نحو علم بلاغة منقح لتفسير القرآن ( نقد ،اقتراح، وتطبيق)

إنضم
20 أبريل 2003
المشاركات
507
مستوى التفاعل
9
النقاط
18
نحو علم بلاغة منقح لتفسير القرآن ( نقد ،اقتراح، وتطبيق)

سنخصص - بإذن الله ثم بحسب ما تيسر من وقت – هذا المكان لنقد كثير من الوجوه في البلاغة الموروثة ، وننبه أنه لن يكون نقدنا منهجيا وإنما سنقتصر على ذكر لمع وشذرات متفرقة، ثم نقترح وجوها جديدة غفل عنها إرثنا البلاغي. لكن قصدنا الأول هو التدبر العملي التطبيقى، وما النقد والاقتراح إلا من باب الذريعة، يشهد الله أنا سئمنا من التنظير والمنظرين ونريد أن نتدبر كلام الله بلا واسطة لا أن نتدبر كلام من تدبر القرآن!



- الصدق قبل البلاغة



لا تعارض بين الكذب والبلاغة في الدرسين البلاغي والأدبي الموروثين،ولهم مقولتهم المشهورة "أعذب الشعرأكذبه" فلا حرج إذن في الجمع بين الكذب والبلاغة، بل هو مندوب إليه كما هو مدلول ظاهر مقولتهم!

وزعم السيوطي أن القرآن لو خلا من المجاز لخلا من شطر الجمالـ ، والمجاز عند منكريه كذب ، فها أنت ترى طيف مقولة "أعذب الكلام أكذبه" يكاد يحوم حول القرآن....

ولما كانت مقولة "أعذب الشعرأكذبه" صادمة لفطرة الإنسان فقد حاول أنصارها درء الصدمة بتبنيهم مذهب الفصل بين الأدب والأخلاق، وروج المعاصرون منهم لمصطلح ابتدعوه: (الصدق الفني)

وقالوا إن الشاعر غير محاسب على الصدق الخلقي أو المنطقي ولكن يحاسب على الصدق الفني ، بعبارة أخرى ليس الشأن في أن يطابق قول الشاعر الواقع ولكن الشأن في أن يطابق إحساسه ، فلو قال " الشمس سوداء" لكان صادقا فنيا لأنه كذلك يشعر بها وكذلك يراها!

بلاغة الكذب هذه لا شأن لها بالقرآن....ولا شأن للقرآن بالمبالغة أيضا فإن كان ذوق الناس يبتهج لمثل قول القائل :

كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني

فإن مثل هذا القول ،وما نسج على منواله ، يتنزه عنه كلام الله ... ومن ثم لا تصلح كل الأعراف البلاغية المتداولة لتفسير القرآن...



قال عز من قائل:

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل : 81]

زعموا أن في قوله تعالى " وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ " وجها من وجوه بلاغة الحذف يسمونه (الاكتفاء)، ومعناه عدم ذكر أمر اكتفاء بالمذكور الذي يدل على المحذوف (كما هو الشأن في الاحتباك مثلا) وهكذا فالآية أصلها عندهم : (سرابيل تقيكم الحر وتقيكم البرد) وطوي عجز العبارة لإشارة صدرها إليه على سبيل الاكتفاء.

قلت لو كان في الآية اكتفاء لأتاها الباطل !

وقبل تفصيل ذلك نجادلهم بلاغيا أولا:

لو كان في الآية مذكور ومحذوف – كما زعموا - لكان الأولى بلاغيا ذكر المحذوف وحذف المذكور، فأهمية الثياب تظهر في زمن البرد لا في زمن الحر، والسياق كما هو ظاهرسياق ذكر النعم فيتعين ذكر النعمة الكبرى وطي الصغرى لا العكس....

وتحضرني بالمناسبة قصة من أدب الأمثال كتبها حكيم روسيا (تولستوي) – نسجا على منوال ابن المقفع- قال:

اختصمت الشمس والريح عند رؤيتهما قرويا يسير متلفعا في ثيابه أيهما أقدر على تجريده منها ، ظنت الريح من غرورها أنها منتصرة بلا ريب لكن ظنها خاب، فالرجل كان يزداد تمسكا بمعطفه كلما عصفت الريح لتنزعه عنه ...وشدة تمسكه تتناسب طردا مع قوة هبوبها...ثم قالت للشمس بعد ما مسها اليأس: "أريني أنت كيف ستفعلين..."

لم تفعل الشمس شيئا بالرجل إلا أنها زادت من حرارتها ، فلما عرق الرجل خلع معطفه من تلقاء نفسه! فانتصرت الشمس...

السرابيل قد تكون – إذن- مصدر عدم ارتياح في شدة الحر لكنها بالضرورة مفيدة في كل برد ، فذكرها في البرد أولى، لكن الآية لم تذكر ذلك لأن السرابيل – بكل بساطة - لا تقي البرد ، فالبرد أمر عدمي ولا يمكن للشيء أن يتقي عدم شيء!

ولما كان البرد عدميا – أي عدم الحرارة- فلم يكن بالإمكان قياسه ،وإنما تقاس الحرارة فيقال ثلاثون درجة أو عشرون، وعند الصفر يستمرون في قياس الحرارة بالأعداد السلبية ، فلا ترتفع درجة البرودة حينئذ وإنما تنخفض درجة الحرارة ، إلى أن تصل إلى درجة نظرية سموها (الصفر المطلق) حيث تنعدم كل حرارة...

والبرد كالسكون، وإنما تقاس كمية الحركة وشدتها أما السكون فلا تفاوت فيه فليس في العدم تفاوت ولا تفاضل .

لم يقل عالم الغيب والشهادة( تقيكم البرد ) لأن السرابيل لا تقي إلا من الحر فما قيل عن وجه الاكتفاء هنا فهو باطل...

ووقاية الحر تكون على وجهين:

- وقاية الحر الداخلي بمنعه من التسرب إلى الخارج . فمن المعلوم أن في جسم الإنسان حرارة طبعية تقدر ب 37 درجة ( حرارة الجسم العادية تضاهي حرارة يوم صيفي قائظ !) والثياب لا تدفيء الجسد - كما يعتقد كثير من الناس- بل إن الجسد هو الذي يدفئها ، فليس في القطن والصوف مولد للطاقة فيزود بها الجسد بل إن حرارة الصوف مستمدة من الجسد نفسه وعندما يفقد البدن حرارته لا ينفع قطن ولا صوف ولو تدثر بعشر قطع منها وسيظل البدن يرتجف، هل تدرون لماذا يرتجف ؟

يرتجف لتحتك العضلات بعضها ببعض فتتولد الحرارة من جراء ذلك الاحتكاك ويتم تزويد البدن بما يحتاجه من طاقة ...يحدث هذا كله بدون اختيار الإنسان وإرادته، لكنه تقدير العليم الخبيرالذي خلق فسوى!

وبعد ذلك يأتي دور الصوف ليمنع تسرب حرارة لم يكن له لينتج منها شيئا....وما يقال عن كون بعض الثياب أدفأ من بعض لا يعني أن بعضها يولد الحرارة أكثر من بعض بل يعني أن تركيبة أليافها كيمياويا تتفاوت في القدرة على منع الحرارة من التسرب...

- الوجه الثاني من وقاية الحر هو منع الإشعاعات الخارجية من غزو الجسد ، فيكون للثياب هذا الدور المزدوج في الوقاية : منع الحرارة الداخلية من التسرب ومنع الحرارة الخارجية من الاقتحام...

ولعل أكثر شيء شدني في الآية هو تعدي فعل (وقى) بنفسه فلم يقل( يقيكم من الحر) بل قال (يقيكم الحر) فلو قال( يقيكم من الحر) لدل على الوجه الثاني فقط ولم يدل على الوجه الأول... فلا معنى ل( يقيكم من حرارتكم الداخلية ) بل يقيها - أي يحفظها من التسرب والضياع - فبحذف حر الجر توسع المعنى وكانت الآية أصدق مع الواقع...

ثم ذكرت الآية الوقاية الأخرى للسرابيل: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ....جاءت (البأس) معرفة بالإضافة ولم تأت معرفة ب(اللام) كما قال عن (الحر) قبلها، فهل في هذا إشارة خفية إلى أن( اللام) في (الحر) بدل عن الإضافة وفاء بحق التناسب والاتساق:( سرابيل تقيكم حركم وسرابيل تقيكم بأسكم ) وعندئذ يكون القرآن قد أشار إلى ما بيناه من وهم الناس حول دفء الثياب....

... قرآنا عجبا!!

خلاصة المسألة تقرير قاعدة عامة:

لا وجه بلاغي على حساب الصدق في كتاب الله.
 
بارك الله فيكم يا أبا عبدالمعز ونفع بك.
ليتني أعرف من هو أبو عبدالمعز !
فأنا من المحبين لما تكتب في غالبه، ومنذ بدأنا في هذا الملتقى قبل عشرين عاماً وأنا حريص على أن يكون المشارك معروفا باسمه ومؤهله العلمي ليكون الحوار مناسباً.

