بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

" .. وعجلت إليك رب لترضى" ـ دراسة تحليلية مختصرة
= الآيات الكريمة من سورة طه ( وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) )
هدف الدراسة : هي الاجابة على سؤال : هل العجلة هنا كانت مطلوبة ممدوحة أم لا ؟ وهل وقعت بمحل رضا من الله تعالى أم لا ؟
وهل يتناسب الاستشهاد بشطر الآية الكريمة " .. وعجلت إليك رب لترضى" في محل علو الهمة والمسارعة في الخيرات ام أنه استشهاد في غير محله ؟
= مبحث : الجذر اللغوي " عجل " في القرءان الكريم
ـ لم يأت هذا الجذر اللغوي في جميع الآيات إلا في مواضع الذم / النهي / مقرونا بالعذاب والفتنة
إلا في موضع واحد أو موضعين
فمواضع الذم مثل ( أعجلتم أمر ربكم , العاجلة , عجلنا له فيها , خلق الانسان من عجل , وكان الانسان عجولا ..)
مواضع النهي مثل ( فلا تعجل عليهم , ولا تعجل بالقرءان , ولا تستعجل لهم .. )
قرين العذاب والفتنة مثل ( لعجل لهم العذاب , عجل لنا قطنا , استعجلتم به ريح فيها عذاب , لم تستعجلون بالسيئة , ماذا يستعجل منه المجرمون , أفبعذابنا يستعجلون , يستعجلونك بالعذاب ... )
موضعين استثنائيين وهما :
في سورة البقرة ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه .. ) نفي الإثم تجاوزا ورخصة من الله تعالى
وفي سورة الفتح ( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه .. ) ومن المعلوم أن المغانم وإن كانت حلالا طيبا إلا انها تنقص من الأجر الأخروي للجهاد في سبيل الله .
= مبحث : السؤال من الله تعالى الموجه إلى موسى


وللإجابة على ذلك ـ نستعرض سريعا أسئلة الله تعالى في القرءان الكريم والتي بصيغة ( لما فعلت / لما لم تفعل ) لنجد أن مجرد توجيه السؤال من الله تعالى بصيغة ( لما فعلت او لما تركت ) فهي صيغة عتاب ولوم.
ونجد أن الأسئلة الواردة على صنفين : صنف عام , وصنف خاص .
1 ـ صنف عام : وكلها تتضمن عتابا ولوما مثل
ـ سورة الانفطار ( يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم ؟ )
ـ سورة التكوير ( وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت ؟ ) وإن كان هذا عتاب ليس للمسئول ( الموؤدة ) ولكنه عتاب غير مباشر لشخص متعلق بالمسئول ( قاتل الموؤدة ).
ـ الأسئلة الموجه لأهل الكتاب ( لم تكفرون , لم تلبسون الحق بالباطل , لم تحاجون , لم تصدون ... ) واضحة لا تحتاج لبيان
2 ـ صنف خاص : وهو الموجه لأشخاص بأعيانهم وكلها أيضا تتضمن عتابا ولوما مثل
ـ سورة التوبة ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ... )
ـ سورة التحريم ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ...)
ـ سورة المائدة ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله .. ) وإن كان هذا عتاب ليس للمسئول ( المسيح

ـ الأسئلة التي وجهت لابليس لعنه الله ( مالك الا تكون مع الساجدين ) , ( ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي ) واضحة لا تحتاج لبيان .
ـ الخلاصة أني لم أجد سؤالا من الله تعالى بصيغة ( لما فعلت او لما تركت ) إلا وهو في أصله يتضمن عتابا ولوما , ولا تأتي هذه الصيغة في اعمال صالحة او في محل رضا من الله تعالى , والله أعلم .
وهنا نكتة لطيفة : كأن السؤال من الله تعالى بهذه الصيغة يأتي كاشفا لخطأ ما قام به المسئول , ويكون الغرض منه إما تربويا ليتوب المسئول ويستدرك ما فاته مثل آدم

