بسم الله الرحمن الرحيم
من الحكم فيما يصيب الناس من زلازل ومحن:
يقول الله تعالى:


فكل العباد معبّدون([1]) تحت قهره وسلطانه، ينفذ فيهم حكمه وقضاءه.


يقول العلامة السعدي



لكن مشيئته سبحانه تابعة لحكمته، فلا يقضي جل في علاه بشيء في مملكته لمجرد أنه شاءه كما يعتقد بعض أهل الزيغ عن الاعتقاد الحق، بل كل شيء شاءه سبحانه إلا كان لحكم قد نعلمها وقد نجعلها.
ومما يشاء الله تعالى وقوعه الزلازل وغيرها من أنواع المحن التي تصيب ما شاء سبحانه من البلاد والعباد.
ولله تعالى في ذلك الحكم العظيمة.
وهذه بعضها:
1- الابتلاء والاختبار والتمحيص:
يقول الله تعالى:


"فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير، يخرج خبثها وطيبها."([3]).
فعلى العبد أن يوقن أن كل ما يصيبه من خير أو شر، من شدة ورخاء، كل ذلك من تقديرات الله تعالى التابعة لحكمته، وأن الله

فالله تعالى يصيب العبد سواء بالخير أو الشر ابتلاء وامتحانا وهذا إنما لحكمته سبحانه البالغة، قال عز من قائل: " وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً([4]) وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء:35)، "فنجازيكم بحسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر"([5]).
وعموما فإن الابتلاء من سنن الله الكونية، لا بد من الابتلاء والتمحيص، فلا يظهر معادن الناس على حقيقتها إلا ما يقدره الله تعالى عليهم من الابتلاء، فلولا الابتلاء والاختبار ما تميز الصابر من الجازع وما تبين الصادق من الكاذب ولا تبين المؤمن من المنافق، ولا تبين المجاهد من القاعد.
يقول الله تعالى:


" فمن حكمة الله


يقول العلامة ابن عثيمين

2- تكفير الذنوب ومحو الزلات:
فمن حكم المولى فيما يصيب عباده من مصائب وويلات تكفير الخطايا والسيئات.يقول معروف الكرخي: (إن الله ليبتلي عبده المؤمن بالأسقام والأوجاع، فيشكو الى أصحابه فيقول الله

3- حث العباد ودعوتهم إلى التوبة والأوبة:
فمن حكمه سبحانه كذلك في ذلك دعوة العباد إلى الرجوع والإياب والتوبة قبل يوم الحساب، وإظهار الافتقار للعزيز الغفار والتذلل بين يدي الواحد القهار، كما قال تعالى:


4- إظهار قوة العلي الكبير وضعف الإنسان الذليل:
من الحكم فيما يصيب الناس من زلازل وأهوال بيان قوة الله تعالى وعزته وضعف الإنسان وذلته، فمهما قوي العباد وعلوا لا يساوون شيئا أمام قوة الجبار وعزة القهار -سبحانه-.
5- زرع الخوف في القلوب من علام الغيوب:
من الحكم في ذلك زرع الخوف في القلوب من الله تعالى، حتى ترجع عن غيها وتستقيم على أمر ربها([11])، وبذلك تنال سعادتها في دنياها وأخراها، فإن الخوف من الله تعالى حادي يحدو بالعباد إلى بلاد الأفراح، وإذا زال عن القلوب فشت المعاصي والمخالفات وانتهكت الحدود والمحرمات بل جاهر الناس بشتى أنواع المنكرات.
6- رفعة الدرجات:
فمن حكمه سبحانه في ذلك رفعة الدرجات لمن شاء من عباده، يقول الإمام ابن القيم


7- اصطفاء الله تعالى شهداء من عباده:
يقول العلامة السعدي



والكلام طبعا عن معركة أحد، لكن حمل اللفظ على عمومه يكثر المعاني، فالشهادة لا تقتصر على الموت في ساحة المعركة، فأصحاب الهدم وضحايا الزلازل الذين يموتون تحت الأنقاض يعدون شهداء بنص حديث من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى([14]).
8- ظهور روح التعاون والتراحم بين المسلمين:
وهذا أصل عظيم من الأصول التي حث عليها شرعنا الحنيف ورغب فيها أيما ترغيب.
يقول جل في علاه وتعالى في سماه:



9- تكميل مراتب العبودية:
فمن حكم المولى جل عن الأنداد فيما يصيب العباد من أمور شداد تكميلهم مراتب العبودية وتقلبهم في مقاماتها من خوف ورجاء، ورغبة ورهبة، وصبر ورضا...وهكذا.
يقول الإمام ابن القيم