علم البلاغة كشأن بقية علومنا الإسلامية مر بمراحل حتى وصل لما وصل إليه، ولا تزال الحاجة مستمرة للتنقيح والتتميم والاستدراك، ولا غضاضة في ذلك عندما يصدر الاستدراك من أهله والمتضلعين منه ومن دقائقه.
وما ذكرتم فيه نقص من حيث التصور، فليست هذه المصطلحات التي ذكرتم بهذه السطحية والسذاجة ليمكن الاستدراك عليها بهذه السهولة.

فعبارةٌ مثل (أعذب الشعر أكذبه) ليست على ظاهرها، أنها تشجيع على الكذب، ودعوة لمجانبة الصدق، بل لها معنى عميق دقيق يشير إلى جمال الخيال في عالم الشعر، والمبالغة في الوصف، ونحو ذلك مما هو غير حقيقي في الواقع ولكنه جميل في التعبير عن المشاعر والأحاسيس.
ولم يقل أحدٌ من البلاغيين بجواز الكذب في القرآن، ولا أن المجاز يدعو للكذب، وللمدققين منهم قديماً وحديثاً في ذلك توجيه بديع، وفهم عميق.
والحديث في ذلك طويل، ولكن أحببت التنبيه على هذه النقاط مع سعادتي بما أوردتم من حيث الجملة، والبحوث في تجديد الدرس البلاغي كثيرة جدا وبعضها رصين عميق جدير بالتأمل والنظر.
 
"رأيت أسدا يرمي"

في العبارة استعارة ، ولهم لها تفسير يسمونه (إجراء الاستعارة).

ومقصودهم من الإجراء الكشف - بطريقة عقلانية - عما يحدث في نفس الإنسان عندما تقع عبارة "رأيت أسدا يرمي" سواء أكان ذلك الحدث النفسي في مرحلة الترميزأو عند فك الرمز...

بعبارة أوضح (إجراء الاستعارة) آلية تجيب على سؤال مزدوج :

ما الذي خطر في نية المتكلم عندما قال العبارة السالفة ؟

وما الذي خطر ببال المتلقي عندما تمثل العبارة ووعاها؟

لهم في المقام عبارات نمطية يرددونها من جنس :

"شبه (أ) ب (س) بجامع (ج) ثم حذف (أ أوس) على سبيل الاستعارة (ت أوم) ونصب في الكلام القرينة (ق) للدلالة على (أ أوس) المحذوفة...هذا هو إجراؤهم بثوابته ومتغيراته ولا مناص ...

فيزعمون أن الناطق بجملة "رأيت أسدا يرمي" قد شبه الرجل بالأسد بجامع الجرأة والشجاعة في كليهما ثم حذف الرجل على سبيل الاستعارة التصريحية ونصب في الكلام القرينة "يرمي" للدلالة على الرجل المحذوف....ولو كانت الجملة هي" لماذا تزأر في وجهي" لقالوا شبه الرجل بالأسد بجامع الجرأة والشجاعة في كليهما ثم حذف الأسد على سبيل الاستعارة المكنية وكني عنه بفعل (تزأر) الذي لا يكون إلا للأسود....

الإجراء نمطي سواء أكانت العبارة في بيت من الشعر أو في آية من الذكر الحكيم!!

هذا الإجراء مردود من وجهين على الأقل:

أولا لا يعقل أن يقلد المرء شخصا يقول له هذا ما دار في ذهنك عندما قلت أو سمعت "رأيت أسدا يرمي" إن الأمر موكول فقط إلى (الاستبطان) فمهما كان الطبيب ماهرا حاذقا خبيرا لا يستطيع أن يصورلك ما أنت تشعر به فتعلمه من كلامه ولا تعلمه من نفسك ! وعلى فرض إمكانه يلزم عنه أمر لا يقول به ذو عقل وهو أن (العلم الحصولي) أقرب وأدق من (العلم الحضورى) فتأمل!! سيكون لنا تفصيل - إن شاء الله- في ما بعد في هذه المسألة الهامة في البلاغة...

ثانيا إجراؤهم نقض لدعواهم فالقول (إن الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه ) يؤول إلى إنكار مجازية الاستعارة نفسها لأنهم مجمعون على أن التشبيه حقيقة، والاستعارة تشبيه كما قالوا في الإجراء ،إذن الاستعارة حقيقة! غاية ما في الأمر أن الطرفين ظاهران في التشبيه وأحدهما محذوف في الاستعارة والحذف والذكر لا يغيران شيئا من الماهية فضلا على أن يجعل من الطرفين ضدين (المجاز ضد الحقيقة في عرفهم)

نسألهم ما تقولون في كلمة "أسد" في مثالنا "رأيت أسدا يرمي" سيقولون مجاز

نسألهم ما تقولون في كلمة "أسد" في مثالنا "رأيت رجلا يشبه أسدا يرمي" سيقولون حقيقة

لكنكم في الإجراء اعتبرتم الجملة الثانية هي عينها الأولى بفارق حذف " رجلا يشبه" والحذف عرض طارئ لا يغير من الماهية شيئا...

ليس للمدافعين عن البلاغة الموروثة درء هذا التناقض إلا أن يقولوا إن إجراء الاستعارة من باب التعليم لا العلم، فهم يتسامحون في الإجراء لأن المقصود هو التوضيح والبيان فقط خاصة وأن كلام الشراح والمحشين موجه للمتعلمين بالقصد الأول ...

سنقول وكلام العلماء المنظرين هو نفسه لا يخلو من شوائب كما سنرى - بحول الله -.
 
هل يجوز إبطال القراءة الشاذة بالبلاغة؟

القراءة الشاذة ليست من القرآن ، ولكن لا يمنع الاستفادة منها كأن تكون مرجحا لتأويل على تأويل ، عند تكافؤالأدلة مثلا ، ولكن إذا ثبت بطلانها لم يجز استنباط حكم منها في ذاتها أو استفادة ترجيح في غيرها ، فهي في رتبة الحديث الموضوع. فهل في وسع البلاغة إثبات البطلان؟



لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة 128-129]

القراءة الشاذة « مِنْ أَنْفَسِكُمْ»

قال البغوي:

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ « مِنْ أَنْفَسِكُمْ» بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَفْضَلِكُمْ.

قال السمعاني:

قَوْله تَعَالَى: لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم.. قرىء فِي الشاذ: من أَنفسكُم، وَيُقَال: إِن هَذِه الْقِرَاءَة قِرَاءَة فاطمه - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: طلبت هَذَا الْحَرْف خمسين سنة فَلم أجد لَهُ رَاوِيا. وَمعنى هَذَا: أشرفكم وأفضلكم.

أورد جمهور المفسرين هذه القراءة الشاذة وأضافوا معانيها إلى معاني القراءة المتواترة... (ولكم سرني عدم ذكر إمامي التفسيرالطبري وابن كثير لها!) فلم يجد المفسرون غضاضة في الجمع ، فلا حرج أن يكون المراد جاءكم رسول منكم ومن أشرفكم جمعا بين العموم والخصوص...

لكن الجمع من منظور البلاغة غير وارد لأنه جمع بين الضدين!

فكيف كان ذلك:

ننبه أولا على منهج بلاغي نافع في تدبر القرآن يتمثل في استحسان الانتقال من الكل إلى الجزء على أسلوب شبيه بالاستنباط...فيتصور المقصد العام للسورة أو لمجموعة من الأيات ثم تتدبرالآيات آية آية على ضوء هذا المقصد العام.

وفي هذا المسلك فائدتان :

الأولى زيادة تيقن من فرضية المقصد العام.

الثانية لمس التآلف والتجانس بين الآيات على اعتبارها روافد مختلفة لكنها تتحد في وجهتها إلى مصب دلالي واحد.

ونعني ب (المقصد العام) وحدة الانطباع الذي تتركه مجموعة الآيات في النفس بمجرد تلاوتها،إ ولك أن تسميها الجو العام ،أو الموضوع ،أو الإطار وهي تسميات تقريبية غيردقيقة لأن المسمى أمر حدسي نفسي ... فتحس مثلا في مجموعة من الآيات جو الترغيب وفي أخرى جو الترهيب وفي أخرى جو الملاطفة والمؤانسة وغيرها...

المقصد العام في خاتمة سورة التوبة : (التودد والملاطفة)

لا شك أن سورة (التوبة) شديدة على المنافقين والمشركين ،ولهذه الشدة علل بعض أهل التفسير خلو السورة من البسملة ،لكن الله الرحيم أبى إلا أن يختم سورته بنبرة مختلفة فيها من اللين والملاطفة جمعا بين الترهيب والترغيب وبين الإنذار والبشرى ،كما تقرأ في سورة (القمر) مثلا مهلك الأمم عبر تاريخ البشرية فيتجلى لك الرب باسمه المنتقم حتى إذا شارفت نهاية السورة وجدت مشهدا مختلفا ولمسة هدوء ودعة مضادة لما سبق من أجواء الطوفان والزلازل والرياح والصياح:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : 55]

كأن السورتين (التوبة والقمر) تأخذان القارئ بالإجهاد والشدة حتى إذا آن الفراق ودعتا القارئ - من شفقتهما عليه- بلمسة حنان وعزاء وسلوان!

