ذكر من تكلم في أوجه بيان السنة للقرآن : نسخ السنة للقرآن ، وهي من مسائل الخلاف ، وأحاول هاهنا أن أوجز تحريرها ، والله المستعان .
معلوم أن السنة قسمان : آحاد ومتواتر ، والآحاد ثلاثة أنواع : غريب ، وعزيز ، ومشهور ؛ وهو بأنواعه الثلاثة يفيد الظن ، وأما المتواتر فهو يفيد اليقين ؛ والجمهور على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة الآحادية ؛ لأن القرآن متواتر يفيد اليقين ، والآحادي مظنون ، ولا يصح رفع المعلوم بالمظنون .
وأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة ، فقد أجازه أبو حنيفة [1] ، وأحمد في رواية [2] ؛ لأن الكل وحي من الله ، قال تعالى :] وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ [ النجم : 3 ، 4 ] ؛ وقال : ] وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [ [ النحل : 44 ] ، والنسخ نوع من البيان ؛ ومنعه الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ، لقوله تعالى : ] مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [ [ البقرة : 106 ] ، والسنة ليست خيرًا من القرآن ، ولا مثله [3] .
وذهب ابن حزم -


وذكر المجيزون لذلك أمثلة ، وعند التحقيق لا تدل على النسخ ، قال ابن تيمية –

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَلْدَ الزَّانِي ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجْمُ ، كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُدَّعَى مِنْ نَسْخِ قَوْلِهِ : ] وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [ الْآيَةَ ؛ فَإِنَّ هَذَا إنْ قَدَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، فَقَدْ نَسَخَهُ قُرْآنٌ جَاءَ بَعْدَهُ ؛ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُحْكَمَةِ ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَسْخًا لِبَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ ، لَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّمَا نُسِخَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ ، لَا بِمُجَرَّدِ السُّنَّةِ ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ] مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَاأَوْمِثْلِهَا [ [ البقرة : 106 ] ، وَيَرَوْنَ مِنْ تَمَامِ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْهُ إلَّا بِقُرْآنِ [7] .
وقد ناقش الزرقاني -

وقال العثيمين -

قال مقيده - عفا الله عنه : قد وقفت على مثالٍ يصلح في هذا المقام ، قال الجصاص في ( أحكام القرآن ) : في قوله تعالى : ] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [ [ الأحزاب : 52 ] ... ثم أورد حديث عَائِشَةَ -

ووافقه في هذا الموضع الكيا الهراسي من الشافعية ؛ قال : ولا شك أن ظاهر الآية يقتضي تحريم سائر النساء على رسول الله e ، سوى من كنَّ عنده ، حتى حلَّ له النساء ، وهذا يوجب نسخ الآية ، وليس في القرآن ما يوجب نسخها ، فهي منسوخة بالسنة ؛ ويحتج به على جواز نسخ القرآن بالسنة [12] .ا.هـ .
قال ابن عطية -


وقد روى حديث عائشة البيهقي في ( السنن الكبرى ) ثم قال : قَالَ الشَّافِعِيُّ t : كَأَنَّهَا تَعْنِى اللاَّتِى حُظِرْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : ] لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ [ ، قَالَ : وَأَحْسَبُ قَوْلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ، بِقَوْلِ اللَّهِ U : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [ إِلَى قَوْلِهِ : ] خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ [14] .
قال مقيده - عفا الله عنه : وهذا فيه نظر - أيضًا ؛ قال الطاهر بن عاشور -


والذي أخلص إليه أن نسخ القرآن بالسنة جائز ، مع ندرة وقوعه ، والعلم عند الله تعالى .
[1] انظر ( الفصول في الأصول ) للجصاص الحنفي : 2 / 345 .
[2] انظر ( نواسخ القرآن ) لابن الجوزي الحنبلي : 1 / 139 - 141 ، و ( مجموع الفتاوى ) لابن تيمية : 20 / 97 ، 98 .
[3] انظر ( الرسالة ) ص 106 - تحقيق أحمد شاكر ، و( البحر المحيط ) لمحمد بن بهادر الزركشي الشافعي : 5 / 261 - 271 ؛ و ( الاستذكار ) لابن عبد البر المالكي : 7 / 264 ، و ( مناهل العرفان في علوم القرآن ) للزرقاني : 2 / 237 - 243 .
[4] انظر ( الإحكام في أصول الأحكام ) : 4 / 107 .
[5] رواه أحمد : 4 / 168 ، 187 ، 238 ، 239 ، الترمذي ( 2121 ) وقال : حسن صحيح ، والنسائي ( 3641 : 3743 ) ، وابن ماجة ( 2712 ) ، والدارمي ( 3255 ) من طرق عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة ؛ وله شاهد من حديث أبي أمامة رواه أبو داود ( 2870 ) ، والترمذي ( 2120 ) ، وحسنه ، وهو كما قال ؛ لأن إسماعيل بن عياش روايته عن الشاميين حسنة ، وقد رواه عن شرحبيل بن مسلم ، وهو شامي ثقة ، ويشهد له حديث عمرو بن خارجة المتقدم .
[6] مسلم ( 1690 ) .
[7] مجموع الفتاوى : 20 / 397 - 399 .
[8] انظر ( العرفان في علوم القرآن ) : 2 / 237 - 244 .
[9] انظر ( الأصول من علم الأصول ) ص 55 .
[10] رواه احمد : 6 / 41 ، 180 ، والترمذي ( 3216 ) وحسنه والنسائي في ( المجتبى ) رقم 3204 ، وصححه الألباني في ( صحيح سنن الترمذي ) رقم 2568 ؛ ورواه ابن حبان ( 6366 ) ، ووالحاكم : 2 / 437 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .
[11] انظر ( أحكام القرآن للجصاص ) : 5 / 241 .
[12] انظر ( أحكام القرآن ) للكيا الهراسي : 4 / 349 .
[13] انظر ( المحرر الوجيز ) : 4 / 454 ، 455 – الكتب العلمية .
[14] السنن الكبير : 7 / 54 ( 13126 ) – تحقيق محمد عبد القادر عطا – دار الباز – مكة .
[15] انظر ( التحرير والتنوير ) : 21 / 303 ، وحديث أم سلمة

تعليق