وكذلك قدر الله على عباده أنواعا من القلاقل والزلازل ليرتقوا في منازل الصبر والرضا([16]) والخوف والرجاء([17])...
10- التذكير بنعم القدير:
فمن حكم المولى

فمن رحمته سبحانه بعباده أنه خلق الأرض وجعل الجبال لها أوتادا كي لا تمور ولا تضطرب بأهلها، ولولا ذلك لما أمكن العيش عليها، كما قال تعالى:


ويقول سبحانه:


ويقول جل شأنه:


يقول العلامة السعدي

يقول شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة المنان:" ثم تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والأمتعة ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوهم والتمكن من أعمالهم ولو كانت رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوا ولا ثبت لهم عليها بناء ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة وكيف كانوا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم. واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)..."([20]).
11- بيان حقارة الدنيا:
ولنكتفي كمثال بما أصاب بلدنا العزيز –المغرب- يوم (8 شتنبر 2023)، بضع ثوان –مدة الهزة الأرضية- جعلت الناس يهرعون ويخرجون من منازلهم تاركين خلفهم كل أمتعتهم...المهم أن ينجو بنفسه ولا يهم ضياع كل ما جمعه من متاع.
أليس في هذا عبرة لنا لنوقن بأن الدنيا أحقر مما نتصور.
يقول رسول الله

عند معاينة الموت أو معاينة أسبابه كالغرق أو الزلازل أو غير ذلك من البلايا، يعرف الإنسان حقيقة هذه الدنيا، وأنها مجرد سراب خادع...
فاللهم ردنا إليك ردا جميلا واجعل لنا فرقانا مبينا واجعلنا مما يعتبر فينزجر ويتعظ فينضبط.
([1] ) فالعبد له معنيان، كما بينه غاية البيان شيخ الإسلام عليه رحمة المنان في كتابه (العبودية) حيث يقول:" العبد يراد به المعبّد الذي عبّده الله فذلّله ودبّره وصرّفه، وبهذا الاعتبار فالمخلوقون كلهم عباد الله الأبرار منهم والفجار والمؤمنون والكفار... العبد بمعنى العابد ، فيكون عابدا لله ، لا يعبد إلا إياه ، فيطيع أمره وأمر رسله ، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه وهذه العبادة متعلقة بالإلهية لله تعالى."-العبودية:50- 53.
([2] ) تيسير الرحمن:126.
([3] ) تيسير الرحمن:626.
([4] ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "نبتليكم بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلال" ذكره الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (324هـ) في تفسيره.
([5] ) تفسير البيضاوي.
([6] ) كما قال تعالى:"


([7] ) فتاوى ابن باز:9/155.
([8] ) المقصود: ليعلم علم ظهور، علم يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فإن الله علم كل شيء قبل وقوعه، وعلى هذا المعنى تحمل الآيات التي فيها مثل هذه العبارة، كقوله تعالى:" وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ..."-البقرة:143-، وقوله تعالى:"وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ"-سبأ:21-.
([9] ) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين:12/8.
([10] ) " أبشر أيها المريض" لمحمد الركبان:9.
([11] ) فإذا استقام القلب استقامت الجوارح وإذا زاغ زاغت، فهو ملكها، تأتمر بأمره وتسير على نهجه، يقول رسول الله

([12] ) زاد المعاد، فصل في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، ص:98-101، من المجلد الثاني.
([13] ) تيسير الرحمن:149.
([14] ) من ذلك قوله

([15] ) مدارج السالكين:2/51.
([16] ) ولا ريب أن منزلة الرضا أعلا من منزلة الصبر وقليل من الناس من يرتقي من الصبر إلى الرضا وأعلا منهما الشكر وهذه منزلة عظيمة جليلة لا يصلها إلا الخلص من عباد الله تعالى، كما روي عن إحدى الصالحات أنها أصيبت ببلاء عظيم فقابلته بالفرح فسئلت عن ذلك فقالت:"أنستني حلاوةُ أجرها مرارة صبرها".
([17] ) قد يقول قائل كيف يرتقي العبد من منزلة الخوف إلى منزلة الرجاء، والجواب أن الخوف في حقيقة الأمر مستلزم للرجاء، فكما قال الإمام ابن القيم

([18] ) إلا القيل كما قال تعالى في محكم التنزيل:


([19] ) تيسير الرحمن:522.
([20] ) مفتاح دار السعادة:1/218.
([21] ) أخرجه الترمذي وغيره، وهو مخرج في الصحيحة:ح رقم:943.