المقصد العام في خاتمة سورة التوبة التودد والملاطفة فلنتدبر الآن تجليات ومظاهر هذا المقصد في الأجزاء- وفق ما قررناه في القاعدة المنهجية السالف ذكرها-:

- الخطاب المباشر من تجليات التودد:

" لَقَدْ جَاءَكُمْ "

رب العزة من فوق سبع سماوات يقبل على الناس وفيهم عتاة الكفار والفجار ويخاطبهم لا بواسطة : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ (مع أن مضمون الآية نفسه تنصيص على أن الله لا يخاطب البشر إلا بواسطة رسول منه إليهم..).ولم يقل - مثلا- "قل لهم لقد جاءكم رسول"...بواسطة ،ولم يقل "لقد جاءهم رسول "...بتغييب.

فإن قلت لماذا غيبهم في قوله " فَإِنْ تَوَلَّوْا... "لم لم يقل "فَإِنْ تَوَلَّيتم"....

قلنا هنا مراعاة لأم القواعد في البلاغة – بل هي البلاغة نفسها- ألا وهي قاعدة (لكل مقام مقال... )

ألا ترى أنهم تولوا وأعرضوا فلن يكون جزاؤهم إلا الإعراض، فمن مقتضيات عزة الربوبية أن يقبل الله على المقبل ويعرض عن المدبر..

ومن مظاهر التودد تلك الصورة الممتلئة رحمة ورأفة للرسول صلى الله عليه وسلم:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

قوله " من أنفسكم" دعوة للأمن والطمأنينة فالأنسان مجبول على الخوف من الأجنبي وكرهه ،وعلى الارتياب من الغريب واجتنابه، ولقد رأينا الفرنسيين استحدثوا مصطلحا خاصا لهذا المعنى الشائع سموه ( xénophobie) من اليونانية العتيقة (xénos =الغريب phobos =الخوف غير المعقول) فالاطمئنان إلى الرسول كما يطمئن الإنسان إلى نفسه أو أهله...

ثم يواصل رب العالمين في تحسين صورة رسوله لقومه لعلهم يقبلون عليه :

"عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ"

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، فيما مضى.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ،فيما هو آت.

والظاهر أن الضمير يعود على عموم الكفار من العرب لأن المؤمنين منهم سيخصصهم بوصفين للرسول مجموعين - من غير عطف- "بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . "

فالتعاطف والحرص في اتجاه الكافرين ، والرأفة والرحمة في اتجاه المؤمنين... وفي كل ما تقر به الأعين وتطمئن إليه القلوب !

ثم انظر بعد ذلك إلى كيفية التعامل مع احتمال إعراضهم :

قال "فإن تولوا"... ولم يقل فإذا تولوا ، لأن (إن) تستعمل للنادر والمستبعد و(إذا) للشائع والمتوقع ، ففي العبارة إشارة إلى أن هذا الرسول بتلك المواصفات لا يعقل أن تنصرفوا عنه أو تصرفوا عنه....وعلى فرض وقوع ذلك لم يهددهم مباشرة ولم ينذرهم بالانتقام بل اكتفى بأن أمر رسوله أن يقول" فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "

ويفهم من الأية أن من سيسعي للإيذاء والانتقام ليس الرسول بل هم فيلتجئ الرسول إلى ربه ليحميه ....

هكذا اطردت الملاطفة إلى نهاية السورة.

هذه الملاطفه ستصبح أثرا بعد عين لو قال ( من أنفسكم) على القراءة الشاذة ...وجمع المفسرين بين دلالات المتواتر والشاذ جمع بين المتضادين لو كانوا يعلمون. فالآية تريد جمع الشمل وكسب القلوب أما الأية الشاذة فتسعي إلى تنفير الناس بإحياء النعرة وإشعال العصبية البغيضة فمعنى رسول من أنفسكم (بفتح الفاء) أن فيكم نفيس وخسيس وشريف ووضيع وأنكم لستم سواء بل متفاوتين على مدارج الشرف والحسب والنسب، فأنى تجتمع القلوب بما يذكرهم بالتفرقة وعدم التجانس! خاصة وأن العرب كانت شديدة الحساسية تجاه الانتساب ، بل كان بعضهم لا يرفض القرأن في نفسه ولكن يرفض الانتماءالقبلي للمنزل عليه :

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[الزخرف : 31]

كما رفضت اليهود ملك طالوت لنفس العلة

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 247]

الفروق الطبقية والعرقية والجنسية كانت دائما تحبط كل مساعي جمع الشمل وتأليف القلوب....

فلو قال رسول من أنفسكم بفتح الفاء لكان أول ما يولد في نفس العربي المشرك المتعصب هو الحسد وكفى بالحسد مضرما لنار الشر!

أو ليست القراءة الشاذة « مِنْ أَنْفَسِكُمْ» باطلة ...! الله أعلم.
 
البلاغة ثلاث فنون:

البديع ،علم المعاني، وعلم البيان.

أما الأول فلا فائدة كبيرة منه في تفسير القرآن،

أما الثاني فلا يستغنى عنه في تفسير القرآن،

أما الثالث ففي كثيرمن مباحثه نظر .

سوف نعرف هذه الفنون بطريقة تختلف قليلا عن النهج المدرسي الشائع فنقول :

الغاية من (علم البديع) الكشف عن جمال القول ، فيكون المقصد إمتاعيا محضا، ولما كان القول مكونا من لفظ ومعنى فقد التمسوا الجمال في المكونين معا فقسموا المحسنات قسمين: محسنات لفظية ومحسنات معنوية .

مباحثهم في هذا الفن موسومة بغلبة الكم على حساب الكيف، أكثروا من المعرفات والمصطلحات والتقسيمات فجاءت تصانيفهم أشبه ما تكون بالمعاجم ! فهي جمهرة من الكلمات المشروحة ولو رتبتها على حروف المعجم لحصلت على معجم كامل...في العلوم العادية تكون معاجمها مقربة من ذلك العلم لكن لا يتماهيان، أما في علم البديع فحسبك أن تنتهي من قراءة معجمه لكي تأتي على ذلك العلم برمته!

إنما قلنا لا فائدة كبيرة من علم البديع في تفسير القرآن لاختلاف المقاصد ..نعم ، إن القرآن جميل لكنه لم ينزل لإمتاع الناس بل نزل للشفاء والهداية، في حين يقتصر فن البديع على الإمتاع ...

ولقد نشأ علم البديع مواكبا لتحول الشعرمن الفطرة إلى الصناعة فكان الشاعر"العصري" يهدف لا إلى التأثير في القلوب أو إقناع العقول، بل يهدف إلى إبهارالمتلقي بذكائه اللغوي ...فجاء علم البديع يستجمع تلك الوجوه المبهرة ويسميها ويمعن في التشقيق والقلب : الإيغال، الجمع مع التقسيم، الجمع مع التفريق، الجمع مع التفريق والتقسيم، تأكيد المدح بما يشبه الذم ، تأكيد الذم بما يشبه المدح ، التتميم، تشابه الأطراف، مراعاة النظير، إيهام التناسب .....وغيرها كثير!

ولو قلت لعالم البديع

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)

فلن يمنحك إلا مصطلحات سيقول هنا طباق بين (الليل) و(النهار)، وطباق ثان بين( تجلى) و(يغشى)، ولما كان الطباقان متراكبين نسميهما (مقابلة) ولما كان التضاد مفردا بين (الذكر) و(الأنثى) نسميه (طباقا) ، فالآيات الثلاث قد قابلت أولا وطابقت ثانيا....وكل ذلك محسن معنوي....

لماذا قدم الليل على النهار؟ لماذا أخر الأنثى عن الذكر؟ لماذا قيد الليل بالمضارع "يغشى" وقيد النهاربالماضي "تجلي"؟

لن تجد الجواب عند البديعي فقد خرجت عن تخصصه فهو يصف ولا يعلل يصطلح ولا يفسر...ولك أن تنشد التعليل والتفسير عند أهل الفنين الآخرين من البلاغة.
 
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) [نوح :5 -9]

مثال تطبيقي على منهج تدبر الجزء على ضوء الكل - كما مر في خاتمة سورة براءة- :

المقصد العام في الآيات هو" تبرئة النفس"

ذلك لأن نوحا -عليه السلام- لبث في قومه يدعوهم لمدة تقترب من عشرة قرون ولم يؤمن به إلا القليل، بل لم تؤمن به امرأته ولا ابنه وهما يعيشان معه تحت سقف واحد !هذا الأمر قد يطلق فرضية مشروعة : لم لا يكون العيب في الداعية وليس في المدعوين .

