6- الاستفتاح بالشرط
7- الاستفتاح بالأمر
8- الاستفتاح بالاستفهام
9- الاستفتاح بالدعاء
10- الاستفتاح بالتعليل
قال الزركشي:
هَكَذَا جَمَعَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ ....
وَنُظِمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:
أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو ... تِ الْمَدْحِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا
وَالْأَمْرُ شَرْطُ الندا التعليل والقسم الدعا حُرُوفُ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا
قال السيوطي(المتوفى: 911هـ)
أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "الْخَوَاطِرَ السَّوَانِحَ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ" وَأَنَا أُلَخِّصُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ مِنْ غَيْرِهِ.
ثم ذكر ما أورده الزركشي.
غني عن البيان أن أية سورة لا بد أن يندرج مفتتحها في نوع من الأنواع العشرة المعدودة لكن يمكن للسورة الواحدة أن تندرج في أكثر من نوع بحسب الاعتبار فمفتتح سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى-مثلا- يَدْخُلُ في الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي قِسْمِ الْأَمْرِأَيْضًا .
.....ثم ظهر لي أن هناك فاتحة قد تكون متداركة هي:
11- الاستفتاح بالحوار
وهي فاتحة سورة النبأ...
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ :1- 3]
اعلم أن الحوار نوعان:
1-حوار مسرود غير مباشر ينقله طرف ثالث هو واسطة بين المتحاورين والمتلقي، ومن علاماته تصدير الحوار بقال ومشتقاتها ونظائرها( قالا، قيل، قالت ،أجاب، صاح ،تساءل، ردوا قائلين.. الخ... )
2- حوار مباشر حي بلا واسطة ومن علاماته الترقيمية شرطة(-) تستخدم في أول السطر في حال المحاورة بين متحاورين؛ للاستغناء عن تكرار اسميهما...كما تجد في نصوص المسرحية المكتوبة- لا المشخصة- فأسماء المتحاورين لا تنتمي إلى الحوار ،ولا محل لها من الإعراب، إنما هي تنبيهات خارجية ليعلم المتلقي من المتكلم ،فلا عين لها ولا أثر عندما تكون المسرحية مشخصة ...لعدم الحاجة إليها.
وهذا مثال توضيحي من التنزيل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 247]
فهذا حوار مسرود من النوع الأول ولكي نجعله من الحوار المباشر يتعين طي الجمل المنبهة على المتحاورين وهي ثلاث جمل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ،
قَالُوا،
قَالَ.
فيعود الحوار - في غير القرآن - هكذا:
- إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
- أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
فهذا حوار محض....وهو ما وجدناه في مفتتج سورة النبأ...فهناك سائل يسأل ومجيب يجيب دون أي تنبيه عن السائل أو المجيب...ولو شئنا نقل النص وفق اصطلاحات الترقيم المتعارف عليها اليوم لكان هكذا:
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
ولا نرى داعيا لتعيين السائل أو المجيب وهل هما اثنان أم شخص منفرد يقوم بدور السائل والمجيب معا...فهذا بحث هامشي قد يصرف الذهن عن تذوق بلاغة الآيات التى تقدم ( مشهدا) لا ( تقريرا) :
فالقوم قد علا عنهم اللغط،وكثرمنهم التساؤل بصورة غير معتادة ،لدرجة أن أي مار بهم يستوقفه إفراطهم في التساؤل فيثير في نفسه الفضول البشري المشروع:
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
فالبلاغة هنا في عدم التعيين لأن كل تعيين تخصيص ومقصود الآيات التعميم فالسؤال -عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟ سيصدر عن أي كان بالنظر إلى ما يمليه حال القوم....
ثم يأتي الجواب:
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
وهو جواب بديع يتضمن سخرية مبطنة وتبكيتا خفيا .التقدير:
إن كنتم مختلفين فما جدوى التساؤل!
وانظر إلى سمو بلاغة التنزيل عندما خالف فعبر بالفعل والاسم:
يَتَسَاءَلُونَ.... فعل متجدد
مُخْتَلِفُونَ ....اسم دال على الثبات...
الاختلاف أصيل فيهم لا يقبل التغيير، والتساؤلات المتجددة والمتكررة لن تأتي إلا بإجابات معروفة عندهم ،وقد اختلفوا فيها أصلاومنطلقا، فما وجه التساؤل إن لم يكونوا سفهاء...
فتلحظ هذا التدرج البياني الثلاثي البليغ:
1-أمر يخرج عن العادة يثير الفضول.
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
2-تسفيه مبطن
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
3- ثم الزجر الصريح والوعيد الأكيد
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ .ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ : 5]
تعليق