وكأن الأعمال الصالحة لا تحتاج إلى سؤال ومراجعة وهذا يذكرنا بكتابة الحسنات والسيئات ووظيفة كل ملك مسئول عنهما , حيث أن ملك الحسنات هو رئيس ورقيب على ملك السيئات ويأمره ألا يعجل وينتظر عدة ساعات قبل كتابة السيئة ويصبر على المسيء لعله يتوب , بينما ملك الحسنات بمجرد أن يهم العبد بها فيكتبها واحدة ثم يتضاعف ثوابها إذا أتم تنفيذها .. فهنا الحسنة تكتب على الفور اما السيئة فمحل سؤال ومراجعة وتدقيق .. إلى أن نصل للنموذج الأعلى للصالحين دون الأنبياء وهم الذين يدخلون الجنة دون سابقة حساب ولا عذاب فقد ارتفع عنهم السؤال تماما .
ولذا تجد في عدة نصوص أن السؤال قرين الهلكة والتخويف وليس قرين الثناء والمدح , وفي الحديث من نوقش الحساب عذب , وأسئلة القبر فتنة للميت ولذلك من كرامة الشهيد ومن مات يوم الجمعة ألا يفتن في قبره , ويوم القيامة يسمى يوم الحساب تهديدا وتخويفا
= مبحث : بتحليل صيغة وتركيب السؤال ( وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ ) نجد الآتي :
أ ـ ما الفرق بين الصيغة ( وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ ) والصيغة ( ولماذا عجلت عن قومك يا موسى؟ )
(وما أعجلك) : أعجل فعل رباعي متعدي , كأن الله تعالى يسأل عن السبب الخارجي الذي دفع موسى

أما ( لماذا عجلت ) : عجل فعل ثلاثي لازم , فلو كان السؤال بهذه الصيغة لكان عن السبب الداخلي / النفسي .
وبالتفكير والتدبر في ما هو هذا السبب الخارجي الذي دفع موسى


فالله

ب ـ ما الفرق بين الصيغة ( وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ ) والصيغة ( وما أعجلك يا موسى؟ )
ما دلالة ذكر ( عن قومك ) ؟
والله أعلم لابراز الفجوة والمشكلة التي حدثت , لماذا فارقت قومك في غير وقت المفارقة , ولماذ تركتهم وراءك وقدمتهم , وأنت المكلف بهم والمسئول عنهم .
فعند التعمق والتدبر نجد أن حقيقة السؤال وأساسه هو عن ( قوم موسى ) وليس عن ( موسى) ـ فمسير القوم كان طبيعيا وموسى

فحقيقة السؤال ليست : لما عجلت إلي ؟ / لماذا سارعت إلى مرضاتي ؟ / لماذا تشوقت وتلهفت للقائي؟
لا
بل حقيقة السؤال هي : لماذا تركت قومك قبل أوان الترك ؟ / لماذا جئت دونهم / لماذا سبقتهم وتركتهم ؟
وبهذا التحليل تتضح أن إجابة كليم الله تعالى لهذا السؤال أصبحت عسيرة ومحرجة
فالاجابة المفترضة عن هذا السؤال ( وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ ) ستكون : الذي أعجلني عن قومي هم بطء مسيرة قومي وعدم صبري عليهم ؟!! وهذا بالطبع حرج لسيدنا موسى


= مبحث : تحليل إجابة موسى

نلاحظ أن إجابة موسى

ولكنه

هم أولاء على أثري : كأنه لم يجد ضررا من التعجل عنهم وسبقهم , فهم قريبون ويقتفون أثره ويلتمسون خطاه .
وعجلت إليك رب لترضى : أي أن السبب الرئيسي للعجلة هي ( التماس رضاك مولاي ) .
ولكن المتدبر في الحدث وعاقبته يشعر أن الملتمس رضاه تعالى كان الأولى به هو المكث مع القوم والتصبر معهم ـ لأن هذا هو أمر الله المكلف به كليم الله تعالى أما العجلة فهي اجتهاد منه

ونتدبر أيضا : ما دلالة قول موسى

وبالتحليل السابق تتضح الإجابة , أن موسى


فالله تعالى له شئون مع خلقه , وأنبياء الله هم أعلم الخلق بخالقهم , وهم يعلمون أنه لكل مقام مقال ولكل موقف ما يناسبه .
وقفة جانبية : لماذا لم يعضد موسى