فجاءت مرافعة نوح في الآيات دفاعا عن النفس مبرئا لها....

فلننظر في أجزاء الأيات :

إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا

من عادة القرآن تقديم الليل على النهار موافقة للترتيب التكويني ، فالظلمة أصل والنور طارئ ، فلو محيت الشمس- وهي آية النهار- لعادت الأرض إلى وضعها الأصلى الليل..لكن هذا الترتيب على ضوء المقصد الذي افترضناه ستكون له دلالة أخرى تقديرها : أنا ما فرطت في الدعوة، بل دعوت قومي في الليل قبل النهار...إن الليل قد جعله الله سباتا وسكنا لكنني من شدة الحرص جعلته زمنا للدعوة بدل النوم والخلود للراحة!

والترتيب على هذا التأويل له من القوة بحيث لو حذف النهار لكان مدلولا عليه رغم طيه بحسب دلالة قانون (الأولَى): إن كان يدعوهم ليلا فدعوته إياهم نهارا أولى!

ولو عكس الترتيب "نهارا وليلا" لما جاز الحذف، فلو حذف "ليلا" لما دل عليه شيء.

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا

"زادهم فرارا" يقتضي أن لا يكون فرارهم ابتداء بل كان ثابتا لهم من قبل فزادوا فيه الآن، تقديره بالترتيب:

1- دعاهم نوح

2- فروا

3- ثم دعاهم

4- فزادوا فرارا

فيفهم من ذلك أمر هام -على ضوء فرضية قراءتنا- إنه كان يلاحقهم !

دعاهم ففروا - ولو انقطعت الصلة لكان معذورا- لكنه من حرصه لحق بهم فزادوا فرارا فيستمرمسلسل الفرار والملاحقة....

والآن قد يقال" نعم دعوتهم بالليل والنهار، وفروا منك ولاحقتهم ، ولكن يجوز أنك ما أحسنت البيان فلم يفهموا عنك ... فليس على الرسل البلاغ فقط بل البلاغ المبين..."

الرد في الآية الموالية:

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)

لكي يعي المرء خطابا لا بد من ثلاث مراحل : فقبل الوعي لا بد من التدبر، وقبل التدبر لا بد من الاستماع ، وقبل الاستماع لا بد من السماع .

فالسماع أول خطوة، فإن توسمت في المسموع خيرا أصغيت وانتبهت، فذلك الاستماع ،ثم انصرفت إلى المستمع إليه بالتدبر والفهم ،فذلك الوعي ...ومن موروثنا عن فصحاء العرب قولهم في صدر الخطبة " ايها الناس اسمعوا وعوا "

قوم نوح لم يريدوا الوصول حتى إلى مرحلة السماع : جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ كي لا يسمعوا، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ كي لا يبصروا... فكيف يتهم داعيهم بسوء البيان والعي في البلاغ!

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)

التأكيد على عدم التقصير في الدعوة واضح لا يحتاج إلى بيان... نشير فقط إلى تناسب المبتدإ والمختتم : ذكرأولا استغراق زمن الدعوة (ليلا ونهارا ) وختم بذكراستغراق أحوال الدعوة (جهارا إعلانا وإسرارا)...ثم انتقلت الآيات إلى بيان مضمون دعوة نوح عليه السلام وذلك مقصد آخر.
 
علم المعاني يبحث في مطابقة الكلام لأمرين :

أ- مطابقة الكلام للذهن،

ب - مطابقة الكلام للواقع.



1- المطابقة الأولى هي بالضبط ما قصده عبد القاهر من مفهوم (النظم)..قال في الدلائل:

(إِنَّ الألفاظَ إذا كانتْ أوعيةً للمعاني، فإِنَّها لا محالةَ تَتَبْع المعاني في مواقعها، فإِذا وجَبَ لِمعنًى أنْ يكونَ أولاً في النفسِ، وجَب للفظ الدال عليه أن يكونَ مثْلَه أوَّلاً في النُّطق)

وقال:

(ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل، الفرق بين قولنا: «حروف منظومة»، و «كلم منظومة».

وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى ، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرّى في نظمه لها ما تحرّاه. فلو أنّ واضع اللغة كان قد قال: «ربض» مكان «ضرب»، لما كان في ذلك ما يؤدّي إلى فساد.

وأمّا «نظم الكلم» فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني، وترتّبها على حسب ترتّب المعاني في النفس.)

وقال:

(بان بذلك أنّ الأمر على ما قلناه، من أن اللّفظ تبع للمعنى في النظم، وأنّ الكلم تترتّب في النطق بسبب ترتّب معانيها في النفس، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرّد أصواتا وأصداء حروف، لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر، أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل، وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك. والله الموفّق للصواب.)

قد يتعجب قارئ الجرجاني من جهده وإلحاحه على تقرير أمر يبدو بدهيا ، إذ لا يشك أحد أن النظم في الكلام للمعاني لا للحروف، والنحاة مجمعون على أن الكلام هو القول المفيد، فلو كان الكلام هو مجرد تعاقب الأصوات على الأذن لما كان هناك فرق بين قصيدة الشاعر ونعيق الغراب، لكن العجب يزول لو تمثلنا المناخ الفكري التداولي في عصره ، وهو أمر غفل عنه جل المعاصرين الذين اهتموا بالجرجاني ونظرية النظم، فاعتقدوا أن نظرية النظم شأن نحوي- بلاغي محض ، ولم يخطر ببالهم أن نظرية النظم هي عينها نظرية (الكلام النفسي ) الأشعرية...وإلحاح عبد القاهر على أن اللغة معان لا أصوات هو صدى لذلك الصراع المعتزلي-الأشعري بصدد حقيقة الكلام أهو الكلام اللفظي أم الكلام النفسي...وهذا بين في قوله:

(...فإِذا وجَبَ لِمعنًى أنْ يكونَ أولاً في النفسِ، وجَب للفظ الدال عليه أن يكونَ مثْلَه أوَّلاً في النُّطق)

هاهنا ترتيبان في اللغة : ترتيب المعاني في النفس هو الأصل الأصيل، وترتيب الألفاظ في النطق وهو تابع للأول لا يستقل عنه...أليس هذا عينه التصور الأشعري للكلام؟ أليست حقيقة الكلام عندهم هو الكلام النفسي أي الترتيب الأول أما الثاني فهو عبارة عنه ولا يستحق أن يسمى كلاما إلا على سبيل المجاز؟ ومن ثم شاع عنهم - أو أشيع عنهم - أن القرآن المكتوب المقروء ليس كلام الله حقيقة وإنما هو عبارة عنه ،والكلام الحقيقي هو النفسي الذي لا ينفصل عن الذات ولا يتبعض ولا يتتالى...

لسنا هنا بصدد تقييم نظرية النظم على أساس عقدي فلسفي لكننا فقط نشير إلى جذور هذه النظرية التي لم ينتبه لها جل الباحثين...أما النظم كنظرية في البلاغة وتفسير لإعجاز القرآن- كما أراد لها صاحب النظرية – فهو المقصود عندنا فحسب بغض النظر عن الخلفية الكلامية....

2- المطابقة الثانية هي مطابقة اللغة مع الواقع ، وغني عن البيان أننا لا نقصد مفهوم الصدق ولكننا نقصد المطابقة مع ما يسميه أهل البلاغة"مقتضى الحال" ، وعلى هذا الأساس يقع الخطأ البلاغي على وجهين:

- أن لا تتطابق اللغة مع الفكركأن يحس المتكلم بمعنى ولكن لا يختار له اللفظ الملائم أو يأتي ترتيب الكلمات في النطق على نحو مغاير لترتيب معانيها في النفس – حسب عبارات عبد القاهر- كأن يفكر مثلا في إنسان يأكل الحوت فيقول أكل الإنسانَ الحوتُ (بنصب الأول ورفع الثاني) فما يفهم من العبارة مناقض لما تصوره وأراد من المتلقي أن يفهمه!

- الوجه الثاني من الخطإ البلاغي أن يأتي الكلام على غير مقتضى الحال - وإن طابق فكر المتكلم...- كأن يقول نكتة لإضحاك الناس في جنازة!

هذه المطابقة المزدوجة لتحديد علم المعاني ليس من اختراعنا فقد كانت حاضرة في المجال التداولي زمن تأسيس علم البلاغة فلو رجعت إلى مبحث الصدق والكذب – وهو بحث ضروري في البلاغة حينذاك لأن ضابط الجملة الخبرية احتمالها الصدق والكذب - فإنك تجد في آراء الجاحظ والنظام مثلا وعيا بهذه الازدواجية فهل الصدق هو المطابقة مع الواقع فقط - كما هو رأي الجمهور- أم هو المطابقة مع الفكر- أي المعتقد- فقط أم هو المطابقة مع الواقع والفكر معا...وهل الصدق والكذب متقابلان تقابل تناقض أم تقابل تضاد ، وهل هناك واسطة بحيث يجتمع الصدق والكذب في قول واحد أو ينتفيان معا ؟ ماذا لو رأى رجل شبحا من بعيد فاعتقد جازما أنه فرس فسأله صاحبه عنه فقال - وهو يريد إضلاله- ذلك رجل ثم تبين أنه رجل فعلا فهل صدق الرجل أم كذب؟

على كل حال مقصدنا من الإشارة إلى هذا الجدال الدلالة على وعي البلاغيين العرب بالتطابقين: الداخلي – مع الذات- والخارجي – مع الواقع.
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ : 1-2]

الترتيب ملفت للنظر ففي القرآن كله لا يتقدم الرحيم على الغفور إلا في هذه الآية!

ما السر؟

سنطبق مرة أخرى منهج تفسير الجزء على ضوء الكل

الترتيب في مطلع سورة سبأ ينبني على تقديم الأكبر والأوسع

1- قدمت السماوات على الأرض باعتبار اللفظ والمعنى معا فمن جهة اللفظ جمع السماء وإفراد الأرض ومن جهة المعنى السماوات أعظم من الأرض...وسنرى أنه سيقدم كل ما أصله سماوي على ما أصله أرضي

2- يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا قدم ما يلج في الأرض على ما يخرج منها لأن ما يلج أصله من السماء (ومعلوم أن كل ما عدا الأرض فهو سماء )الحركية من أعلى إلى أسفل ( يلج ) ومن أسفل إلى أعلى (يخرج)

3- وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا قدم ما ينزل على ما يعرج لأن ما ينزل أصله سماوي وما يعرج أصله أرضى....الحركية أيضا من أعلى إلى أسفل ( ينزل ) ومن أسفل إلى أعلى (يعرج)

4- وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ قدم الرحيم على الغفور مراعاة للاتساق العام فاتساع الرحمة أعظم من اتساع المغفرة لأن الرحمة تشمل كل حي، والمغفرة لا تشمل إلا المكلفين منهم، فيقال: "الله يرحم العصفور والإنسان "ولكن لا يقال" الله يغفر للعصفور والإنسان " لأن العصفور غير مكلف فيواخذ على ذنب اقترفه!

اشتملت الآيتان على سبع صفات علية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ= له الملك

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ = له الحمد

الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا = العليم

الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
 
البلاغة العربية والسفسطة

هل البلاغة العربية علم أصيل؟ أم هي مستوردة ضمن ما استورد من فلسفة ومنطق وجدال ؟

قد يقول بادي الرأي هذا السؤال غير متجه لأن الفصاحة والبلاغة شأن عربي محض فكيف يستوردون من غيرهم ماهم فيه متفوقون!

نقول هذا من الخلط الشائع بين اللغة والميتا- لغة، فمرادنا من علم البلاغة العلم بمبادئه ومصطلحه ومنجهه لا البلاغة باعتبارها ممارسة سليقية عند حادي العيس في شعره الذي يؤنس به نفسه أوفي أناشيد الأطفال أوفي خطب شيوخ القبائل...

التأثير الهيللني عند بلغاء العرب لا ينكر تجد ذلك عند القدامى منهم، كالجاحظ، الذي لم يقتصر على الاستشهاد بأقوال أرسطو وإفلاطون وإبقراط وغيرهم بل تمثل روح بلاغتهم وأنشأ نصوصا ورسائل بمقتضاها

لقد نشأت البلاغة اليونانية كوسيلة حجاجية إقناعية في الجدال ، وكان من ورائها أهل السفسطة، وكان ضابط أوج البلاغة عندهم أن تقنع الخصم بالقضية حتى إذا اقتنع بها أقنعته بنقيضها!

وعمت البلوى بهذا النهج ففكر خصوم السفسطة في علم يزاحمون بها بلاغة السفسطائيين فاخترعوا علم المنطق ، وهكذا وضع أرسطو الحدود الصارمة بين المتضادين والنقيضين......

ويبدو أن نهج بلاغة السفسطة قد استهوت الجاحظ فكان يروق له كثيرا الاستدلال على الشيء ونقيضه ، وترى ذلك جليا في فن أبدع فيه أبو عمرو أيما إبداع وهو (فن الخصومات) اقرأ له إن شئت رسائله في اختصام الشِّتاء والصيف، واحتجاج صاحب المعز والضَّأن وكتاب فخر السودان على البيضان وكتاب مُفاخرة الجواري والغلمان....فيقنعك بشتى الحجج المعقولة والمنقولة أن الجارية البيضاء أجمل من السوداء ثم يقنعك بعدها مباشرة بالمعقول والمنقول أن السوداء أجمل...!

وقد انتبه التلميذ ابن قتيبة إلى بلاغة السفسطة عند شيخه فكتب فيه نقدا شديدا قال في" تأويل مختلف الحديث" :

(ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلّمين والمعايَر على المتقدّمين، وأحسنهم للحجّة استثارة، وأشدّهم تلطّفاً لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج لفضل السودان على البيضان .....فتجده يحتجّ مرّة للعثمانية على الرافضة، ومرّة للزيديّة على العثمانية وأهل السنّة، ومرّة يفضّل عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - ومرّة يؤخّره.... )

هذا هو مذهب السفسطة بعينه في بلاغة اليونان....ونحن لا نشك في القيمة الفنية والإمتاعية لنصوص الجاحظ في هذا المجال ولكن ينبغي أن يبقى ذلك محصورا في عالم الترفيه والإمتاع والمؤانسة ولا يجوز للتعليل البلاغي السفسطائي أن يقترب من مضمار جدي كتفسير القرآن...ولكن من المؤسف أن تجد ذلك الوجه من التعليل عند ملتمسي بلاغة القرآن خاصة في تعليل العطف والترتيب ...نبين ذلك بمثال مصطنع:

"بعث الله محمدا وموسى وعيسى"

"بعث الله عيسى وموسى ومحمدا"

"بعث الله موسى ومحمدا وعيسى"

سيقول المعلل عن الجملة الأولى ألا ترى أن الله شرف خاتم المرسلين فبدأ بذكراسمه وذكر الاسم في البداية يعنى الاهتمام !

سيقول المعلل عن الجملة الثانية ألا ترى أن الله شرف خاتم المرسلين فأخرذكراسمه لكي يكون آخر ما يبقى في السمع ومسك الختام!

سيقول المعلل عن الجملة الثالثة ألا ترى أن الله شرف خاتم المرسلين فذكر اسمه في قلب الجملة وصميمها وليس في الطرفين...!

ومثل هذا التعليل كثير عند البلاغيين في تفسير الترتيبات والسلسلات : بدأ به لأهميته ،أخره لأهميته، وسطه لأهميته...فحيث كان فلأهميته ...سفسطة محض!

الترتيب في التنزيل محكم وينبغي أن يتدبركل ترتيب في خصوصيته ويجتبنب التعليلات الجاهزة النمطية .
 
هل يجوز إبطال القراءة الشاذة بالبلاغة؟

القراءة الشاذة ليست من القرآن، ولكن لا يمنع الاستفادة منها كأن تكون مرجحا لتأويل على تأويل، عند تكافؤالأدلة مثلا، ولكن إذا ثبت بطلانها لم يجز استنباط حكم منها في ذاتها أو استفادة ترجيح في غيرها، فهي في رتبة الحديث الموضوع. فهل في وسع البلاغة إثبات البطلان؟


لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة 128-129]

القراءة الشاذة « مِنْ أَنْفَسِكُمْ»

قال البغوي:

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ « مِنْ أَنْفَسِكُمْ» بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَفْضَلِكُمْ.

قال السمعاني:

قَوْله تَعَالَى: لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم.. قرىء فِي الشاذ: من أَنفسكُم، وَيُقَال: إِن هَذِه الْقِرَاءَة قِرَاءَة فاطمه - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: طلبت هَذَا الْحَرْف خمسين سنة فَلم أجد لَهُ رَاوِيا. وَمعنى هَذَا: أشرفكم وأفضلكم.

أورد جمهور المفسرين هذه القراءة الشاذة وأضافوا معانيها إلى معاني القراءة المتواترة... (ولكم سرني عدم ذكر إمامي التفسيرالطبري وابن كثير لها!) فلم يجد المفسرون غضاضة في الجمع ، فلا حرج أن يكون المراد جاءكم رسول منكم ومن أشرفكم جمعا بين العموم والخصوص...

لكن الجمع من منظور البلاغة غير وارد لأنه جمع بين الضدين!

فكيف كان ذلك:

ننبه أولا على منهج بلاغي نافع في تدبر القرآن يتمثل في استحسان الانتقال من الكل إلى الجزء على أسلوب شبيه بالاستنباط...فيتصور المقصد العام للسورة أو لمجموعة من الأيات ثم تتدبرالآيات آية آية على ضوء هذا المقصد العام.

وفي هذا المسلك فائدتان :

الأولى زيادة تيقن من فرضية المقصد العام.