وبالتدبر والتفكر في هذه النقطة : نجد أن ذكر هارون في الاجابة قد تكون عاقبته غير مضمونة لأن هذا مقام هيبة ورهبة كما قلنا , وسيظهر تساؤلات : لماذا إذن صبر هارون مع القوم ولم تصبر أنت ؟ هل لأنك أشد شوقا ولهفة منه للقائي ؟ ولكن يقابل ذلك أنك المكلف والمسئول الأول عن قومك والأشد حرصا منه لتنفيذ هذا التكليف ؟
= مبحث : نأتي للتدبر في الرد من المولى


( قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري )
نجد ان هذا الرد يؤكد التحليل السابق أن المقام مقام رهبة وخوف , وأنه قد حدث خطأ ما
فلو كان المقام مقام ترحاب ورضا لكان الرد المتوقع ما معناه ( أحسنت أو قبلت .. ) , لكن جاء هذا الرد الذي من المؤكد انه كان صادما لموسى

ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض : نتخيل أن جنديا قد أسرع لقائده الأعلى متلهفا وطالبا رضاه بعمل ما متوقعا أن ينال وساما أو ثناء ثم يفاجأ أن قائده الأعلى لم يثن عليه ولم يحسن فعله بل أخبره بكارثة ومصيبة قد حلت بكتيبته المسئول عنها ـ ماذا نستنبط من ذلك ؟ أن عمل الجندي لم ينل رضا القائد ولم يقع لديه موقعا كما كان يظن بل كان اهتمام القائد الأعلى منصب على الكتيبة ولم يلتفت لعمل الجندي الذي قدمه له , صحيح أنه لم يعاتبه صراحة , ولكن إعراض القائد عن ثنائه يشعر بذلك .
ولذا رجع موسى

= وبالتأمل في قوله تعالى ( من بعدك ) تشعر أن عدم تواجد موسى





= مبحث : بين العجلة والمسارعة :
نلاحظ ان القرءان الكريم لا يوجد فيه استعمال الجذر اللغوي ( عجل ) مع الأعمال الصالحة المقبولة , بل يوجد ألفاظ أخرى مثل سارعوا , سابقوا , ( نافسوا ) .. في عدة مواضع مثل
ـ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ..., ويسارعون في الخيرات ... آل عمران
ـ سابقوا إلى مغفرة من ربكم .. الحديد
ـ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ...المؤمنون
ـ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ... المطففين
ـ والفرق بين العجلة والمسارعة
أن المسارعة هي عدم ضياع الوقت والقيام بالعمل مع الحرص على اختصار زمنه ولكن الناتج يكون عملا تاما كاملا , ويكون الدافع للمسارعة هو التنافس الايجابي ونوال الدرجات العلا .
أما العجلة فهو اختصار الزمن لكن على حساب جودة العمل واحداث خلل في أحد شروطه كالقيام بالعمل قبل أوانه فينتج عملا ناقصا معيبا , ويكون الدافع للعجلة هو عاطفة قوية غلبت الصبر كأنك تتشوق لترى النتيجة النهائية دون اتمام متطلبات ولوازم الوصول لهذه النتيجة .
وهذا يفيدنا أن نحرص ونحذر .. نسارع في العمل الصالح لكن لا نعجل فيه .
خلاصة الدراسة :
العجلة غير ممدوحة بل هي مذمومة ( التأني من الله والعجلة من الشيطان ) , أما في الأعمال الصالحة فالأنسب استعمال بديل عنها مثل سارعوا
والاستشهاد بشطر الآية الكريمة " .. وعجلت إليك رب لترضى" الأنسب أن يكون في باب ذم العجلة أو باب التحذير من عاقبة العجلة أو باب النية الحسنة لا تصحح خطأ العمل .
وفي الختام نذكر أنفسنا بفضيلة كليم الرحمن



هذا وما كان من فضل ونعمة فمن الله وحده , وما كان من خطأ وزلل فمني ومن الشيطان .
وصلى الله علي نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه أبو عبيدة ( أحمد عبد العزيز )
الأحد 18 رمضان 1444 ـ 9/4/2023
الأحد 18 رمضان 1444 ـ 9/4/2023