الثانية لمس التآلف والتجانس بين الآيات على اعتبارها روافد مختلفة لكنها تتحد في وجهتها إلى مصب دلالي واحد.

ونعني ب (المقصد العام) وحدة الانطباع الذي تتركه مجموعة الآيات في النفس بمجرد تلاوتها،إ ولك أن تسميها الجو العام ،أو الموضوع ،أو الإطار وهي تسميات تقريبية غيردقيقة لأن المسمى أمر حدسي نفسي ... فتحس مثلا في مجموعة من الآيات جو الترغيب وفي أخرى جو الترهيب وفي أخرى جو الملاطفة والمؤانسة وغيرها...

المقصد العام في خاتمة سورة التوبة : (التودد والملاطفة)

لا شك أن سورة (التوبة) شديدة على المنافقين والمشركين ،ولهذه الشدة علل بعض أهل التفسير خلو السورة من البسملة ،لكن الله الرحيم أبى إلا أن يختم سورته بنبرة مختلفة فيها من اللين والملاطفة جمعا بين الترهيب والترغيب وبين الإنذار والبشرى ،كما تقرأ في سورة (القمر) مثلا مهلك الأمم عبر تاريخ البشرية فيتجلى لك الرب باسمه المنتقم حتى إذا شارفت نهاية السورة وجدت مشهدا مختلفا ولمسة هدوء ودعة مضادة لما سبق من أجواء الطوفان والزلازل والرياح والصياح:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : 55]

كأن السورتين (التوبة والقمر) تأخذان القارئ بالإجهاد والشدة حتى إذا آن الفراق ودعتا القارئ - من شفقتهما عليه- بلمسة حنان وعزاء وسلوان!

المقصد العام في خاتمة سورة التوبة التودد والملاطفة فلنتدبر الآن تجليات ومظاهر هذا المقصد في الأجزاء- وفق ما قررناه في القاعدة المنهجية السالف ذكرها-:

- الخطاب المباشر من تجليات التودد:

" لَقَدْ جَاءَكُمْ "

رب العزة من فوق سبع سماوات يقبل على الناس وفيهم عتاة الكفار والفجار ويخاطبهم لا بواسطة : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ (مع أن مضمون الآية نفسه تنصيص على أن الله لا يخاطب البشر إلا بواسطة رسول منه إليهم..).ولم يقل - مثلا- "قل لهم لقد جاءكم رسول"...بواسطة ،ولم يقل "لقد جاءهم رسول "...بتغييب.

فإن قلت لماذا غيبهم في قوله " فَإِنْ تَوَلَّوْا... "لم لم يقل "فَإِنْ تَوَلَّيتم"....

قلنا هنا مراعاة لأم القواعد في البلاغة – بل هي البلاغة نفسها- ألا وهي قاعدة (لكل مقام مقال... )

ألا ترى أنهم تولوا وأعرضوا فلن يكون جزاؤهم إلا الإعراض، فمن مقتضيات عزة الربوبية أن يقبل الله على المقبل ويعرض عن المدبر..

ومن مظاهر التودد تلك الصورة الممتلئة رحمة ورأفة للرسول صلى الله عليه وسلم:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

قوله " من أنفسكم" دعوة للأمن والطمأنينة فالأنسان مجبول على الخوف من الأجنبي وكرهه ،وعلى الارتياب من الغريب واجتنابه، ولقد رأينا الفرنسيين استحدثوا مصطلحا خاصا لهذا المعنى الشائع سموه ( xénophobie) من اليونانية العتيقة (xénos =الغريب phobos =الخوف غير المعقول) فالاطمئنان إلى الرسول كما يطمئن الإنسان إلى نفسه أو أهله...

ثم يواصل رب العالمين في تحسين صورة رسوله لقومه لعلهم يقبلون عليه :

"عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ"

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ، فيما مضى.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ،فيما هو آت.

والظاهر أن الضمير يعود على عموم الكفار من العرب لأن المؤمنين منهم سيخصصهم بوصفين للرسول مجموعين - من غير عطف- "بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . "

فالتعاطف والحرص في اتجاه الكافرين ، والرأفة والرحمة في اتجاه المؤمنين... وفي كل ما تقر به الأعين وتطمئن إليه القلوب !

ثم انظر بعد ذلك إلى كيفية التعامل مع احتمال إعراضهم :

قال "فإن تولوا"... ولم يقل فإذا تولوا ، لأن (إن) تستعمل للنادر والمستبعد و(إذا) للشائع والمتوقع ، ففي العبارة إشارة إلى أن هذا الرسول بتلك المواصفات لا يعقل أن تنصرفوا عنه أو تصرفوا عنه....وعلى فرض وقوع ذلك لم يهددهم مباشرة ولم ينذرهم بالانتقام بل اكتفى بأن أمر رسوله أن يقول" فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "

ويفهم من الأية أن من سيسعي للإيذاء والانتقام ليس الرسول بل هم فيلتجئ الرسول إلى ربه ليحميه ....

هكذا اطردت الملاطفة إلى نهاية السورة.

هذه الملاطفه ستصبح أثرا بعد عين لو قال ( من أنفسكم) على القراءة الشاذة ...وجمع المفسرين بين دلالات المتواتر والشاذ جمع بين المتضادين لو كانوا يعلمون. فالآية تريد جمع الشمل وكسب القلوب أما الأية الشاذة فتسعي إلى تنفير الناس بإحياء النعرة وإشعال العصبية البغيضة فمعنى رسول من أنفسكم (بفتح الفاء) أن فيكم نفيس وخسيس وشريف ووضيع وأنكم لستم سواء بل متفاوتين على مدارج الشرف والحسب والنسب، فأنى تجتمع القلوب بما يذكرهم بالتفرقة وعدم التجانس! خاصة وأن العرب كانت شديدة الحساسية تجاه الانتساب ، بل كان بعضهم لا يرفض القرأن في نفسه ولكن يرفض الانتماءالقبلي للمنزل عليه :

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[الزخرف : 31]

كما رفضت اليهود ملك طالوت لنفس العلة

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 247]

الفروق الطبقية والعرقية والجنسية كانت دائما تحبط كل مساعي جمع الشمل وتأليف القلوب....

فلو قال رسول من أنفسكم بفتح الفاء لكان أول ما يولد في نفس العربي المشرك المتعصب هو الحسد وكفى بالحسد مضرما لنار الشر!

أو ليست القراءة الشاذة « مِنْ أَنْفَسِكُمْ» باطلة ...! الله أعلم.
هذه القراءة التي أبطلتها هي من المشهور الموافق للعربية، الذي صح سنده، ووافق رسم المصحف، إلا أنها لم تتواتر فحكم عليها بالشذوذ، ومعناها صحيح، ولا يعارض القراءة المتواترة مطلقاً فهو من قريش ومن خيرة قريش نسباً وحسباً كما ثبت في أكثر من دليل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) رواه مسلم.
وقال القاضي عياض اليحصبي: (لا خلاف أنَّه أكرمُ البشر، وسيد ولد آدم ، وأفضل الناس منزلة عند الله ، وأعلاهم درجة ، وأقربهم زلفى ، واعلم أن الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً" انتهى من "الشفا) (1/165).
فلا يصح إبطال هذا المعنى بحجة وروده في قراءة شاذة، فكل معاني القراءات الشاذة صحيحة، ويستفاد منها في التفسير وفي الفقه، ولكن لا يُقرأُ بها في الصلاة. وقد صنف فيها العلماء وتناقلوها وذكروا توجيه معانيها.
 
علم البيان
هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد، في تراكيب متفاوتة في وضوح الدلالة عليه، بحيث تكون الدلالة في تركيب أوضح منها في تركيب آخر.

فتقول عن الرجل كريم

1- "الرجل بحر"

فتشبهه بالبحر وتلحقه به في هذا المعنى.

وتقول عن طريق الاستعارة

2-"رأيت بحرًا على فرس " فتشبهه بالبحر في الإفاضة، ثم تستعير لفظ البحر له .

3-وتقول عن طريق الكناية، : "هو كثير الرماد" فإن كثرة الرماد تدل على كثرة إحراق الحطب الدالة على كثرة الطبخ، وهذه تدل على كثرة الأكلة، وهذا دليل الجود، فكثرة الرماد حينئذ كناية عن الجود.

فهذه التراكيب الثلاثة تؤدي معنى واحدا هو الجود، وأول هذه التراكيب أوضح من الثاني في تأدية هذا المعنى، والثاني أوضح من الثالث.

هذا التعريف المتداول لعلم البيان ليس بمستقيم، فإن صح الحد وجب تغيير اسم المحدود وإن صح المحدود وجب تغيير الحد وهذا بيانه :

عبارة " الرجل كريم " هي درجة الصفرفي علم البيان، إذ هي- باتفاقهم- خالية من أي وجه من وجوهه، فليس فيها تشبيه ولا مجاز (=استعارة) ولا كناية ،ومعلوم أن هذه الوجوه الثلاث هي كل علم البيان.

غير أن عبارة " الرجل كريم " - من جهة أخرى- هي أوضح من غيرها، فتنشأ المفارقة التالية :

كلما توغلنا في علم البيان قل الوضوح، وكلما خرجنا منه ازداد الوضوح، حتى إذا خلا الكلام من أي وجه من وجوهه كان الوضوح في تمامه! أوليس الأجدر أن يسمى (علم المعمى) بدلا من علم البيان!

قد يقال الأمر اصطلاحي ولا مشاحة فيه وليس من الضروري أن يكون البيان بالمعنى الاصطلاحي دالا على البيان بالمعنى اللغوي ...ومع ذلك لنا اعتراض شديد على تصورهم للدلالة فهم يرونها متفاوتة في الدرجة ونحن نراها متفاوتة في النوع (كما سنبين بتفصيل ) فالفرق عندهم بين "الرجل كريم" و"الرجل بحر" فرق في درجة الوضوح فقط فالمعنى واحد غاية ما في الأمر أن العبارة الأولى تعطي المعنى مباشرة والثانية تعطى المعنى نفسه بطريق غير مباشر.لكن "كريم" في الواقع اللغوي لا ترادف "بحر" والمتلقي قطعا لا يتلقى ثنائية (كريم- جواد) كما يتلقى ثنائية (غيث- بحر)ولا تكافؤ بين عبارات" الرجل سخي" "الرجل بحر" "الرجل غيث" ،وحتى إذا فهمت الإشارة إلى الكرم من" بحر" فهي مفهومة ضمن معاني أخرى فيسأل عن تلك المعاني أهي مرادة أم لا فإن قالوا لا ضعف علم البيان فلن يعدو حينئذ كونه تغيير لفظ بلفظ وإن كانت مرادة ضعف التعريف المتداول الذي ينص على واحدية المعنى ....

علم البيان عندنا هو علم يقتدربه على تقديم المعنى المجرد في صورة حسية...

فلا يتعلق الأمر بتقديم معنى واحد في تراكيب متفاوتة من جهة الوضوح - كما قالوا - بل هو تجسيد المعنى في بنية حسية أو إنزال المعنى من العقل إلى الحس، وفي هذه الحال سيكون علم البيان بيانا بمعنى الكلمة ،لأن الإنسان يستأنس بما هو حسي أكثر من استئناسه بما هو عقلي. فكلمة " كرم" وإن كانت واضحة مفهومة لا يستطيع الذهن تخيلها عكس كلمة" بحر" التي هي قابلة للتخيل، فيستحضرها فضاءا ولونا وصوتا وحركة ، فيكون أثرها في النفس ورسوخها فيها من الشدة بحيث لا تقارن بأثر الكلمات المجردة من قبيل" جود سخاء كرم "...

وإذا شبه الكرم بالغيث بعد البحر لا نكون قدمنا معنى واحدا في تركيبين، بل عالمين تخييليين مختلفين : فمع الغيث يستشعر الرطوبة وحركة الغيم وارتباط السماء بالأرض ومع البحر تستشعرالروعة (بالمعنى الصحيح للكلمة أي الجمال الذي يخيف لا كما يستعملها جل الناس بمعنى الجميل فقط فيقول صاحب الأشهار عندنا أثمان رائعة فينفر الناس من حيث يريد إغراءهم! ) ومع الشعور بالروعة استحضار القوة والاتساع : فالماء هنا له هدير جارف مهدد، والماء في الغيث رقيق يلامس الجسد في حنو ورفق...."الرجل بحر"هو كرم في صورة القوة والسلطان، "الرجل غيث " هو كرم في صورة الرحمة والتودد...هذا هو علم البيان.
 
وظيفة "التقديم الحسي للمعنى" المنوطة بعلم البيان تحتاج إلى مصطلح يدل عليها فارتأينا أن نقترح (التمثل) مصطلحا

وهو مصطلح مقتبس من القرآن المبين:

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم : 17]

الصورة البشرية ليست دالة على الملك لاستحالة اتحاد الدال والمدلول، بل هي الملك نفسه في صورة حسية قابلة للادراك ، وقبل التمثل كان في صورة أخرى هي صورته الحقيقية التي لا يمكن للإنسان بمقتضى قدراته الإدراكية الطبعية أن يعيها كامل الوعي نعم هو يعلم معنى الملك لكن لا يستطيع تصوره إلا إذا تمثل في صورة بشرية فهاهنا فرق جوهري بين مرتبتي العلم والتصور(لا نقصد بالتصورهنا المعنى المنطقي) وبين مرتبتي المعنى والتمثل، وشأن علم البيان أن ينزل المعنى من سماء التجريد العقلي ويجعله مستأنسا يراه ويسمعه فالفرق نوعي وليس فرقا في درجة الوضوح كما يقدمه التعريف الموروث لعلم البيان.

ملاحظة :

استعملنا مصطلح التمثل وليس التمثيل لئلا يختلط بمصطلح التمثيل الذي هو نوع من أنواع التشبيه أو الاستعارة.
 
تقديم المعنوي في صورة الحسي هي البلاغة تحديدا وغاية، لذلك لن تجد في القرآن المبين ذلك النوع من التشبيه الذي يكون فيه وجه الشبه عقليا لأن هذا النوع حيدة عن البلاغة وضلال عن وظيفتها .الحسي معروف ومألوف فكيف يبين بالمجرد ؟وهل يلتمس الشيء عند فاقده؟ عبارة مثل " الأمل كالوردة " لها وجه بلاغي، لكن عبارة " الوردة كالأمل" - وأنت تقصد أن تقرب للمتلقي الوردة - فلغو بلاغي محض...

هكذا جاءت تشبيهات القرآن وأمثاله كلها صورا حسية، ولا نستثني تشبيه شجرة الزقوم:

إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات : 65]

نحن لا نعلم- قطعا- حقيقة رؤوس الشياطين لكن القرآن يخاطب المخيال البشري الجمعي، هذا وللناس صور نمطية عن الشيطان ، فالطفل الصغير عندما يشاهد رسما لكائن ذي ذيل وقرنين يمسك حديدة مسننة ومسهمه يعرف أنه الشيطان كما يعرف صورة سيارة أو هرة....ولا فرق نوعيا بين أثر الصورة الحسية على النفس سواء أكانت من المتخيل المستعاد أو من المتخيل المبتكر.

وفي تشبيه الطلع برؤوس الشياطين نكتة مفادها أن شجرة الزقوم لا يشبهها أي شيء مما ترون أو تسمعون في دنياكم إلا أن يخترع خيالكم ....بل إن هذا الخيال نفسه ليعجز عن تصور ما في الجنة من نعيم ! جاء في صحيح البخاري:

3244 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } .

ويدخل في قوله عليه السلام" وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" كل ما يفكر فيه من المجردات أو يتخيل من الحسيات والوهميات.
 
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم : 25]

كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا

الآية تلفت انتباه المتدبرإلى جهة الأسلوب ليكون محور الاهتمام (كيف قال) وليس (ماذا قال) فقط!

طرفا التشبيه الكلمة والشجرة ...وقبل أن تعرض الآية تفاصيل المشابهة قدمت إرهاصا بالتماثل بين الطرفين لفظا ومعنى:

لفظا : فالطرفان متجانسان صوتيا أربع حركات متتالية فساكن( ك ل م ت ن)- (ش ج ر ت ن)

معنى : فالطرفان موصوفان بوصف واحد "طيبة" مع الاتفاق في التأنيث...

الوصف في الكلمة يتعلق بالمسموع والمفهوم، فهي "طيبة" في السمع و"طيبة" في الذهن.

والوصف في الشجرة يدرك بثلاث حواس: " طيبة" في العين، و"طيبة" في الشم ، و"طيبة" في الذوق.

هناك تشابه آخر بين الطرفين- وهوتشابه كبير- يتعلق بالبنية: فتكوين الجملة مماثل لتكوين الشجرة. وتجد عند أصحاب (علم اللغة التوليدي) التمثيل المشجر للجملة قيد التحليل، وهذا التمثيل من ضروريات النحو التوليدي ( فهو يقوم عندهم مقام الإعراب عندنا). فجملة مثل: "صامت المسلمات "سيفرعونها فرعين، الفرع الأول "صامت" والفرع الثاني "المسلمات" ثم سيفرعون "صامت" فرعين( صام + ت )و"المسلمات" ثلاثة فروع (ال + مسلم + ات) وهكذا يستمرون في التفريع إلى أن يأتوا على كل مكونات البنية التركيبية ، ويرسمون الشجرة نازلة تيسيرا للكتابة ، فالكتابة من أعلى إلى أسفل(كما هو صنيع اليابانيين) أيسر من العكس ...ولو رسموا المشجر صاعدا لكانت الجملة شجرة بمعنى الكلمة!!

أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء

تركيب الجملتين يشعر بالاحتباك :الجار والمجرور"في السماء" دل على مقابله المحذوف في الجملة الأولى:" أصلها ثابت (في الأرض) وفرعها في السماء".

والخبر المحذوف متعلق شبه الجملة دل عليه مقابله الخبر المذكور في الجملة الأولى: "أصلها ثابت (في الأرض) وفرعها (متصاعد) في السماء". ويمكن تقدير" باسق" أو "سامق" أوغيرها مع استحسان أن يكون الخبر المقدر دالا على الحركة ليكون في مقابل" ثابت"، فإن الجمع بين ثبات الأصل وميس الأغصان يضفي على الشجرة مزيد جمال.

قال أبوحيان

يُرِيدُ بِالْفَرْعِ أَعْلَاهَا وَرَأَسَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ ذَا فُرُوعٍ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِلَفْظِ الْجِنْسِ.

قلت لعله لم يذكر الفروع لأنها ذاهبة في السماء ،فلا يصل إليها البصر...والصورة كلها بصرية لم يذكر العروق والجذور لأنها راسخة في الأرض لا تدركها العين ودل عليها وصف" ثابت" كذلك الفروع موغلة في السماء فلم يذكر منها إلا أولها، والانتقال السريع من الأصل إلى الفرع دال على طريقة الإنسان في إبصار الأشياء العالية فهو ينظر إلى الأصل ولكنه لا يتتبعه شبرا بشبر بل يرفع عينه بسرعة إلى حيث ينتهي في علاه ( كما يحدث عند رؤية برج أو ناطحة سحاب)

من خلال هذه الصفات يرجح أن تكون الشجرة هي النخلة.

أَصْلُهَا ثَابِتٌ

دعوة إلى النقد والاختبار ، فالثبات لا يدرك بالبصر المجرد، ولكن بتجربة الدفع ...وهذا يدل على أن الكلمة راسخة في الحق فادفعها بما تشاء واختبرها كما تشاء!

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا

الشجرة لها حضورقوي في المكان: في الأرض، وبين السماء والأرض، وفي السماء... عروقها راسخة في الأرض، وجذعها يملأ ما بين السماء والأرض، وفي السماء فرعها وثمارها....

ولها أيضا حضور قوي في الزمان تؤتي أكلها في كل فصل!
 
من بلاغة "الكلمة" و" الجملة "إلى بلاغة "المشهد "(اللوحة)



فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج : 45]

قدمت الآية معنى الهلاك بوجهين:

- بالتقرير في صدر الآية

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا

- بالتصويرفي عجزها

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

البئر معطوفة على القرية و(من) جارة لهما بتقدير :فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وكَأَيِّنْ مِنْ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ،فالجملتان متوازيتان وليست الثانية مدمجة في الأولى كما في الإعراب الضعيف .

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

تقدم لوحة بصرية يمكن بسهولة تمثلها في لوحة تشكيلية : فضاء شبه فارغ ينتصب فيها بناء شامخ وعلى مقربة منه (عن يمين أو شمال أو أمام البناء) بئر..

هذه اللوحة يفهم منها معنى الهلاك بنفسها مستقلة عن التقرير السابق...

السر كل السر في صفة مُعَطَّلَةٍ المسندة إلى بئر...دالة على أن البئرلم تستعمل منذ زمن (وقد يفهم هذا التعطيل بواسطة مؤشرات مثل دلو معطوب أو حبل مقطوع أو رافعة مكسورة...) والماء ليس مما يستغنى عنه أو مما لا يستعمل إلا لماما، فالقصر مهجوربلا أدنى شك.

وَالْقَصْرُ: الْمَسْكَنُ الْمَبْنِيُّ بِالْحِجَارَةِ ، وننبه هنا على خطإ في تحميل الكلمة دلالات إيحائية لم تكن لها في الأصل من قبيل الدلالة على الترف والشرف والملك ،وهي دلالات لازمة للقصور في الثقافة الغربية لكن القصر العربي ليس فيه شيء من ذلك، فهو فقط المبني بالحجارة، في مقابل الخيمة المنسوجة من الشعر والوبر،وسمي قصرا لأنه مقصور على صاحبه فلا يستطيع أجنبي أن يدخله بحكم البناء المحصن المرتفع والأبواب الموصدة، عكس الخباء الذي لا يجد الأنسان والحيوان مشقة في الدخول إليه...فالقصر- إذن- من المنع وليس من الترف.... مثلما يسمى المكان المخصص للنساء في المساجد ( مقصورة النساء) أي يمنع غيرهن من الصلاة فيها ولك أن تسميها قصر النساء فالمعنى واحد.

الْمَشِيدُ:

قيل: الْمَبْنِيُّ بِالشِّيدِ- بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَهُوَ الْجِصُّ: وَإِنَّمَا يُبْنَى بِهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْحَجَرِ لِأَنَّ الْجِصَّ أَشَدُّ مِنَ التُّرَابِ فَبِشِدَّةِ مَسْكِهِ يَطُولُ بَقَاءُ الْحَجَرِ الَّذِي رُصَّ بِهِ.

وقيل: رَفِيعٌ طَوِيلٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ شَادَ بِنَاءَهُ إِذَا رَفَعَهُ.

والمعنيان في الآية على الجمع لا على الاختيار لأنهما مقصودان في وقت واحد، فالقصور تتجلى قوتها وفخامتها في الأمرين معا شدة التماسك وامتداد الارتفاع ، وجاءت كلمة مشيد جامعة للمعنيين!

لكن لماذا ظل القصرقائما ولم يتهدم؟

هنا النكتة في بلاغة اللوحة:

لو كان القصر متهدما، أو آيلا للسقوط ، لكنا أمام "مشهد طللي" مألوف في ثقافة العرب.. والمشهد الطللي من شأنه أن يثير الشجن والحزن في ذاته بغض النظرعن ساكنيه فقد كان الشاعر العربي يستوقفه الطلل فيبكي وإن لم يكن على معرفة بمن كان فيه...وهذا الأسى – في الواقع- جبلي في الإنسان عند رؤيته لأي بيت خرب .

لكن الآية لا تريد عبرة ( بالفتح ) بل تريد عبرة (بالكسر) ، والقصر المشيد معين قوي على الاعتبار:

1- القصر ماثل أمام عين كل مبصر، فالاعتبارقائم ما كان القصرقائما.

2- القصر صالح للسكنى فهل كان صاحبه يخطر بباله يوم كان يشيده أنه يبنيه لغيره!

3- كان صاحب القصريفرغ جهده ليكون قصره قائما ثابتا بينما المشيد هو في نفسه ضعيف غير محصن فذهب هو وبقي القصربعده ...

4- من وهم الإنسان أن يرى خلوده في خلود ما يبني و ما يملك ، فيسقط حاله على حال الممتلك ، فتراه لا يفتأ يبحث عن مضاعفة الأرباح والاستزادة من الأموال تحقيقا لمعادلة وهمية : مال لا ينقضي يساوي عمر لا ينتهي...

يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة : 3]

نعم ما بنيته ليبقي سيبقى، لكنك أنت ذاهب ....!
 
من بلاغة الكلمة والجملة إلى بلاغة المشهد-2


فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ : 14]


المشهد هنا ليس في النص اللغوي كما سبق في مشهد (القصر والبئر) لكنه مشهد في مخيلة المتلقي ،فكل من تدبر الآية حق تدبرها لا بد أن تولد في مخياله هذا المشهد:

[ سلطان جالس على العرش في كامل الهيبة والأبهة،

بكفه صولجان،

وبين يديه أنفار من الجن مسخرون للصناعة والخدمة...]

لماذا تمثلناه جالسا على العرش؟

لأن الأوضاع الأخرى- بالاستقراء- لا تستقيم مع مؤشرات الآية:

- فلو كان واقفا لخر لحظة موته خاصة وأنه قد مر زمن بين موته واكتشاف الحقيقة:

" لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ"

فلا يقال" لبث " إلا لزمن معتبر لا للحظة خاطفة.

- ولو كان مضطجعا لكان فعل" خر" لغوا - فضلا عن كون وضع الاضطجاع لا يتناسب مع سلطة المراقبة وترهيب مردة الجن..-

- لو كان قاعدا لم يناسبه الاتكاء على المنسأة.

فلا يصح إلا وضع الجلوس على العرش فهو أليق بالأبهة كما أن الاتكاء على المنسأة حافظ للتوازن فيستغرق الوضع مدة...

...ثم الله يضع سره في أضعف خلقه:دابة الأرض....فهي بطلة المشهد بدون منازع لأنها أنهته!

بعثها الله فبدأت تأكل المنساة...ولا بد للأرضة من وقت لتنخر العصا حتى إذا سقطت العصا سقط متكؤالملك ففقد توازنه وخر على الأرض...فكانت العبرة العظمى:

مردة الجن لا يستطيعون أن يعلموا أو يخمنوا موت مهينهم الذي يذيقهم العذاب الشديد إلا بتوسط حشرة حقيرة....فليعتبر الإنسي الذي يعوذ بالجني!!
 
عودة
أعلى